قد لا يمر يوم من دون أن نسمع أو نقرأ أخباراً عن حرائق وفيضانات وجفاف وغيرها من الظواهر الناتجة عن التغير المناخي وفقدان التنوع البيولوجي والتلوث، وعلى الرغم من الجهود التي تبذلها الدول لتعزيز كفاءة الطاقة والتحول إلى المصادر المتجددة، فإن الأمر يتطلب تغيير طريقة صناعة المنتجات والمواد واستخدامها، واعتماد نهج الاقتصاد الدائري لإطالة عمر المنتجات وتقليل النفايات.
ما أهمية الاقتصاد الدائري للكوكب؟
تكمن جذور المشكلة في الطريقة غير المستدامة التي يعمل بها الاقتصاد العالمي، والتي تُسمى بالنموذج الخطي المبني على استخراج المواد الخام من الطبيعة، وتحويلها إلى منتجات غالباً ما تُستهلك بسرعة، ومن ثم التخلص منها كنفايات، ما يشكل ضغطاً هائلاً على الموارد المحدودة، ويزيد من انبعاثات غازات الدفيئة والنفايات والتلوث.
ومع ازدياد عدد سكان العالم وانضمام أكبر عدد من البلدان الفقيرة إلى قائمة البلدان المتوسطة الدخل، زاد الطلب على المنتجات واستهلاك المواد والطاقة ما أدى إلى تسريع عجلة التصنيع دون الأخذ بعين الاعتبار التأثيرات البيئية والاجتماعية، فخلال العقدين الماضيين، ارتفع استهلاك المواد عالمياً بأكثر من 65% ليصل إلى 95.1 مليار طن متري في عام 2019؛ أي بزيادة أكثر من ثلاثة أضعاف منذ عام 1970، وقد يتضاعف مرة أخرى بحلول عام 2050، ما سيكون له تأثير كبير على المناخ، إذ يتسبب استخراج المواد ومعالجتها وتصنيعها واستخدامها بإطلاق 70% من انبعاثات الغازات الدفيئة العالمية، كما يُعزى 90% من فقدان التنوع البيولوجي إلى استخراج الموارد الطبيعية واستخدامها على نحو غير مستدام، وكذلك الطريقة التي يدار بها النشاط الاقتصادي التي يغلب عليها الإنتاج الجائر والاستهلاك المفرط.
يُنذر هذا الواقع بوجود خطر كبير ويزيد من احتمالية تجاوز الحد الأقصى المستهدف لحرارة الأرض وهو 1.5 درجة مئوية في غضون خمس سنوات فقط، لذا من المهم الانتقال سريعاً إلى الاقتصاد الدائري، الذي يقلل من التأثير البيئي للأنشطة الاقتصادية وإحكام غلق حلقة سلسلة القيمة لتقليل مخلفات التصنيع.
تقليل الانبعاثات وخلق وظائف جديدة
تتوضح طبيعة العلاقة بين النشاط الاقتصادي الضار بالبيئة وبين المشاكل المناخية اليوم بصورة أكبر، وأصبحت الاعتبارات البيئية في صلب التفكير التنموي أكثر من أي وقت مضى، وبالتالي بقاء استهلاك المواد في الحدود الآمنة، سيتطلب الانتقال إلى الاقتصاد الدائري.
إذ يعمل نموذج الاقتصاد الدائري على تغيير أنماط إدارة الموارد والقيام بالأعمال التجارية بطريقة صديقة للبيئة، بدءاً من التصميم ومروراً بالتصنيع حتى التوزيع ووصولاً إلى مرحلة التخلص من النفايات، الأمر الذي يساعد على الحد من تأثير تغير المناخ، إذ يمكن أن تؤدي إعادة تدوير النفايات، والحفاظ على المواد قيد الاستخدام، وتجديد الأراضي الزراعية إلى تقليل انبعاثات الغازات الدفيئة بمقدار 9.3 مليارات طن.
وسيسهم تنفيذ استراتيجيات الاقتصاد الدائري في جميع القطاعات في الحد من انبعاثات الكربون بنسبة 45% بحلول عام 2030، وتحقيق الحياد الكربوني بحلول عام 2050، ومن جهة أخرى، ستخلق أنشطة الاقتصاد الدائري 6 ملايين فرصة عمل على مستوى العالم بحلول عام 2030، بحسب منظمة العمل الدولية.
