كيف تعزز استراتيجيات الاتصال الرقمي للمؤثرين التنمية المستدامة؟

6 دقيقة
الاتصال الرقمي
shutterstock.com/lefthanderman

شهد العصر الرقمي صعوداً قوياً في تأثير الشخصيات على مواقع التواصل الاجتماعي التي تمتلك القدرة على تشكيل الرأي العام وسلوك المستهلكين والحركات الاجتماعية. وفي خضم الثورة الرقمية وما يصاحبها من تحديات التنمية المستدامة، تغيرت ديناميكيات التأثير جذرياً، متجاوزة طرق الاتصال التقليدية.

على سبيل المثال، تظهر الأبحاث الحديثة فعالية ملحوظة للمؤثرين الرقميين في تعزيز الوعي البيئي، فوفقاً لدراسة شاملة أجرتها شركة يونيليفر بالتعاون مع شركة بيهيفيورال إنسايتس تيم، أفاد 78% من الأشخاص بأن للمؤثرين التأثير الأكبر على خياراتهم البيئية اليوم، متفوقين على وسائل الإعلام التقليدية مثل الوثائقيات التلفزيونية (48%) والحملات الحكومية (20%).

وعليه، لم يعد التأثير مجرد عملية إعلامية بسيطة، بل أصبح نموذجاً معقداً يتطلب فهماً عميقاً لديناميكيات المنصات الرقمية وسلوك الجمهور، ولا سيما مع هيمنة الخوارزميات على تدفق المعلومات وتشكيل الرأي العام. يكشف هذا المقال، الذي يعرض النتائج الرئيسية لبحث "أثر استراتيجيات الاتصال الرقمي للمؤثرين في تعزيز التنمية المستدامة: لبنان والإمارات العربية المتحدة نموذجاً"، عن حاجة ماسة لإعادة تعريف "القوة الناعمة" التقليدية في هذا العصر الرقمي، فقد أصبح المؤثرون جزءاً لا يتجزأ من استراتيجية رقمية تتفاعل فيها قوى وعوامل متعددة لتحقيق تأثير تنموي مستدام.

ويمكن فهم فعالية تواصل المؤثرين من خلال نظريات تغيير السلوك المعروفة، حيث وجدت أبحاث تطبق نظرية السلوك المخطط أن مصداقية المؤثر تؤثر تأثيراً كبيراً على جميع أنواع الاستهلاك المستدام: المعرفي والعاطفي والسلوكي، وأكدت أن مصداقية المؤثر تتوسط العلاقة بين أهمية المؤثر والاستهلاك المستدام.

ومن هنا، نقدم مفهومنا الجديد: "القوة الناعمة المركبة" بوصفه إطاراً استراتيجياً للقادة لضمان تأثير تنموي فعال ومستدام.

 مفهوم "القوة الناعمة المركبة" وأبعاده الاستراتيجية

تعرف "القوة الناعمة المركبة" بأنها التكامل المتناغم بين الخطاب المؤسساتي وديناميكيات المنصات الرقمية والفهم الدقيق لاحتياجات الجمهور وتطلعاته. ضمن هذا الإطار، يتجاوز المؤثرون الرقميون مجرد شخصيات ذات متابعة واسعة ليصبحوا جزءاً أساسياً من الاستراتيجيات المؤسساتية المتكاملة التي تسهل التدفق الفعال للرسائل التنموية وتحفز الشراكات.

لتطوير هذا المفهوم وتثبيت ركائزه الاستراتيجية، تبنى بحثنا منهجية وصفية تحليلية. أجرينا 35 مقابلة شبه منظمة مع مجموعة مختارة من أصحاب المصلحة، شملت 13 مؤثراً رقمياً بارزاً (7 من لبنان و6 من الإمارات العربية المتحدة). ميزة هذه العينة هي أن 80% من هؤلاء المؤثرين مصنفون قادة رأي مخضرمين انتقلوا بنجاح من وسائل الإعلام التقليدية إلى التأثير الرقمي على منصة إنستغرام. غطى البحث سياقين متناقضين: الإمارات العربية المتحدة، نموذج الدعم المؤسساتي القوي والتكامل التنموي، ولبنان، الذي يواجه تحديات هيكلية تؤثر على البيئة الرقمية.

