كيف بالإمكان القضاء على الفقر؟ قراءة في كتاب “الفقر صناعة أميركية”

مستوى الفقر
shutterstock.com/Sabirov Nijaz
استمع الى المقالة الآن هذه الخدمة تجريبية
Play Audio Pause Audio

تعاني الولايات المتحدة الفقر أكثر من أي دولة ديمقراطية متقدمة، مع أنها من أغنى الدول على وجه الأرض. إذ يعيش واحد من كل تسعة أميركيين تحت خط الفقر، ولا يستطيع 38 مليون أميركي تحمل تكلفة الضروريات الأساسية. وعلى الرغم من نمو الناتج المحلي الإجمالي لأميركا إلى 26 تريليون دولار في عام 2022، لم يتغير مستوى الفقر بشكل ملحوظ منذ عام 1970. لماذا يستمر الفقر في بلد ثري جداً؟

يؤكد عالم الاجتماع بجامعة برينستون، ماثيو ديزموند في كتابه “الفقر صناعة أميركية“، أن الفقر في أميركا قد نتج “ليس رغماً عن ثروة [أميركا]، ولكن بسببها”. إذ يستفيد الأميركيون من العوامل الشاملة والهيكلية التي تنتج الفقر، وهو يستخدم كلمة “الأميركيون” عمداً لكي يشمل الأميركيين جميعهم بوصفهم المتسببين باقتصاد الفقر في هذه الدولة. يدّعي ديزموند أن الأميركيين يستفيدون من الفقر بثلاث طرق محددة: استغلال الاقتصاد واليد العاملة اللذان يلبيان طلبهم على المنتجات الرخيصة؛ ونظام ضريبي أميركي يدعم الأثرياء؛ والبرامج الأميركية التي تقدم الدعم وشبكات الأمان للأثرياء.

يقول ديزموند: “تقدم الحكومة الأميركية أكبر قدر من المساعدة لمن هم أقل حاجة إليها”. “هذه هي حقيقية الرعاية الاجتماعية الحكومية، ولها آثار بعيدة المدى، ليس على حساباتنا المصرفية ومستويات الفقر فحسب، بل على نفسيتنا وروح المواطنة فينا أيضاً”.

يأتي كتاب “الفقر صناعة أميركية” بعد سبع سنوات من إصدار كتاب ديزموند الحائز جائزة بوليتزر، “المطرود من منزله: الفقر والربح في المدينة الأميركية” (Evicted: Poverty and Profit in the American City)، الذي درس كيف يؤدي نموذج إخلاء المساكن في أميركا إلى تفاقم الفقر. يستند الكتابان إلى تجربة شخصية عاشها ديزموند في طفولته إذ خسرت عائلته منزلها بسبب إجراءات الحجز بعد فقدان والده وظيفته وعدم قدرته على سداد الرهن. أثارت هذه التجربة العديد من الأسئلة، مثل: لماذا تعاقب أميركا الذين يعانون بدلاً من تقديم المساعدة لهم؟ ولماذا يوافق الأميركيون على هذا النهج؟ ألهمت هذه الأسئلة أبحاث ديزموند وكتاباته.

البحث الإثنوغرافي المتعمق الذي أجراه ديزموند لكتابه “المطرود من منزله” الذي أكسبه جائزة بوليتزر، أصغر حجماً في كتابه الجديد ولكنه يفي بالغرض، إذ أقام مع ثماني عائلات منخفضة الدخل في مدينة ميلووكي بولاية ويسكونسن عدة أشهر. يصل كتاب “الفقر صناعة أميركية” إلى ذروة قوته عندما يقرن ديزموند أبحاثه بقصص شخصية. وتتخلل فقراته المليئة بالإحصاءات مشاهد سريعة عن الذين أجرى ديزموند مقابلات معهم خلال حياته المهنية. تجسد هذه المشاهد معاناة الإنسان تحت وطأة الفقر، ويمكن القول إنها وضعت في الكتاب لكي يتعاطف القراء مع الذين يعانون الفقر ولكي يشعروا بالمسؤولية تجاه محنهم. يؤكد ديزموند أن عدم اهتمامنا بالفقر يعود إلى عدم ظهوره بصورة واضحة في ثقافتنا. إذ يقول ديزموند: “يُحذف الفقراء من الأفلام والبرامج التلفزيونية والموسيقى الشعبية وكتب الأطفال” لأن عرض الفقر يهدد الرخاء الأميركي.

