"أنا نشأت فقيراً، وأوصاني أبي بالفقراء"؛ هكذا اعتاد الطبيب المصري الراحل "محمد عبد الغفار مشالي" أن يصف قراره بدعم الفقراء بالعلاج المجاني أو قليل التكلفة. ولمدة عقود في مدينة طنطا المصرية، أصر على تقديم العطاء لغيره دون مقابل، حتى لُقّب بـ"طبيب الغلابة"، أي الفقراء والمحتاجين بالعامية المصرية.
لم تكن حياة الطبيب المصري معروفة، أو تحت دائرة الضوء في مصر، بل كان يعمل تنفيذاً لوصية أبيه بأن يعالج الفقراء بالمجان مراعاة لظروف الحياة القاسية التي قد يمرون بها، فقد نشأ فقيراً في أسرة بسيطة، وعانى مع أخوته من تداعيات الفقر، لذا كان ذلك الدافع الحقيقي لبدء رحلة من العطاء، استمرت سيرتها بعد رحيله في عام 2020.
شهد العامين الماضيين، اختباراً حقيقياً للعطاء الفردي، خاصة مع تداعيات "كوفيد-19"، لكن الأمر المذهل كان متمثلاُ في كيفية إيمان الجمعيات الخيرية بضرورة تقديم يد الدعم في أكثر الأوقات ظلاماً. وتباينت نسب مشاركة الأجيال المختلفة في حملات التبرعات العالمية، حيث زادت تبرعات المؤسسات الخيرية من الأفراد في عام 2020 إلى 88.55 مليار دولار، بزيادة قدرها 19% عن عام 2019. كما جاء أكبر مصدر للتبرعات الخيرية من الأفراد بقيمة 324.10 مليار دولار، أي 69% من إجمالي العطاء، وفقاً لإحصاء العمل الخيري.
دوافع فردية للانخراط في عمل الخير
تختلف الأسباب التي تدفع الأفراد إلى التطوع أو الانخراط في عمل الخير، أو تقديم التبرعات لعدد من المؤسسات الخيرية وغير الربحية، فقد يكون امتلاك القدرة على تحسين حياة الآخرين هو الدافع الأساسي للبعض مع الشعور بالمسؤولية تجاه الفقراء والفئات المهمشة، وقد يكون السبب وراء عمل الخير الفردي في الشعور بالمسؤولية تجاه البيئة المحلية التي نشأ فيها الفرد، وبالتالي يعمل على المساهمة في تقديم خدمة أو تحسين منطقته المحلية بطريقة ما، أو يعود الأمر لبعض الأسباب النفسية؛ لتعزيز شعور الفرد بالفخر، والتغلب على بعض التحديات الجديدة.
وقد يعود الأمر أيضاً إلى الشعور بالتعاطف مع الكثير من الحالات الإنسانية التي مرت بما قد مررت به من قبل. تؤكد دراسة مصرية للباحثين أحمد موسى وفادية علوان، بعنوان: "سيكولوجية التعاطف: المفهوم والأصول والمتعلقات"، أن التعاطف لا يقتصر على الشعور فقط، بل هو عملية تفاعلية اجتماعية تنطوي على الشعور بعدم الأنانية تجاه الأفراد. وهناك من ينخرط في العمل الخيري والتطوع بسبب الخلفية الثقافية التي نشأ عليها من غرس للقيم الأخلاقية، وهذا ما توضحه دراسة للباحثة المصرية بسمة هجرس، بعنوان: "اتجاهات شباب الجامعات نحو العمل التطوعي في مصر" شملت 450 فرداً، حيث سلطت الضوء على الاختلافات الكثيرة التي تحدد دوافع الأفراد لعمل الخير.
وعلى الرغم من تعدد أسباب الانخراط في العمل الخيري، إلا أن الظروف الطارئة والأزمات التي قد يمر بها الفرد، تعزز من شعوره بضرورة تقديم الدعم، وهذا ما دفع الكثير من المهتمين بالفقراء وعمل الخير مثل الفنان الياباني "نيكي ماتسوموتو" (Nikki Matsumoto) إلى تقديم الدعم في كل الأماكن، تخطى بها كل الحدود الجغرافية.
