يهدف القطاع الاجتماعي إلى تزويد المجتمعات بالأدوات والمعارف التي تسمح لها بصنع التغيير بنفسها، لأن التغيير الذي يصنعه المجتمع من المرجح أن يؤدي إلى تأثير أكثر استدامة من محاولات فرض التغيير من الخارج. ويجب أن تكون البيانات مشمولة بهذا الالتزام، وهو أمر أصبح أكثر أهمية لتوليد التأثير الاجتماعي. وفي الوقت الحالي، فإن التطبيق الفعال للبرامج الاجتماعية وتحسينها المتواصل يتطلبان جمع البيانات وتحليلها.
ولكن، وفي أغلب الأحيان، يعمد العاملون في القطاع الاجتماعي، بمن فيهم الباحثون، إلى استخلاص البيانات من الأفراد والمجتمعات والبلدان لأهدافهم الخاصة، ولا يتكلفون حتى مشقة مشاركة البيانات مع هذه الكيانات، بالإضافة إلى السماح لها بدراستها والتوصل إلى استنتاجاتها الخاصة. مع توافر تدفق البيانات تظهر القدرة لاتخاذ القرارات المدروسة المستندة إلى المعلومات.
ولهذا، فإن تجاهلنا لمبادئنا الأساسية المتعلقة بالبيانات أمر يؤدي إلى نتائج عكسية، بل إنه ينطوي على سخرية مؤلمة. فنحن نرى المانحين وكبار الممارسين يبذلون جهوداً صادقة لنشر المساعدة على نطاق واسع. ولكن، إذا كنا ملتزمين بصدق بجعل المساعدات متاحة للجميع دون قيود، فيجب علينا أيضاً أن ندرس مسألة ملكية البيانات وتدفقها.
إن تحرير البيانات لن يساعد فقط على ضمان توجيه فوائد البيانات إلى مالكيها الحقيقيين مباشرة، بل سيدفع أيضاً نحو زيادة المشاركة المتعمدة للبيانات من قبل مالكيها، أي المجتمعات التي نزعم أننا نحاول تمكينها.
التعرف على احتكار البيانات
وفي كتاب يعود إلى العام 2019 باسم "تكاليف الاتصال" (The Costs Of Connection)، قام المؤلفان نِك كولدري ويوليسيس ميهياس باستخدام مصطلح "استعمار البيانات" لتوصيف ممارسات استخلاص البيانات بأساليب تمثل تكراراً أو تقليداً للممارسات التاريخية الاستعمارية لاستخلاص الموارد الطبيعية وفرض النموذج الاستعماري في مصادرة سلطة اتخاذ القرار من السكان الأصليين.
ويعود بعض أول ما وجدناه من إشارات إلى استعمار البيانات إلى المجتمعات الأصلية، التي كانت تكافح منذ وقت طويل ضد العمليات المربحة التي ينفذها الآخرون لاستخلاص المعارف المحلية واستغلالها. واليوم، يعتبر المعهد الهندي للصحة الحضرية، وهو مركز أبحاث صحية في سياتل لخدمة المجتمعات المحلية في أميركا وألاسكا، من المنظمات التي تعمل على "تحرير البيانات، من أجل السكان الأصليين، ومن قبل السكان الأصليين".
لقد شهدنا استعمار البيانات في القطاع الربحي، إضافة إلى مؤسسات التنمية. وتعريفنا العملي لاستعمار البيانات هو أنه ممارسة الاستيلاء على البيانات التي أنتجها الآخرون أو تم إنتاجها لمصلحة الآخرين، والاستيلاء على معظم القيمة الكامنة في هذه البيانات. وخلال إجراء أبحاث استقصائية في إفريقيا لصالح شركة تكنولوجيا اجتماعية جديدة، أجرى المؤلف المشارك جيم فروشترمان مقابلة مع أحد الزعماء المحليين في منطقة بحيرة نايفاشا في كينيا، وقد قال إن النظام البيئي للمنطقة شهد أكبر عدد من الدراسات في منطقة الوادي الإفريقي المتصدع الكبير. وعلى الرغم من هذا، لم يتمكن الباحث مع زملائه من الوصول إلى البيانات إلا بقدر ضئيل، بما فيها بيانات الطقس واستهلاك المياه وبيانات الإنتاج، والتحليلات الناتجة. وبدلاً من ذلك، فإن هذه النتائج البحثية محتجزة ضمن قواعد بيانات الجامعات، والمنظمات الدولية غير الحكومية، والوكالات العامة، وهي عادة ما تكون محظورة على الآخرين، أو يتطلب الوصول إليها تكاليف باهظة.