لا يعطي كتاب “الفقر صناعة أميركية” القراء الفرصة لتجاهل الفقر.

يعرض ديزموند قصة كريستال مايبيري التي ولِدت قبل الأوان بعد أن تعرضت والدتها للطعن في عملية سطو عام 1990. تعرضت كريستال للإيذاء الجنسي عندما كانت طفلة وأخذتها هيئة خدمات حماية الطفل ووضعتها تحت رعاية التبنّي، إذ كانت تتنقل بين عدة دور رعاية جماعية. شُخصت حالتها باضطراب ما بعد الصدمة والاضطراب الثنائي القطب وضُمت لمستحقي معونات الضمان الاجتماعي، التي يذهب 73% منها للإيجار. وحُرمت عدة مرات من السكن في مناطق ذوي البشرة البيضاء والأصول اللاتينية في المدينة لأنها من ذوي البشرة السمراء. وسرعان ما تخلفت عن سداد الإيجار وطُردت من منزلها. توضح قصص مثل قصة مايبيري كيف أن الفقر “آفة الآفات الاجتماعية” التي ترسم حياة الإنسان بدرجة كبيرة.

هل سيختار الأميركيون الكف عن استغلال الفقراء؟ هل سيوافقون يوماً ما على معدلات الضرائب اللازمة للقضاء على الفقر نهائياً؟

يستخدم ديزموند البيانات والقصص الشخصية لفضح الخرافات الثقافية حول الفقر. إذ يبدد ديزموند الاعتقاد العنصري القائم على كراهية الأجانب بأن الهجرة تهدد الاقتصاد من خلال الإشارة إلى البيانات التي تظهر أن “الولايات التي استقبلت العدد الأكبر من المهاجرين خلال نصف القرن الماضي قد ازدهرت أكثر من غيرها”. إذ شهدت ولايتا تكساس وفلوريدا بين عامي 1970 و2019 انخفاضاً في معدلات الفقر بنسبة 5% و4% على الترتيب. كما يدحض ديزموند خرافة ارتباط زيادة الحد الأدنى للأجور بزيادة مستوى البطالة، ويكشف أن تلك المغالطة نشأت من “بيانات افتراضية” من عام 1946، ثم يستشهد بعشرات الدراسات التي تثبت “أن لزيادة الحد الأدنى للأجور تأثيرات ضئيلة على مستوى البطالة”.

تعزز هذه الأساطير سياسات اللوم والتهميش السائدة التي تشجع الأميركيين على الاعتقاد بأن “مساعدة الفقراء سم قاتل”، على حد وصف ديزموند. وهو يدعونا إلى التفكير في احتمال أن يكون الفقر نتيجة نظام البلاد الاقتصادي وثقافتها اللذين يساعدان مَن لا يحتاجون إلى المساعدة، وليس نتيجة تقصير الفقراء أو افتقارهم للتعليم. يوجه ديزموند انتباهنا إلى اقتصاد الفقر في أميركا وبالتحديد إلى الذين يستفيدون منه. إذ تأتي أرباح اقتصاد الفقر من الإيجارات الاستغلالية، والرسوم المصرفية، وممارسات العمل. كما بُنيت “عقدة أمازون” في أميركا، أي إدماننا على المنتجات التي تُشحن في غضون أيام إلى أبواب منازلنا، على حساب الذين يحصلون على أجر يكاد يكفيهم للعيش، فالمنتجات الرخيصة تحتاج إلى يد عاملة رخيصة. ينفق الأميركيون الفقراء ما لا يقل عن 50% إلى 70% من أجورهم على الإيجارات والخدمات الأساسية، إذ يحقق مُلاك العقارات أرباحاً من الشقق في الأحياء الفقيرة أكثر من أرباح الشقق في الأحياء الغنية. كما تَضعُف الأجور بسبب الرسوم المصرفية والتمويلية؛ “يُحصّل يومياً أكثر من 61 مليون دولار على شكل رسوم أكثرها من الأميركيين ذوي الدخل المنخفض”، بحسب ديزموند.

