إن الغرض من النظام المالي هو أن يكون ميسّراً للنشاط الاقتصادي بطرائق تدعم اقتصاداً حقيقياً شاملاً ومستداماً، ولكن في الوقت الذي لا يزال فيه العالم بعيداً عن المسار الصحيح لتحقيق أهداف التنمية المستدامة، تفتقر غالبية الشركات إلى وجود ترابط قوي وفعّال بين الأهداف المالية والمعايير البيئية والاجتماعية والحوكمة.
أُطر متكاملة
يمثل كل من أهداف التنمية المستدامة، ومعايير الحوكمة البيئية والاجتماعية وحوكمة الشركات إطارين متكاملين للتنمية المستدامة والممارسات التجارية المسؤولة، فمن جهة تشمل الحوكمة البيئية والاجتماعية العديد من الاعتبارات، مثل تخفيف البصمة الكربونية، والحد من استهلاك المياه والطاقة، وإدارة النفايات وإعادة تدويرها، ورفاهية الموظفين، والتنوع والشمول. ومن جهة أخرى قد تمثل أهداف التنمية المستدامة إطاراً مفيداً للشركات لتقييم تأثيرها وتحديد أهدافها الاستراتيجية.
على سبيل المثال، يمكن أن يسهم تحقيق المساواة بين الجنسين في نمو الاقتصاد العالمي بنسبة 26%، وقد تتوافر فرص عمل سنوية تعادل قيمتها 12 تريليون دولار إذا التزِم بأهداف التنمية المستدامة في أربعة قطاعات وهي: الغذاء والزراعة، والمدن، والمواد والطاقة، والصحة والرفاهية، ووفقاً للجنة الأعمال المعنية بالتنمية المستدامة (BCSD)، فإن الإسهام في أهداف التنمية المستدامة وتحقيقها يوفر استراتيجية نمو مقنعة للشركات وللاقتصاد العالمي.
ويمكن أن يؤدي تحسين الأداء البيئي والاجتماعي والحوكمة للشركات إلى تقليل تكاليف التشغيل من خلال عدة طرائق، منها تحسين كفاءة الطاقة والمياه بما يساعد على الحد من تكاليف المرافق، فالتحول إلى الطاقة المتجددة يُعد أقل تكلفة من التغير المناخي، فقد يتسبب الأخير بخسارة 10% من القيمة الاقتصادية الإجمالية للعالم بحلول عام 2050.
كما ينعكس الحد من تكاليف استهلاك الطاقة وتنوع مجالس الإدارة على النتائج المالية للشركات، إذ يرى نحو 80% من الأميركيين أن لدى الشركات المسؤولة بيئياً فرصاً أكبر لتحقيق النجاح المالي.
الانحياز إلى تعظيم القيمة المالية
على الرغم من الأهمية التي حظيت بها معايير الحوكمة البيئية والاجتماعية وحوكمة الشركات في تقرير التقييم السادس الصادر عن الهيئة الحكومية الدولية المعنية بتغير المناخ (IPCC)، فإن النظام الاقتصادي ينحاز إلى تعظيم القيمة المالية، والخلط بين الوسائل (النشاط المالي) والغايات (احتياجات المجتمع)، الأمر الذي ولّد حركة مناهضة للمعايير البيئية والاجتماعية والحوكمة ترفض النتائج الاجتماعية غير المقيدة بالعائدات المالية.
ورصد استطلاع أجرته شركة بيتش بوك (PitchBook) للبيانات المالية، مؤخراً تزايد المشاعر السلبية بين المستثمرين حول الاستثمار المبني على الحوكمة البيئية والاجتماعية وحوكمة الشركات، فالبعض يرى أن المعايير البيئية والاجتماعية والحوكمة تتطلب التضحية بالأداء المالي، وينظر البعض الآخر إلى تلك المعايير على أنها أمور ذاتية قد يصعُب قياسها.