وتتلخص هذه الظاهرة بالعناصر الأساسية التالية:
- يتم أخذ البيانات (والمعلومات) من البلدان أو المجتمعات دون موافقة أصحاب البيانات الحقيقيين أو معرفتهم، وهم البلاد أو المجتمع أو الشريحة السكانية التي يتم جمع البيانات منها أو يتم جمع البيانات حولها.
- ويتم توليد المعرفة من البيانات خارج نطاق الدولة أو المجتمع المصدر، دون مشاركة أصحاب البيانات الحقيقيين.
- ويتسبب استخلاص البيانات بترسيخ الاختلال في النفوذ –الذي كان موجوداً قبل جمع البيانات أو ظهر نتيجة لجمع البيانات- بين جامعي البيانات وأصحابها الحقيقيين.
- يقوم جامعو البيانات ببناء أنظمة وإيديولوجيات لتعزيز الاستيلاء على البيانات وتبريره، تحت مسمى الدقة الفكرية، أو بذريعة المراقبة والتقييم، أو وفقاً لنموذج أعمال يهدف إلى تحقيق الربح. وبغض النظر، فإن هذه الأنظمة تقوم في أغلب الأحيان بتوجيه الموارد وتوزيعها.
ومن تجربتنا الخاصة، يؤدي استعمار البيانات إلى ثلاث نتائج ضارة على الأقل. النتيجة السلبية الأولى هي أنه يؤدي إلى توليد قرارات منخفضة الجودة. فعند القيام بعمليات التحليل دون مشاركة المجتمع الذي تم أخذ البيانات منه، يؤدي استعمار البيانات إلى استنتاجات منفصلة عن الواقع وعن وجهات نظر مالكي البيانات الحقيقيين ومصالحهم في أغلب الأحيان.
أما النتيجة الثانية فهي أنه يضعف هذه المجتمعات. يؤدي استعمار البيانات إلى إزالة سلطة اتخاذ القرار من البلد أو المجتمع المتأثر به مباشرة. وعلى سبيل المثال، أعرب أحد قادة إفريقيا الذي يعمل في وزارة الصحة في بلاده عن شعوره بالإحباط والإهانة عندما كان يجلس في أحد المؤتمرات، ورأى تقديماً لأول مرة لبيانات حول بلاده من قبل باحث كان قد سافر إلى هناك لإجراء دراسة. ولم يكتفِ الباحث بنسب جهد البحث إلى نفسه بالكامل فحسب، بل قام أيضاً بسلب المسؤولين عن صناعة القرار في تلك البلاد فرصتهم لاستخدام البيانات في تحقيق مصلحة بلادهم والسير بها إلى الأمام.
ثالثاً، يؤدي إلى إساءة توزيع الموارد. غالباً ما يتم الاعتماد على تحليل البيانات لتحديد كيفية توجيه الأموال. ولهذا، فإن استعمار البيانات يؤدي إلى استبعاد أصحاب البيانات الحقيقيين عندما يقوم الممولون وأصحاب القرار بتوزيع رأس المال وغيره من الموارد. وعلى سبيل المثال، فإن برامج الصحة الواسعة النطاق كانت تعتمد تاريخياً على أساليب اعتباطية أو بيانات الانتشار، مع تدفق كميات كبيرة من الأموال عبر هذه المجتمعات بناءً على بيانات لم تقم هذه المجتمعات نفسها بجمعها أو تساعد على وضعها في سياقها الصحيح. ويمكن لبعض الآليات، مثل التمويل المعتمد على النتائج، أن تعتمد على البيانات لتبرير حرمان منطقة أو برنامج ما من التمويل، ما يؤدي عملياً إلى تطبيق عقوبات على المجتمعات بسبب عمليات تحليل لم تشارك في تنفيذها.