رحلة "نيكي ماتسوموتو"
طوكيو ليلة الأحد، مدينة ساكنة تسعى إلى استرجاع الطاقة "شبه المهدرة" في عطلة نهاية الأسبوع لبدء أول صباح من أسبوع عمل جديد بهمة وقلب نشيط يتطلب الضغط الاجتماعي في اليابان إبرازه. لكن "نيكي ماتسوموتو"، البالغ من العمر 59 سنة، يهم بالصعود إلى سيارته بمفرده قبيل منتصف ليل كل أحد ليشتري كميات كبيرة من الطعام والشراب؛ ليوزعها على فقراء طوكيو المنتشرين.
قد يستغرب الكثيرون عندما يسمعون كلمة "فقر" في اليابان؛ لكن الفقر موجود في كل مكان، بنسب متفاوتة بالطبع. والفقر كما يؤكد "نيكي" أنه ليس نتيجة فعل الإنسان دائماً، حيث يقول: "يظن الكثيرون أن الفقر نتيجة إهمال وحصيلة كسل أو فقر عقلي أو إرادي؛ لكن الحياة أرتني أن الفقر، في بعض الاحيان، يمكن أن يحدث لأي إنسان وفي أي وقت. أحيانا الفقر يأتي نتيجة ظروف لم يكن يتوقعها".
الحياة في اختباراتها لم تنسى ماتسوموتو فقد وهبته حصة من تحدياتها، فبعد عشر سنوات في الولايات المتحدة الأميركية، تركته في شوارع طوكيو في أثناء عودته إلى اليابان. ثم تركته من جديد في محطات قطاراتها، وحدائقها الباردة في الليل. بعد غيابه الطويل عن بلاده، رجع إليها كالغريب، وبات غير قادراً على التأقلم لا مع أهل بلده ولا حتى مع عائلته.
ربما تكون هذه الليالي القاسية نعمة للكثير من فقراء طوكيو اليوم. لكنها أتت على حساب شهور مضت كالسنين. يقول نيكي: "أمضيت أسابيع عديدة أنام في الحدائق العامة وداخل المحطات متمنياً مساعدة أو مبادرة، ولو صغيرة، من أي أحد. لم يأتي أحد لنجدتي. هذا دافعي للمجيء كل ليلة أحد لدعم الفقراء. فقد أصبحت الشخص الذي أردته بعد عدة عقود من الزمن".
تأثير الأزمات
لكن قسوة الحياة وعزيمة نيكي دفعته إلى المواجهة. فبعد ثباته في وظيفة في شركة إنترنت في طوكيو قبل أعوام، بادر بزيارة السفارات في العاصمة وعرض خدماته التكنولوجية حتى أصبحت لديه شركته الخاصة التي ما زالت قائمة حتى اليوم وتؤتيه بأرباح تمنحه فائضاً ليخدم به الناس.
نيكي يهم مثل "النينجا" في مهماته الليلية ويمشي بسرعة متأهبة؛ لكن سلسة ترى الهدف بكل وضوح. والمهمة هي إنقاذ نفسه السابقة التي يراها اليوم في وجوه هؤلاء الفقراء. صورة مؤلمة لكن واضحة كالشمس ظلت عالقة في ذهنه، تدفعه للعطاء من دون مقابل.
لدى طوكيو، العديد من الأسواق التي تظل مفتوحة ليلاً، يهم إليها نيكي لشراء الوجبات، ليمر على أشخاص نائمين في كل زاوية من داخل محطات القطار، وداخل الحدائق، وأسفل الجسور. ينطلق كالسهم الصامت يترك الوجبات بجانب النائمين. وهناك من كان مستيقظاً، فكان ينظر إليه بابتسامة معهودة، فقد عرفه من مبادراته المتكررة، كأنه يقول: "ها قد جاء هذا المعطاء الأصيل".
الموسيقى شغف نيكي منذ زمن طويل، لكنه قرر أن يبادر برفقة عدد من زملائه إلى تشكيل فرقة موسيقية تحت اسم "روك آسيا"؛ هدفها الموسيقى من أجل السلام. انطلق من اليابان إلى أميركا، ثم إلى الشرق الأوسط، حيث أنجز حفلاته في مصر وفلسطين، يشجع بموسيقاه الناس ويمدهم بصوت يعلو لدعم الخير والإنسانية.
وأخيراً، نختم بأنه من المفيد أن نتذكر دوماً أن الكثير من الفرص يمكن أن تولد من المصائب. وعند مواجهة التحديات، من الأفضل أن نرى فرصاً لاستيعاب هذه التحديات، وتوجيهها إلى مشاريع بناءة نساعد من خلالها أنفسنا والآخرين، فرحلة العطاء الخيري تبدأ مع الفرد نفسه.