استحوذ تغيّر المناخ بقوة على اهتمام العالم خلال العقود الثلاثة الماضية، وأصبح العمل على مكافحة آثاره أحد الأهداف العالمية للتنمية المستدامة، ولكن إذا لم نحقق تقدماً ملحوظاً في مواجهة التحديات المناخية، فقد لا نتمكن من الوصول إلى غالبية الأهداف التنموية الأخرى بنهاية عام 2030.
وكشف عام 2023 بوضوح عن تفاقم مشكلة التغير المناخي، إذ شهدنا خلاله ارتفاعاً قياسياً في درجات الحرارة وانعكس ذلك على مختلف المجالات والأبعاد التنموية، ما دفع الأمم المتحدة لدق ناقوس الخطر حول إمكانية الوصول إلى أهداف التنمية المستدامة بسبب خروج العالم عن المسار الصحيح.
تغير المناخ والتنمية المستدامة: تأثير متبادل
تبدو أهداف التنمية المستدامة متصلة فيما بينها، فالقدرة على بلوغ هدف ما يرتبط بمعالجة قضايا معينة ذات صلة بأهداف أخرى، فلن تُحلّ مشكلة الفقر مثلاً إلا بتحقيق تقدم ملموس في انتشار التعليم والخدمات الصحية وتمكين المرأة.
كذلك العلاقة بين تغير المناخ والتنمية المستدامة، فمن ناحية يؤثر تغير المناخ على الظروف المعيشية ومستويات التنمية الاجتماعية والاقتصادية، ومن ناحية أخرى، قد توّلد توجهات المجتمع نحو التنمية المستدامة المزيد من انبعاثات الغازات الدفيئة، لذا إذا تُركت مشكلة تغير المناخ دون حلّ فسيخسر العالم مكاسب التنمية التي حققها على مدى العقود الماضية ولن يتمكن من تحقيق مكاسب جديدة.
وانقسمت الآراء حول تأثير تغير المناخ العالمي على جهود التنمية إلى قسمين، فالبعض يرى أن هذه التغيرات هي نتاج ظروف طبيعية مثل توالي موجات الحرارة والبرودة، وأن دور النشاط الإنساني فيها معدوم أو محدود، وحجتهم في ذلك أن متوسط درجة حرارة الأرض خلال المائة عام الماضية لم يزد إلا بمعدل من 0.4 إلى 0.8 درجة مئوية فقط، وأنه على الرغم من الفيضانات والأعاصير وارتفاع منسوب مياه البحر وغيرها من الظواهر المناخية، ظلت مسيرة التنمية مستمرة، إذ حققت دول أوروبا والدول الإسكندنافية أعلى معدلات التنمية البشرية العالمية.
فيما يعتبر البعض الآخر، أن التغيرات تقوّض جهود التنمية في العالم، وخاصةً في الدول النامية والفقيرة، فالثورة الصناعية التي برزت في الدول المتقدمة منتصف القرن الماضي، وما رافقها من زيادة استخدام الطاقة من مصادر تقليدية مثل الوقود الأحفوري، أسهمت في زيادة انبعاثات الكربون وتفاقم أثر الاحتباس الحراري وخسارة الكثير من الموارد البيئية والطبيعية وزيادة معدلات الفقر في الدول النامية.
المفارقة هنا أنه على الرغم من أن الدول العربية النامية تسهم بنسبة 5% فقط في انبعاثات الكربون فإنها الأكثر عرضة لتداعيات تغير المناخ، ما سيؤثر سلباً في قدرة هذه الدول على تحقيق الأهداف العالمية للتنمية المستدامة.
وبحسب تقرير حديث للمنظمة العالمية للأرصاد الجوية (WMO)، سجلت الفترة بين عام 1970 و2021، نحو 12,000 كارثة ناجمة عن ظواهر متطرفة مرتبطة بالطقس والمناخ والماء، وهو ما تسبب في أكثر من مليوني حالة وفاة وخسائر اقتصادية بقيمة 4.3 تريليونات دولار. ووجد التقرير أن أكثر من 90% من الوفيات المبلغ عنها و60% من الخسائر الاقتصادية سُجلت في البلدان النامية، وهو ما يقوّض جهودها في تحقيق التنمية المستدامة.
