كيف نتحرر من الانقسامات المجتمعية من خلال بناء العلاقات؟

6 دقائق
نشاط بناء العلاقات

نظراً لأن وسائل الإعلام تغذي يومياً شعورنا بالانقسامات العميقة والمستعصية في سياساتنا ومجتمعنا، فقد لا تبدو العلاقات الشخصية ذات أهمية كبيرة. وقد يشعرنا هذا بأننا منعزلون وعالقون. لكن التغيير الاجتماعي لا يحدث فجأة على الصعيد الكلي. والتعاطف على المستوى الشخصي والرغبة في بناء علاقات مع الآخرين قد يخلقان حركة وتغييراً.

يمكن أن يتخذ التغيير أشكالاً عديدة، من مثل الفتاة التي قامت بلصق لافتات مزينة بشرائط على أعمدة الإنارة في قريتها وكتبت عليها "الحب" و"الأمل" و"الثقة" و"السعادة"، أو الشاب كال تورنبول (Kal Turnbull) الذي أنشأ موقع ChangeAView.com لتشجيع الحوارات الصحية والرزينة كبديل للمحادثات الغاضبة على وسائل التواصل الاجتماعي. ويمكن أن يكون التغيير ضخماً واستراتيجياً، كما حدث عندما نظمت جمعية المواطنين حول تغير المناخ في مدينة كامدن البريطانية (Camden Citizens Assembly) محادثات بين عدد من السكان الذين تم اختيارهم عشوائياً لوضع حلول عملية لقضايا المناخ. كما يمكن أن يكون التغيير خاصاً بقضية معينة؛ ففي أبريل/نيسان من عام 2015 على سبيل المثال، قدمت مؤسسة كرافتيفست كولكتف (Craftivist Collective) مناديلاً مطرزة لمجلس إدارة الشركة البريطانية الضخمة ماركس آند سبينسر (Marks and Spencer) لإقناعهم بدفع الحد الأدنى للأجر في المملكة المتحدة لموظفيهم، وهو ما فعلوه لاحقاً. ويمكن أن يكون التغيير أي شيء تقريباً.

فأشكال النشاط هذه تشترك في تركيزها على التواصل والعلاقات الشخصية، بالإضافة إلى الرغبة في تجنب الشعور بالعجز بسبب المشاكل الاجتماعية العنيدة والمعقدة.

واستخدام العلاقات لاتخاذ الإجراءات - وتمكينها - هو ما ندعوه "نشاط بناء العلاقات".

التحرر من الانقسامات

يمكّن نشاط بناء العلاقات من حدوث التغيير من خلال العلاقات الشخصية وغير الرسمية. وبإمكان كل من يرغب في تحقيق التغيير الاجتماعي، لكنه قد لا يرغب في المشاركة في مظاهرات أو في حملات تأخذ أشكالاً نضالية "تقليدية" أكثر، الانخراط في نشاط بناء العلاقات. وقد طرحت سارة أوشوغنيسي وإيميلي كينيدي المصطلح لأول مرة عام 2010، بعد أن لاحظتا أن بناء العلاقات كان نوعاً من أنواع النشاط الذي يعمل في الخفاء ضمن الحملات الأكثر نمطية، وبالتوافق معها. وفي حين أن بحثهما ركز بشكل خاص على التغيير البيئي، فقد فوجئنا بعد عام 2016 بقدرة نشاط بناء العلاقات على إعادة إشراك الناس في النشاط الاجتماعي، وإعادة تحفيزهم من خلال تمكين المجتمع المتعاطف والقضايا المهمة. عندما يتسبب الانقسام في شل السياسة، نؤمن أننا، نحن "الأغلبية المرهقة" العالقة في المنتصف، في الغالب لا نحتاج إلا إلى مكان لنبدأ منه. فإن هدف نشاط بناء العلاقات هو تغيير الجزء الصغير من العالم الذي نستطيع الوصول إليه برحمة.

إليكم ثلاث قيم لناشطي بناء العلاقات يمكن ممارستها في العلاقات اليومية وأماكن العمل، مرفقة بأمثلة عن كيف يمكن أن تقود إلى الحراك الاجتماعي.

1. كن فضولياً وتواصل مع الآخرين

إن اليقين يمكن أن يحدث شرخاً بين الناس؛ حيث أننا قد نفترض مثلاً أن شاباً يحمل سلاحاً هو شخص خطير يرغب في إيذاء الآخرين. لكن الشعور بالفضول الواعي تجاه الآخرين قد يساعدنا في مقاومة الاستسلام لهذه الآراء المريحة المتحيزة، فمن خلال التساؤل لماذا نفكر في ما نفكر فيه - "أتساءل لماذا يحمل هذا الشاب سلاحاً؟ لماذا خرجْت مباشرة بذاك الاستنتاج؟" — يمكننا أن نتعلم ما قد لا نفكر في طرحه.