بالتالي، يحتاج الحد من الانبعاثات ومواجهة التغير المناخي إلى إعادة النظر في الاستهلاك والإنتاج غير المستدامين داخل القطاعات الكبرى مثل الصناعة، والمباني والتشييد، والزراعة، على سبيل المثال، يمكن تقليل الانبعاثات الناتجة عن مواد البناء بنسبة 38% بحلول عام 2050، من خلال إعادة استخدام مواد البناء وإعادة تدويرها، وتقليل النفايات.
ويمكن أن تسهم ممارسات الزراعة المستدامة، والقضاء على هدر الطعام من خلال استخدام مكونات أفضل ومُعاد تدويرها، في خفض انبعاثات النظام الغذائي إلى النصف بحلول عام 2050. أيضاً لصناعة الأزياء تأثيرات سلبية على البيئة، إذ توّلد أكثر من 90 مليون طن من النفايات سنوياً، وانبعاثات كربون تتراوح بين 2% و10% من الانبعاثات العالمية، وهو ما يفوق بحسب شركة ماكنزي آند كومباني (McKinsey & Company) انبعاثات فرنسا وألمانيا والمملكة المتحدة مجتمعة، لكن تطبيق الممارسات المتجددة لإنتاج القطن العضوي والألياف الطبيعية الأخرى سيضمن ملابس ذات جودة أعلى وأكثر أماناً لصحة المستهلكين والبيئة.
هذا يقودنا إلى حقيقة مفادها أنه مع تصاعد التهديدات المناخية وتواتر الكوارث الطبيعية على نحو غير مسبوق، لم يَعدْ تعزيز كفاءة الطاقة والتحول إلى الطاقة المتجددة الذي لن يعالج سوى 55% من الانبعاثات العالمية هو الحل المستدام الوحيد، وأنه يمكن توظيف منهج الاقتصاد الدائري في عدد من القطاعات المختلفة، من الأزياء إلى البناء، للإسهام في القضاء على النفايات والتلوث والحد من انبعاثات الغازات الدفيئة عبر سلسلة القيمة، وإعادة استخدام المنتجات والمواد وإعادة تدويرها والحفاظ على قيمتها لأطول فترة ممكنة.
تحديات التحول إلى النموذج الدائري
إن رحلة التحول إلى الاقتصاد الدائري يتخللها عدة تحديات، منها:
- عدم وعي الشركات والحكومات بإمكانات الاقتصاد الدائري وفوائد ممارساته، خاصة بالنسبة للمناخ والتنوع البيولوجي، وهذا بدوره يُضعف تطبيق استراتيجية تبنّيه إن وجدت.
- غالباً ما تكافح الشركات، وخاصة الصغيرة والمتوسطة الحجم، والمنظمات والجهات الفاعلة الأخرى، من أجل الحصول على التمويل الكافي للتحول من نماذج الأعمال الخطية إلى الدائرية، فمثلاً قد يحتاج المزارع الصغير إلى ثلاث سنوات لينتقل من إنتاج القطن التقليدي إلى إنتاج القطن العضوي، كما أن المسألة لا تقتصر على التمويل فحسب، بل تستغرق عملية التحول وقتاً في التدريب ونقل المعرفة.
- يصعُب أحياناً تقييم تأثيرات ممارسات الاقتصاد الدائري حتى لو كان تنفيذها أو تعميمها أسهل، إذ يُعد تتبع انخفاض انبعاثات النطاق 3، وهي الانبعاثات الناتجة عن الأصول أو الموارد غير المملوكة للشركة أو التابعة لها بشكل مباشر، أمراً صعباً بسبب الافتقار إلى الشفافية في سلاسل التوريد، وعدم التعاون مع الأطراف المشاركة فيها.
تتطلب مواجهة هذه التحديات جهوداً فاعلة من جميع الأطراف، إذ يجب على الشركات اتخاذ قرارات ذكية ومبتكرة حول كيفية تصميم المنتجات والخدمات وبيعها، وينبغي على الحكومات توفير البنية التحتية والسياسات اللازمة للتحوّل إلى الاقتصاد الدائري، وتصميم أدوات تمويل جديدة، مثل السندات الخضراء والتمويل المختلط.
إن محدودية الموارد، وعدم توافق مستويات الاستهلاك مع متطلبات التنمية المستدامة لا يساعد المجتمعات على الاستمرار، ما يضعنا أمام ضرورة الانتقال إلى النموذج الدائري لبناء منظومة اقتصادية أكثر عدلاً وشمولية، تدرك قيمة الموارد الطبيعية وأهمية الحفاظ عليها للأجيال المقبلة.