تعزز حياة المواطن الأميركي اليومية التي تشكلت بفعل الفصل الاجتماعي هذا الاستغلال. فالمواطن الأميركي الذي يعيش في منطقة ثرية، وبخاصة إذا لم يكن مستأجراً، يستفيد من قوانين تقسيم المناطق ويدعمها بطريقة غير مباشرة، وهي التي تُبقي الأبنية المتعددة الشقق السكنية والمساكن الميسورة التكلفة خارج منطقته. وفي حال كان يمتلك سيارة أو يستخدم سيارات أوبر بانتظام، فهو لا يستخدم البنية التحتية العامة التي تعتمد عليها المجتمعات الفقيرة. يرى ديزموند أن هذه الفروق الهيكلية بين العوز والثراء تؤدي إلى “توجّه وطني إلى الثراء الخاص والبؤس العام”. وتعزز السياسات الحكومية الانقسام عبر الإخفاق في الاستثمار في الخدمات العامة، التي لا يستخدمها سوى فقراء البلاد.

والدليل الأكثر إدانة على دعم أكثرية الأميركيين لاقتصاد الفقر بطريقة غير مباشرة هو أن الفقراء لا يتلقون القدر الأكبر من مساعدات الحكومة، بل تتلقاه العائلات الغنية. الدعم الحكومي للرهن العقاري والثغرات الضريبية وامتيازات الوظائف مجتمعة تُقدم للأميركيين الأثرياء “بنسبة 40% أكثر مما تقدمه للعائلات الأميركية الفقيرة”.

بسبب تركيز دراسة ديزموند على الطبقات الاجتماعية، فهي تتجاهل بعض عوامل الفقر وسياقاته الأخرى أحياناً. يختلف الفقر باختلاف لون البشرة ومكان الإقامة. وبسبب عدم تعدد السياقات في إطار عمل ديزموند التحليلي، يقدم كتابه “الفقر صناعة أميركية” رواية غير مكتملة لانتشار الفقر في أميركا على أسس عِرقية وكيف تعزز الخرافات الطبقية وسرديات الحلم الأميركي الفقر والتمييز العرقي. على الرغم من عدم تغطية عدة سياقات في كتاب ديزموند، فهو كتاب مقنع أُعدت أبحاثه بإحكام.

يختتم ديزموند كتابه بحل جذري لقلب اقتصاد الفقر في أميركا: إذا كان النظام فاسداً، فزعزع النظام. يقدِّر ديزموند أن تكلفة القضاء على الفقر في أميركا -بمعنى رفع الجميع فوق خط الفقر الوطني (المقدر بـ 30,000 دولار للأسرة المكونة من أربعة أفراد في عام 2023)- تبلغ 177 مليار دولار، ما يعادل “أقل من 1% من الناتج المحلي الإجمالي”. ويرى أن هذه الأموال يمكن الحصول عليها بسهولة في حال أنهت الحكومة قوانين الضرائب والحوافز التي تسمح للأثرياء في أميركا أفراد وشركات بالتهرب الضريبي الذي يبلغ تريليون دولار سنوياً. ويؤكد أن القضاء على الفقر لا يمكن أن يتم من خلال الإنفاق على الرعاية الاجتماعية وحده، بل يجب أن يترافق مع تغييرات هيكلية تعالج مشكلات اقتصاد الفقر الشاملة، بما فيها إصلاح النظام الضريبي.