إطار "القوة الناعمة المركبة": تحليل الأبعاد، والتفاعل، وقياس الأثر

يقدم بحثنا نموذجاً تحليلياً متكاملاً ثلاثي الأبعاد، يجمع بين الأبعاد المؤسساتية (البيئة التنظيمية والداعمة)، والتجارية (التحديات والفرص الاقتصادية)، والرقمية (ديناميكيات المنصات والجمهور). تكمن فعالية "القوة الناعمة المركبة" في التفاعل الديناميكي بين هذه الأبعاد، إذ لا يمكن تحقيق التأثير المستدام إلا بتكامل هذه الأبعاد. ضمن البعد الرقمي، يسلط "النموذج التشاركي الدائري" الضوء على دور الجمهور بوصفه مشاركاً محورياً في إنشاء المحتوى ونشره، متجاوزاً دوره بمجرد تلقي المعلومات. لتقييم التأثير الحقيقي لهذه القوة، يتجاوز قياس عائد الاستثمار المؤشرات التقليدية ليشمل مؤشرات الأداء الرئيسية المعنية بعمق التفاعل، والوصول، والأهم من ذلك، التغيير السلوكي الفعلي للجمهور نحو أهداف التنمية المستدامة.

في هذا السياق، تبين الدراسات أن التأثير الأكبر يحدث عندما يتوجه المؤثرون إلى جمهور لم يتبن بعد المواقف البيئية؛ أي أنه كلما زاد الاختلاف بين القيم البيئية للمؤثر والجمهور، زاد الأثر. ما يعني أن دور المؤثر لا يكمن فقط في تأكيد القيم، بل في تحفيز التحول السلوكي لدى الفئات الأقل وعياً.

وفي بحثنا توصلنا إلى أن 100% من المؤثرين الإماراتيين يؤمنون بفعالية استراتيجيات المحتوى التنموي، مقارنة بـ 70% من نظرائهم اللبنانيين، ما يؤكد تبايناً أساسياً في مستوى الثقة واعتماد هذا النهج الاستراتيجي في البيئات المدروسة.

الاعتبارات التجارية والأخلاقية: وقود "القوة الناعمة المركبة"

تمثل الاعتبارات التجارية تحدياً مزدوجاً للتأثير التنموي الرقمي؛ فهي توفر التمويل ولكنها قد تخضع المحتوى لـ "ضغوط السوق" التي يمكن أن تقلل من مصداقيته. في الإمارات العربية المتحدة، يعزز التنظيم استراتيجيات "المؤثر الشريك"، حيث ناقش 70% منهم التحديات الأخلاقية والقانونية. في لبنان، تنتشر "ضغوط السوق"، وأعرب 80% من المؤثرين عن مخاوفهم بشأن الترويج لمحتوى غير لائق.

لتحقيق نجاح طويل الأمد لـ "القوة الناعمة المركبة"، يجب تحقيق توازن بين الربح والمسؤولية الأخلاقية، مع إعطاء الأولوية للثقة وسمعة العلامة التجارية، وذلك من خلال وضع تشريعات واضحة تنظم المحتوى المؤثر وتقديم تمويل مستقل من الجهات التنموية وإنشاء مدونات سلوك أخلاقية للمؤثرين وقياس المصداقية بوصفها أحد مؤشرات الأداء الرئيسية.