تعد مؤسسة المكتبة البشرية (Human Library) مثالاً جيداً على مساحة مفتوحة للفضول. فقد تم تأسيسها لأول مرة في الدنمارك قبل عقدين من الزمن، وهي تقوم بتوظيف متطوعين لديهم قصة حياة فريدة ليرووها من خلال تأدية دور "الكتب"، لشرح جوانب حياتهم التي قد تثير التحيزات، مثل التوحد، والاضطراب ثنائي القطب، والتشرد، والبطالة، أو اللجوء. وبعد أن يختار أحد الزوار "كتاباً"، يجلس المتطوع ويروي قصته ويجيب عن كافة الأسئلة. ومن خلال خلق مساحة آمنة بين الأشخاص الذين لم يكونوا ليتحدثوا أبداً مع بعضهم بعضاً، والتي يتم فيها تشجيع الأسئلة بفعالية، يصبح من الممكن مناقشة المواضيع المحرمة بصراحة ودون خوف من الإدانة. وقد علق أحد المشاركين: "نحن نتعلم من خلال أسئلتهم الموجهة إلينا ونضع معرفتنا الشخصية موضع الاختبار. وبعد بضع ساعات معاً، نقترب من بعضنا البعض قليلاً وكأننا قد تخلينا عن دفاعاتنا".

يقدم مشروع ميل في حذائي (A Mile in My Shoes) التابع لمؤسسة متحف التعاطف (إمباثي ميوزيم) (The Empathy Museum) مثالاً جيداً آخر. حيث يرتدي المشاركون حذاء حقيقياً لشخص آخر أثناء الاستماع من خلال سماعة رأس إلى تسجيل لصاحب الحذاء وهو يروي قصة حياته. وقد يكون الحذاء مزعجاً، لكن هذا جزء مهم من الفكرة. وأهم ما في الأمر هو أن نستمع إلى قصص ليست على مقاسنا.

2. فكر في التفاعلات اليومية

قوة كامنة تنطلق كل يوم. يتحقق نشطاء بناء العلاقات بوعي من اللغة التي نستخدمها، سواء كانت تحريضية أو محترمة، وما إذا كانت نبرة صوتنا تبدو مفعمة بالتحدي أو منفتحة؛ فمجرد أخذ نفس عميق قبل الرد بغضب على منشور على وسائل التواصل الاجتماعي يسمح لنا بالتفكير في سبب إثارة رد الفعل هذا ووجهات النظر الأخرى التي قد تكون لدينا. والتفكير في تفاعلاتنا اليومية يساعدنا على أن نصبح واعين لما تسببه أفعالنا للآخرين، ونبقى منفتحين لتقبل أكثر من فكرة واحدة وفهمها، ونحمل أنفسنا مسؤولية تصرفاتنا.

على سبيل المثال، كان مشروع عام المناقشات المتحضرة (The Year of Civil Conversations Project) بين الأديان في فيلادلفيا الذي أقامته مؤسسة إنترفيث فيلادلفيا (Interfaith Philadelphia) يهدف إلى "غرس العلاقات والحوار حول الموضوعات التي تثير اختلافات حادة بيننا". قام المشروع بتدريب مئات الأشخاص على إجراء نقاش حضاري في مدارسهم، وتجمعاتهم، وأماكن عملهم، ومجتمعاتهم، مع إشراك أكثر من 2000 شخص كميسرين أو مشاركين أو حاضرين في الأحداث العامة. وباستخدام دليل "المناقشات على نحو أفضل" (Better Conversations)، شجعوا القراء على ممارسة الإنصات العميق، والتواضع، والصبر، والإكرام، و"اللباقة المغامرة"، والتي على حد تعبيرهم، "لا يمكن أن تكون مجرد مسألة تهذيب أو لطف"، ولكن يجب "احترام صعوبة ما نواجهه والتعقيدات المصاحبة لما يعنيه أن تكون إنساناً".

على الرغم من أن مواضيع المناقشات غالباً ما كانت تتعلق بالسياسة العامة على نطاق واسع - مثل العِرق والدين وغيرها من القضايا الخلافية - كانت تأثيرات المناقشة هي زيادة القدرة على التحدث عن هذه القضايا باحترام دون خصومات. فقد قال الأشخاص بعد إتمام تدريب المناقشات المتحضرة إنهم استخدموا المهارات التي تعلموها بشكل غير رسمي غالباً مع أصدقائهم وعائلاتهم. وقد قال أحد المشاركين إن "العديد من القضايا الحساسة تم طرحها. ومن دون التدريب، ربما لم أكن لأخوض هذه المناقشات".

3. مشاركة القصص

يقوم نشطاء بناء العلاقات بمشاركة القصص، وهو أمر معنوي مختلف عن رواية القصص. ففي حين أن رواية القصص قد تؤدي إلى التعاطف، إلا أن الفعل بحد ذاته قد ينشئ حواجز بين المتحدث والمستمع. بينما على العكس، مشاركة القصص فعل تبادلي. ونحن نؤمن أنك إذا أردت التواصل مع شخص ما، فعليك أن تكون مستعداً لتشاركه جزءاً من نفسك أيضاً. حيث أن فهم بعضنا بعضاً من خلال إظهار العواطف يساعدنا على بناء التعاطف وكسر الحواجز، بدلاً من إنشاء حواجز جديدة.