يقترح ديزموند حلاً لكل مشكلة يقدمها في الكتاب، ويقول إن على الكونغرس رفع الحد الأدنى للأجور للقضاء على الأجور المتدنية “وضمان ألا يضطر العمال إلى الكفاح لكسب لقمة العيش مجدداً”. كما يقترح أن تزيد الحكومة من استثماراتها في الخدمات العامة -من الإسكان العام إلى التعليم العام- وأن تعتمد سياسات تجعل العمل المصرفي أقل وحشية. ويقول إنه يجب على المواطنين تقديم التماس إلى الكونغرس لسن مجموعة جديدة من قوانين العمل للوصول إلى نظام عمل حديث في الشركات الأميركية. ويوصي بأن ندعو إلى إلغاء قوانين تقسيم المناطق داخل المجتمعات الأميركية لإعادة دمج الأغنياء والفقراء. كما يشير إلى ضرورة أن يصبح الأميركيون “دعاة للقضاء على الفقر” ويجرون “مراجعة لحياتهم ويعتبرون الفقر مسؤوليتهم الشخصية من خلال دراسة جميع الطرق التي تربطهم بالمشكلة وبالحل”. ويعتقد ديزموند أنه بوسع الأميركيين تدريجياً إنشاء مجتمع لا يعتمد على الفقر في ازدهاره.

لكن هل سيختار الأميركيون الكفَّ عن استغلال الفقراء حتى الذين لا يرونهم؟ وهل سيوافقون يوماً ما على معدلات الضرائب اللازمة للقضاء على الفقر نهائياً؟

عند بلوغي نهاية الكتاب، وجدت نفسي متفائلاً بحذر بأن هناك تحولاً ثقافياً يلوح في الأفق -حتى إن ديزموند يستشهد باستطلاع أجراه مركز بيو للأبحاث (Pew Research Center) عام 2020 يشير إلى أنه للمرة الأولى يلقي المزيد من الأميركيين اللوم في الفقر على الظروف الهيكلية بدلاً من الإخفاقات الفردية. وينبع جزء من تفاؤلي من صلتي الشخصية بالقضية التي يثيرها ديزموند. بعد أن شاهدت اقتصاد الفقر يفترس مجتمعي الريفي -على شكل رسوم سحب على المكشوف جائرة، ووظائف تعطي 7 دولارات في الساعة، وديون متصاعدة- أرغب في الاعتقاد أن الأوضاع يمكن أن تتغير، وأنه يمكنني يوماً ما التوقف عن إرسال الأموال إلى ولاية تكساس لأن والديّ سيحصلان أخيراً على أجر لائق.

يعتقد ديزموند أنه “من الممكن أن تجلب نهاية الفقر ربحاً صافياً للازدهار العام”، ويكشف استخدام كلمة “الممكن” هنا عن الواقع المشروط لهذا المستقبل. ما يتخيله ديزموند هو نتيجة مثالية، إذ يفهم الأميركيون أن رفاههم الفردي وازدهارهم يعتمدان على رفاهة الأميركيين الآخرين وازدهارهم. وحتى لو كانت النتيجة غير واقعية، المثالية خيار ضروري ومقصود. يجب أن نتخيل عالماً أفضل لكي نعمل على تحقيقه، لأن الحلم في الوقت الحاضر هو الخطوة الأولى في بناء مستقبل خالٍ من الفقر في أميركا.

يمكنكم الاطلاع على النسخة الإنجليزية من المقال من خلال الرابط، علماً أنّ المقال المنشور باللغتين محمي بحقوق الملكية الدولية. إنّ نسخ نص المقال دون إذن سابق يُعرض صاحبه للملاحقة القانونية دولياً.