أوجه تأثير تغير المناخ على التنمية المستدامة
يترتب على تغير المناخ تأُثيرات سلبية على أبعاد تنموية مختلفة منها الأمن الغذائي والنشاط الزراعي والبنية التحتية والمستوى الصحي للأفراد وجودة حياتهم. لنستعرضها في النقاط الآتية:
- بيئياً، يتسبب تغير المناخ بنقص الموارد الطبيعية، إذ يؤدي ارتفاع درجة الحرارة إلى الجفاف والتصحر وتراجع الإنتاج الزراعي، وفقدان التنوع البيولوجي، فضلاً عن ارتفاع مستوى البحر الذي قد يقضي على المدن الساحلية، على سبيل المثال، قد يعرقل نقص المياه وانخفاض مستوى جودتها تحقيق الهدف الإنمائي الخاص بضمان الاستدامة البيئية.
- اجتماعياً، يوّلد نقص الموارد الطبيعية صراعات إقليمية تؤدي في نهاية المطاف إلى ارتفاع موجات الهجرة والنزوح عن المناطق المعرضة للكوارث، وزيادة معدلات الفقر؛ إذ تدفع الكوارث الطبيعية بنحو 26 مليون شخص إلى براثن الفقر سنوياً، وبحسب البنك الدولي، قد يتسبب التغير المناخي في معاناة ما يزيد على 100 مليون شخص من الفقر بحلول عام 2030.
- اقتصادياً، ستتراجع معدلات النمو الاقتصادي نتيجة التحديات المناخية التي تؤدي إلى تفاقم مشكلة الفقر وتراجع فرص العمل، وارتفاع أسعار الغذاء وصعوبة توفيره، إذ يتوقع تقرير "حالة الأمن الغذائي والتغذية في العالم" (The State of Food Security and Nutrition in the World 2022)، استمرار معاناة نحو 670 مليون شخص، ما يعادل 8% من سكان العالم، من الجوع في عام 2030، وقد تقود هذه التداعيات أيضاً إلى استخدام الموارد وتركيز الإنفاق على مواجهة الكوارث بدلاً من التعليم، الأمر الذي سينعكس سلباً على تحقيق الهدف الخاص بتعميم التعليم الابتدائي.
- صحياً، يؤدي تغير المناخ إلى أضرار صحية والوفاة المبكرة، فارتفاع درجات الحرارة مع نقص التغذية يتسببان بأمراض مثل الكوليرا والملاريا، ومن المرجح تسجيل 250 ألف وفاة إضافية سنوياً بسبب الملاريا والإسهال والإجهاد الحراري ونقص التغذية بين العامين 2030 و2050.
ويمثل تلوث الهواء تهديداً رئيسياً للصحة، إذ يتسبب بنحو سبعة ملايين حالة وفاة مبكرة سنوياً، وبحسب "كتيب البيانات الأخضر" (Green Data Book) الصادر عن البنك الدولي، الأسبوع الماضي، فإن 84% من سكان العالم تقريباً يعيشون في مناطق يتجاوز فيها تلوث الهواء المعايير التي وضعتها منظمة الصحة العالمية لنوعية الهواء، الأمر الذي ينعكس سلباً على صحتهم.
تحوّل نوعي في العمل المناخي
وصلنا إلى منتصف الطريق المؤدي إلى التنمية المستدامة والقادم أصعب، فيجب أن نتمكن من تخفيف آثار المناخ حتى نضمن على الأقل الحفاظ على المكاسب التي حققناها، إذ تتركز الجهود الآن حول بقاء الحرارة عند 1.5 درجة مئوية، وخفض انبعاثات غازات الاحتباس الحراري العالمية بنسبة 30% و45% على التوالي بحلول عام 2030، حتى نصل إلى صافي انبعاث صفري بحلول عام 2050، ما يتطلب تحولات واسعة النطاق وسريعة ومنهجية في العمل المناخي.
يمكن للعمل المناخي أن يحقق التوازن بين الحفاظ على البيئة ومتطلبات التنمية الاقتصادية والاجتماعية من خلال تبنّي سياسات واستراتيجيات مبتكرة تعتمد على التكنولوجيا والطاقة المتجددة والعلوم، إذ أكدت نتائج تقرير "متحدون في العلوم 2023" (United in Science 2023)، أن التقدم العلمي والتكنولوجي مثل الذكاء الاصطناعي والتنبؤ الآني، يمكن أن يساعد على تحقيق أهداف التنمية المستدامة.
بالمحصلة نحتاج إلى التكامل بين العمل المناخي والتنمية المستدامة في السياسات والاستراتيجيات الوطنية والدولية، وتعزيز التعاون الدولي من أجل توفير التمويل والحلول التكنولوجية للبلدان النامية لمساعدتها على التكيف مع التغير المناخي وتحقيق التنمية المستدامة.