المؤثرون الإماراتيون: دعائم "القوة الناعمة المركبة" من منظور استراتيجي

يعكس المؤثرون الإماراتيون، وفقاً لتحليل 6 من المؤثرين الذين قابلناهم، نموذجاً قوياً ومنظماً لـ "القوة الناعمة المركبة". ينبع هذا النجاح من التفاعل الاستراتيجي بين بيئة مؤسساتية داعمة والتطور المهني للمؤثرين. يتميز هؤلاء المؤثرون بخبرة إعلامية متراكمة تمتد لعقود. وقد برز دورهم بوصفهم "صانعي محتوى مؤسسيين" و"مقدمين خبراء"، حيث أشار اثنان من الذين قابلناهم صراحة إلى أن المؤسسات تعتبر المؤثرين قنوات إعلامية مباشرة وتخصص ميزانيات منفصلة لإنتاج المحتوى الخاص بهم. يكمن جوهر عمل المؤثرين في التركيز على محتوى هادف عالي الجودة وذي قيمة؛ فهم يعتمدون المصداقية والتأثير الحقيقي معياراً أساسياً. إضافة إلى ذلك، يسلط اثنان من المؤثرين الستة الضوء على ربط المحتوى التنموي بالقيم الإسلامية ورؤية الأب المؤسس لدولة الإمارات العربية المتحدة، ما يعكس ارتباطاً ثقافياً وقيمياً عميقاً.

تعد البيئة المؤسساتية الإماراتية داعماً أساسياً لهذا النموذج من خلال الاستثمار الاستراتيجي في "صناعة المؤثرين" وتأهيلهم، فهي توفر بنية تحتية رقمية متقدمة ودعماً مالياً وتقنياً بالإضافة إلى إطار تشريعي واضح.

المشهد اللبناني: تحديات هيكلية ونماذج صمود رائدة

يقدم مشهد التأثير الرقمي اللبناني نموذجاً فريداً يختلف اختلافاً جوهرياً عن الأطر الإقليمية والعالمية الأكثر تنظيماً. إنه نتاج تفاعل معقد بين احترافية المؤثرين والتحديات الهيكلية العميقة التي يواجهونها. على عكس المؤثرين الذين ظهروا فقط من الفضاء الرقمي، فإن غالبية المؤثرين اللبنانيين الذين شملهم الاستطلاع يتراوحون بين صحفيين مخضرمين ذوي خبرة تمتد لعقود في الإذاعة والتلفزيون وخبراء اقتصاديين وفنانين مشهورين وصحفيين حائزين جوائز وحتى أخصائيي الأسنان الذين تحولوا إلى صانعي محتوى متخصصين. تضفي هذه الخلفيات المتنوعة على محتواهم أصالة ومصداقية استثنائية، ما يدفعهم إلى إنتاج محتوى هادف يتناول القضايا الوطنية والإنسانية الملحة، ويسعى إلى تصحيح الصورة النمطية عن لبنان، أو يبسط المفاهيم المعقدة للجمهور.

ومع ذلك، فإن هذا الفضاء لا يخلو من الفوضى، كما يشير المؤثرون أنفسهم، حيث تتسارع الرغبة في الشهرة على حساب الجودة والمحتوى، مع وجود ما يقدر بنحو 20% فقط من الحسابات على المنصات الرقمية تتمتع بالجدية والمصداقية، ما يسلط الضوء على الحاجة الملحة لمعايير تنظيمية لضمان جودة المحتوى ومصداقية المؤثرين في بيئة تفتقر إلى الأطر القانونية الواضحة والداعمة.

تعمل "القوة الناعمة المركبة" في لبنان بطريقة مجزأة وغير منهجية، ويرجع ذلك في المقام الأول إلى غياب الدعم المؤسساتي الفعال والتشريعات الرقمية الواضحة. تشير البيانات إلى أن 70% فقط من المؤثرين اللبنانيين لديهم استراتيجيات محتوى رقمي واضحة، ويركز 50% منهم بصورة أساسية على أهدافهم الشخصية والمهنية، بينما يواكب 40% فقط التحول الرقمي السريع، ما يعكس ضعف التنسيق والتركيز الموحد. على الرغم من هذه التحديات، يبرز مؤثرون رائدون يشكلون جسراً حيوياً بين وسائل الإعلام التقليدية والعالم الرقمي، يتميزون باستقلالهم المالي والرمزي، ما يمنحهم حرية تحريرية أكبر لإنتاج محتوى جريء ومتخصص. تتيح لهم هذه المرونة تشكيل "تحالف رقمي عابر للمنصات" لإنتاج خطاب عربي مشترك يعزز الوعي التنموي ويصل إلى جمهور عالمي، وبالتالي يتجاوز حدود البيئة المحلية المضطربة. ونتيجة لذلك، ظهرت القوة الناعمة اللبنانية بسبب القدرة الفردية على الصمود والتأثير، على الرغم من الموارد المحدودة، بدلاً من أن تكون جزءاً من استراتيجية وطنية منسقة.