خذ على سبيل المثال فعالية العلاقات التي تحدث الفرق (Relationships Making the Difference) التي أقمناها في مجلس مدينة كامدن في شهر أبريل/نيسان عام 2019، وضمت مجموعة متنوعة من الأشخاص لتبادل القصص في إطار محادثة ميسرة. تم تشكيل نمط يشبه "حوض السمك"، عبارة عن دائرة صغيرة حميمة من المشاركين الذين شاركوا قصصهم أثناء الإشراف عليهم من قبل دائرة خارجية تضم المشاركين الآخرين الذين تم سؤالهم لاحقاً عن أفكارهم حول ما سمعوه وشعروا به. ونظراً لتبادل الأماكن بين الدائرة الصغيرة والكبيرة، تمكن كل مشارك من تأدية دور المشارك والمستمع. وقد حضر الفعالية أكثر من 100 شخص من جميع أنحاء البلاد، منهم مواطنون بتجارب حياتية غنية ونشطاء وأكاديميون وسكان محليون وأشخاص من كبار المسؤولين الحكوميين المحليين (حتى أن حيواناً أليفاً شارك في تقديم المساعدة اسمه كينغستون).

قد تقع الخدمات البشرية في بعض الأحيان في خطأ وسم من سواهم بـ "الآخر"، ما يؤدي إلى حدوث انقسامات وعدم تكافؤ في القوة بين مقدمي المساعدة والحاصلين على المساعدة. لكن الإحساس المشترك بالقوة والتواصل بين الغرباء في الغرفة كان واضحاً للغاية، وقد رأينا بالفعل أفعالاً إيجابية تنتج عنه. وعن طريق الاستماع لقصص بعضهم البعض، أظهر الآباء والسلطات المحلية استعداداً للانفتاح الذي أدى إلى نشوء ديناميكيات جديدة للقوة وثقة أعمق. ففي عام 2018، قاد الآباء الناشطون مشروع بحث تشاركي كبير حول ممارسات حماية الطفل، وقاموا بإشراك آباء آخرين للحديث عن تجاربهم، ما مكنهم من المشاركة والتأثير في النظام.

وقد حقق تقريرهم النهائي تغييراً حقيقياً بالفعل، وهو أمر مختلف تماماً عن ثقافة "الأخصائيون يعرفون أفضل" الأكثر شيوعاً؛ حيث يقود الآباء الآن ورش عمل شهرية "للتعلم التبادلي"، ويشاركون تجاربهم مع الممارسين في مواضيع مثل العنف المنزلي والحصول على الرعاية الحكومية. ويتم الآن تحسين العلاقة بين الرئيس المستقل لاجتماعات حماية الطفل والأسرة؛ حيث يحافظ الرئيس الآن على اتصال بالعائلة في الفترة بين الاجتماعات حتى تتاح للعائلة الفرصة لتقديم ملاحظاتها وبناء علاقة ثقة معه، حتى يتمكنوا من التحدث معاً بصراحة وصدق.

نداء إلى نشطاء بناء العلاقات في كل مكان

أظهرت الأبحاث أن ممارسة التعاطف يومياً أمر "معزِّز عاطفياً ومُعدي" في الوقت نفسه، فهي ليست تجربة إيجابية للمُعطي فحسب، بل إنها غالباً ستدفع المتلقي لفعل المثل. حيث أن ما يدعوه علماء النفس "السلوك الاجتماعي التأييدي" ينعكس على المتلقي الذي يصوغه بعدها ويمرره بدوره إلى أشخاص آخرين ضمن دائرته الاجتماعية. وهكذا، تتسع الدائرة شيئاً فشيئاً، حيث تتردد أصداء الأفعال الاعتيادية والتفاعلات الشخصية على نحو أوسع.

سيظل العالم دائماً بحاجة إلى نشطاء تقليديين. ولكن إذا كان اللطف والعواطف والعلاقات الإنسانية هي "النقطة العمياء في السياسة العامة" - كما أكد مشروع مدته ثلاث سنوات أقامته أمانة كارنيجي (Carnegie Trust) - فإن نشاط بناء العلاقات هو ما كان ينقصنا لبدء التغيير على المستوى الأساسي. فالعلاقات الإنسانية المتعاطفة تساعد في تحقيق التغيير الإيجابي في العوالم التي يمكننا الوصول إليها. وهذا التغيير يحفز التغيير الاجتماعي على نطاق أوسع عندما يكون مجموع الإجراءات الفردية مجتمعاً ومحسوساً. يمنحنا نشاط بناء العلاقات الأمل والعمل وطريقة لتحرير أنفسنا، كما يمكّن عدداً كبيراً من الناس من المساعدة في تجديد المجتمع المدني الذي نحتاج إليه بشدة لمعالجة أكبر القضايا الاجتماعية في عصرنا.

يمكنكم الاطلاع على النسخة الإنجليزية من المقال من خلال الرابط، علماً أنّ المقال المنشور باللغتين محمي بحقوق الملكية الدولية. إنّ نسخ نص المقال دون إذن سابق يُعرض صاحبه للملاحقة القانونية دولياً.

المحتوى محمي