البيانات بوصفها مورداً صالحاً للاستخدام المتكرر
لطالما كانت الممارسات الاستعمارية الاستحواذية تركز على الموارد الطبيعية المنتهية، مثل النفط والماس. وقد أدت الكميات المحدودة لهذه الموارد، والطلب عليها، إلى زيادة قيمتها. ولكن البيانات ليست مثل النفط. فمن الممكن نسخها ومشاركتها دون تكلفة. إذاً، لماذا نعاملها وكأنها نادرة للغاية؟
في القطاع الخاص، تحتفظ الشركات بالأغلبية العظمى من بياناتها ضمن وحدات تخزين معزولة خاصة بها، لأن التفرد بامتلاك المعلومات أصبح، وبصورة متزايدة، أساساً للأفضلية التنافسية للشركات. ولهذا، يوجد حافز قوي لدى الشركات التكنولوجية الكبيرة لامتلاك البيانات واستخلاصها من الآخرين، كما أن قواعد البيانات الخاصة الضخمة أصبحت مصدراً هائلاً للثروة، وهو مصدر تعمل الشركات على مراكمته باستمرار.
ليست البيانات مورداً منتهياً في قطاع التأثير الاجتماعي، ولكن هكذا يسير العمل. ونحن نعتقد أن استعمار البيانات الحالي يعود بشكل أساسي إلى هذا الميل الغريزي، بدلاً من وجود نية خبيثة لقمع المجتمعات. ويمكن لمشاركة البيانات أن تسرع الأثر المشترك عن طريق توافق الحوافز وتعزيز الحلول الناجعة فعلياً. يمكن لمشاركة مجموعات البيانات المجمّعة والمنزوعة الهوية أن يؤدي إلى توضيح البيئات المعقدة بناءً على تصورات مشتركة، وذلك للعمل من أجل التحسين المستمر للأنظمة القائمة.
وعلى سبيل المثال، وفي العام 2017، اجتمع مسؤولو الصحة الحكوميون في موزمبيق لمناقشة بيانات أداء ثلاجات اللقاحات، التي كانت وزارة الصحة في البلاد تقوم بجمعها باستخدام أجهزة استشعار تعمل في الزمن الحقيقي. وكانت وزارة الصحة في تنزانيا تدرس شراء مجموعة من نفس النوع من الثلاجات. وهكذا، شاركت موزمبيق بيانات أداء الثلاجات مع تنزانيا. يبرز هذا الفعل البسيط معضلة الكثير من البلدان الأخرى التي أصبحت بياناتها ملكية خاصة لأطراف خارجية (شركات في أغلب الأحيان) وبالتالي لا تستطيع مساعدة نفسها أو جيرانها بهذه الطريقة.
بطبيعة الحال، ليست كل البيانات قابلة للنشر والمشاركة علناً. فبيانات شهود حقوق الإنسان، وتقارير إساءة معاملة الأطفال، والسجلات الصحية الفردية، وسجلات حالات الإصابة بفيروس الإيدز (HIV)، جميعها أمثلة حول معلومات حساسة وفردية يجب ألا تُشارك على الإطلاق. أما البيانات التي نتحدث عنها فهي بيانات يمكن نشرها على نطاق واسع للاستخدام بشكل مسؤول، مثل البيانات حول التجهيزات والبنى التحتية، وفعالية البرامج، وفعالية الأدوية، واستخدام الأراضي.
أربعة مبادئ للتغيير
يجب أن يتوقف استخراج البيانات أو استخلاصها من المجتمعات والبلدان. وإذا كنا، في القطاع الاجتماعي، نرغب بإحداث تغيير حقيقي في الأنظمة بالاشتراك مع المجتمعات في جميع أنحاء العالم، فيجب أن تمتد هذه الشراكة إلى نطاق المورد الأكثر أهمية في العالم: البيانات. ونقترح المبادئ الأساسية الأربعة التالية فيما يتعلق بالملكية والخصوصية والمشاركة والموافقة والاستخدام السليم للبيانات، التي يمكن اعتمادها كتوجيهات لتحرير البيانات وإعادة النفوذ إلى المجتمعات التي جُمِعت منها هذه البيانات.