بناء مستقبل التأثير المستدام

أدركت المؤسسات الدولية، وعلى رأسها الأمم المتحدة، أن المؤثرين الرقميين باتوا ركيزة أساسية لتحقيق أهداف التنمية المستدامة خصوصاً في سياق الأجندة العالمية 2030. وبحسب الأبحاث، فإن الشركات وصانعي السياسات والمدافعين عن الاستدامة يجب أن يستفيدوا من منصات التواصل الاجتماعي لزيادة المشاركة والتأثير الاجتماعي والوعي الرقمي لتعزيز السلوكيات المستدامة. على سبيل المثال، يعد تطوير أدوات لقياس البصمة الكربونية لحملات التسويق عبر المؤثرين تقدماً مهماً في التواصل الرقمي المستدام، حيث تتيح أداة حساب البصمة الكربونية من كولسكوير، التي طورت بالشراكة مع خبراء المناخ "سامي"، للعلامات التجارية والمبدعين تقييم الانبعاثات الناتجة عن جوانب مختلفة من التسويق عبر المؤثرين، بما في ذلك استهلاك الطاقة للمنصات والسفر وشحن المنتجات والإنتاج الرقمي.

ومن جهة أخرى، خلقت وسائل التواصل الاجتماعي وعياً بنسبة 78% لدى الجيل زد و61% لدى جيل الألفية، ما يبرز أهمية استهداف الفئات العمرية الشابة من خلال استراتيجيات منصات مناسبة وتحسين التواصل عبر قنوات متعددة.

كما أبرز بحثنا أهمية الانتقال من نموذج "المؤثر الفرد" إلى نموذج "الشبكة الاستراتيجية"، حيث تبنى شراكات بين المؤثرين والمؤسسات والمجتمع المدني لإنشاء حملات مستدامة تتجاوز الطابع الشخصي وتخاطب جمهوراً واسعاً بقيم موحدة.

وبناءً على ما سبق يحتاج توجيه الوعي الجمعي نحو ممارسات أكثر مسؤولية إلى:

  • دعم الشراكات المستدامة بين المؤثرين والمؤسسات الحكومية والخاصة.
  • تطوير محتوى عالي الجودة يستند إلى البيانات والواقع المحلي.
  • إدماج أدوات القياس البيئي والاجتماعي في استراتيجيات المحتوى.
  • تحسين التشريعات لضمان الاستقلالية والمصداقية.

لقد أعاد المشهد الرقمي تشكيل ديناميكيات التأثير على نحو جذري، مؤكداً أن المؤثرين الرقميين أصبحوا ركيزة أساسية في تحقيق التنمية ونشر القيم الإيجابية، كما يتضح من البحث التجريبي. لم يعد التأثير مجرد عملية إعلامية بسيطة؛ بل يتطلب استراتيجية شاملة تدمج الأبعاد الرقمية والمؤسساتية والتجارية، وهو ما يقدمه مفهوم "القوة الناعمة المركبة" بوصفه إطاراً حاسماً لضمان التأثير المستدام.

يعيد هذا المفهوم تعريف القوة الناعمة بوصفها شبكة مترابطة من التأثير، ويؤكد مسؤولية القادة في بناء بيئة رقمية داعمة من خلال تعزيز التشريعات الواضحة والاستثمار في الشراكات الأخلاقية وتوفير التمويل المستقل للمؤثرين. ويجب على القادة في المنطقة الاستمرار في تبني هذه الرؤية المبتكرة لضمان المشاركة الفعالة للعالم العربي في المشهد الرقمي العالمي.

 

       

المحتوى محمي