بالتالي، يسهم النشاط الاقتصادي في العديد من الآثار الاجتماعية والبيئية السلبية ويخلق مخاطر منهجية للمستثمرين والشركات والنظام المالي والحكومات والمجتمع للأسباب الآتية:
- عند وضع تصور حول المخاطر الحالية لا تأخذ الشركات في الاعتبار جميع العوامل الخارجية المادية، وبالتالي لا يمكن معالجة الأسباب الجذرية التي تقوّض التنمية المستدامة. فعندما تنظر الشركات في الاستدامة من زاوية المخاطر البيئية والاجتماعية والحوكمة والأهمية المالية، فإنها لا تزال تقلل من المخاطر المالية المستقبلية وتفشل في تحديد الفرص الناشئة، لكن يمكن تغيير هذا التصور من خلال التركيز المتزايد على المخاطر المرتبطة بالمناخ في عملية صنع القرار.
- إن البيانات والمعلومات المستخدمة لاتخاذ القرار لا تعكس الواقع الفعلي، ويمكن تأكيد هذه النقطة من خلال المقارنة بين مخاطر إزالة الغابات ونتائج الحوكمة البيئية والاجتماعية وحوكمة الشركات. فوفقاً للمراجعة السنوية التي تجريها فوريست 500 (Forest 500) لـ 143 شركة، فإن درجات الحوكمة البيئية والاجتماعية وحوكمة الشركات لا تعكس بصورة جيدة المخاطر المقدرة لعمليات الشركة وتجارتها. حتى إن الشركات ذات المشاركة الضعيفة في تدابير الحد من مخاطر إزالة الغابات، تحصل على أعلى درجات الحوكمة البيئية والاجتماعية.
- إن عواقب نظامنا الاقتصادي لا تُقاسم بالتساوي في جميع أنحاء العالم، أو حتى على مستوى المنطقة الواحدة، بالتالي فإن الأشخاص الذين لديهم القدرة الأكبر على تغيير النظام الاقتصادي هم الأكثر استفادة من الحفاظ على الوضع الراهن وأقل عرضة حالياً لعواقبه.
والآن، للمضي قُدماً في الحوكمة البيئية والاجتماعية وحوكمة الشركات وربطها ربطاً فعّالاً مع أهداف التنمية المستدامة نحتاج إلى:
- تحوّل في آلية صنع القرار، وتطوير النظام الاقتصادي ليس من خلال الحلول القائمة على السوق فحسب، بل عبر مشاركة جميع الجهات الفاعلة، بما في ذلك الحكومات والجهات التنظيمية، لخلق فرص متكافئة وتخفيف القيود وزيادة الاتساق ما يمثل جزءاً من التحرك نحو تنظيم اقتصادي عالمي شامل للمعايير البيئية والاجتماعية والحوكمة. يمكن أن تعمل الحكومات مثلاً على تطوير القدرات والبنية التحتية للأعمال من خلال ممارساتها الخاصة في مجال المشتريات وإدارة التأثير.
- تعزيز طريقة جديدة لممارسة الأعمال والاستثمار من خلال اعتماد معايير تصبّ في صالح أهداف التنمية المستدامة وتعرض بصورة ملموسة مجالات فرص الاستثمار المربحة وأنظمة التشغيل ونماذج الأعمال المتوافقة مع الاستدامة وأولويات التنمية.
- التركيز على الفعل وخلق روابط ملموسة بين الحوكمة البيئية والاجتماعية وحوكمة الشركات والاستراتيجية المبنية على القيمة، مثل كفاءة الطاقة، أو ابتكار سلسلة التوريد، أو حتى استخدام الذكاء الاصطناعي لدمج الاستدامة في إدارة المشاريع. ومن شأن هذا النهج الواضح أن يبدد شكوك المستثمرين حول تأثير المعايير البيئية والاجتماعية والحوكمة على أداء الشركات.
إن الشركات القادرة على النظر إلى ما هو أبعد من تحقيق الأرباح ستدرك أن قدرتها على الاستمرار ذات صلة وثيقة بقدرتها على معالجة التحديات البيئية والمجتمعية، وأن التحرك الجماعي نحو تحقيق أهداف التنمية المستدامة لن يساعد في ضمان وجود كوكب صالح للعيش للأجيال المقبلة فحسب، بل سيساعد أيضاً على استقرار الاقتصاد والنظام المالي.