أولاً، تعود ملكية البيانات إلى المجتمعات والبلدان التي جُمعت منها. ويجب أن تكون القرارات حول استخدام هذه البيانات وتحليلها والوصول إليها وتفسيرها صادرة عن أصحابها الحقيقيين، الذين يجب أن يمتلكوا الأدوات والموارد لتفسير هذه البيانات واتخاذ الإجراءات اللازمة وفقها. ويمثل تحالف اللقاح "جافي" (Gavi) إحدى أولى المحاولات في هذه النقلة، وذلك بالإصرار على امتلاك الدول لبياناتها، والتأكيد على مبدأ امتلاك البلدان لبياناتها الذي ينطبق على البيانات التي ولدتها ثلاجات اللقاحات.
ثانياً، يجب أن يحدد أصحاب البيانات الحقيقيون البيانات التي ستبقى خاصة. بتجاوز هذا المبدأ مسألة حماية معلومات تحديد الشخصية للأفراد، الذي يخضع للتنظيم على المستوى الوطني بشكل متزايد. ويمكن أن يتضمن معلومات حساسة ترغب البلاد بحمايتها، مثل مواقع تجمع الموارد الطبيعية أو الآثار.
وثالثاً، يجب أن تتم مشاركة البيانات فقط بوجود موافقة فعلية من أجل الحصول على قيمة فعلية. تنبع أهمية البيانات من إمكانية استخدامها للتعلم السريع. ويمكن لمشاركة البيانات، عندما تتم بطريقة لا تزيد المخاطر التي يتعرض لها الأفراد أو المجتمعات، أن تعزز قدرتنا على زيادة قيمة هذه البيانات إلى الحد الأقصى بالنسبة لأصحابها الحقيقيين وقطاع التأثير الاجتماعي أيضاً. وفي هذا السياق، فإن الموافقة الفعلية والقيمة الفعلية ترتكزان على احترام أصحاب البيانات الحقيقيين، ومراعاة معاييرهم الاجتماعية، وضمان الأولوية لاستخدامهم للبيانات وتعلمهم منها، وتسليمهم زمام التحكم فيها بشكل مباشر. وعند تطبيق المبدأ بهذه الطريقة، سيؤدي إلى تشجيع تبادل القيمة الحقيقية عند مشاركة البيانات، بدلاً من الاستيلاء عليها.
ورابعاً، يجب ألا تكون البيانات عقابية. يعتمد العالم الحديث على البيانات من أجل التعلم والتحسين، ويتطلب هذا الاستخدام بيانات عالية الجودة. أما البيانات المستخدمة للعقاب فتؤدي إلى ظهور دوافع غير سوية لتشكيل بيانات مزيفة لتفادي العقاب، وهو ما يجرد البيانات من قيمتها لفائدة التعلم والتأثير.
إن التخلي عن استعمار البيانات ليس بالأمر السهل. ونحن نعترف في كافة أعمالنا بما يتطلبه تعريف استعمار البيانات وإنهاؤه من تواضع وتفكّر ذاتي والتزام. وإذا تمكّنا من تحقيق هذه النقلة، فسنتمكن من تعزيز العمل الجماعي ونساعد على ضمان وصول فوائد البيانات بشكل مباشر وفوري إلى الأشخاص والأماكن التي تم أخذها منها. هذا هو الهدف من تحرير البيانات، وهذه هي القيمة الجوهرية لقطاع التأثير الاجتماعي.
يمكنكم الاطلاع على النسخة الإنجليزية من المقال من خلال الرابط، علماً أنّ المقال المنشور باللغتين محمي بحقوق الملكية الدولية. إنّ نسخ نص المقال دون إذن سابق يُعرض صاحبه للملاحقة القانونية دولياً.