سنتعرف من مجموعة مختلفة من قادة العمل الخيري إلى مستقبل العمل الخيري ووضع قطاع العمل الخيري اليوم. إذ يسلط مؤلفو المقالة الضوء على فكرة أن العديد من الأنظمة التقليدية يواجه مجموعة من التحديات في عدة مجالات، من الحوكمة الوطنية والعالمية إلى نماذجنا الاقتصادية الرئيسية. وفي حين أن الوضع الراهن يمر في حالة من عدم التوازن، ثمة فرصة ليخرج العمل الخيري من دائرة التهديد ويصبح جزءاً فعالاً من الحل.
وبما أن العمل الخيري هو رأس المال الوحيد المخصص للصالح الاجتماعي الذي يتمتع بمرونة حقيقية، فإنه في وضع يخوله للاستجابة لهذه الأنواع من التحديات. وفي حين يتعين على الأعمال التجارية والحكومات والمؤسسات غير الربحية على حد سواء الاستجابة بشكل عاجل للضغوط القصيرة المدى، لا يواجه المموّلون هذه الأنواع من ضغوط السوق، والضغوط السياسية، وضغوط جمع التبرعات بالطريقة نفسها. وعلى الرغم من أن هذه الحالة الفريدة يمكن أن تؤدي بالعمل الخيري إلى التقصير في تحمل المسؤولية في بعض الأحيان، فإنها تعني أيضاً أن الممولين في وضع جيد جداً للتفكير في رأس مالهم المالي والاجتماعي، ولتحمل المخاطر، والاستجابة للاحتياجات العاجلة عند الطلب، وفي بعض الأحيان، إلقاء نظرة بعيدة المدى لإحداث التغيير.
ولكن يمكن أن تكون المجموعة الواسعة من الاحتمالات أمام ممول فردي مثيرة ومرهقة في آن واحد، وبخاصة في ظل حالة الاضطراب والضبابية والتغير السريع الذي يشهده العالم من حوله.
وذلك بسبب عدم وجود حل منفرد و"ناجع" يناسب الممولين جميعهم. ويتمثل البديل الأهم من وجود ذلك الحل في بناء فهم أفضل لكيفية تغير العالم والأماكن والقضايا والأشخاص الذين يهتمون بهم؛ وفهم الفرص أمام مؤسساتهم نتيجة لذلك التغير وبخاصة الجديدة منها؛ وما القدرات المطلوبة لاتخاذ خيارات سليمة وإجراءات هادفة.
لذا بدلاً من اقتراح حلول ذات مقاس واحد يناسب الجميع، إليك بعض الأفكار المتنوعة عن بعض هذه القدرات الضرورية في السنوات المقبلة، المرتبطة بـ "الحواف" الأربعة التي يشير بحثنا إلى إمكانية أدائها دوراً كبيراً في مستقبل العمل الخيري.
إعادة النظر في دور العمل الخيري
يفكر معظم الممولين في استراتيجياتهم وأدوارهم انطلاقاً من الحلول التي تقدمها مؤسساتهم؛ أي من الداخل إلى الخارج. ويبدؤون بما يمكنهم التحكم فيه؛ أي رسالتهم ورؤيتهم وقيمهم، ثم يسقطونها على العالم الخارجي وعلى التغييرات التي يريدون إحداثها. يوفر ذلك كله الدعامة الأساسية لمؤسساتهم على مدى السنوات المقبلة. ولكن في عالم تتلاطم فيه أمواج التغيير المستمر، سيكون من المهم أيضاً للممولين أن يفكروا في استراتيجيات تنطلق من خارج المؤسسة إلى داخلها لفهم كيف يتغير العالم وكيف يؤثر هذا التغيير في أهدافهم وأساليب عملهم.
ومع ذلك، فإن بلورة رؤية تنبع من خارج المؤسسة وتُجاري استراتيجية الممول التي تنطلق من داخل المؤسسة إلى خارجها تتطلب بناء قدرة لم تتبلور بعد عند الكثير من الممولين، وهي القدرة على فهم واستيعاب التوجهات العامة والقوى المؤثرة وحالات عدم التيقن الدقيقة التي يمكن أن تصوغ أسلوب عملهم في السنوات المقبلة. لا أحد يستطيع أن يتنبأ بدقة كيف يمكن أن تتطور الظروف، ولكن وضع الخطط للتصورات المستقبلية واستخدام أدوات التفكير المستقبلي الأخرى يمكن أن يساعدا الممول على فهم احتمالات العقود المستقبلية القادمة والدور المجتمعي الأنسب لمؤسسته، ويضمن ذلك الفهم قوة استراتيجياتها وأساليب عملها وقابليتها للتكيف وإحداث التأثير في المستقبل الغامض.
موازنة سلطة صناعة القرار
تتأثر نظرة الممول المستقبلية بشدة بمن يمتلك القدرة على صياغة القرارات التي ستشكل المستقبل والقدرة على اتخاذها والمشاركة فيها. ومن الأهمية بمكان عند تبنّي رؤية خارجية ضمان مراعاة تنوع وجهات النظر والتجارب والخبرات، مع إيلاء اهتمام خاص لخبرة المجموعات الأقرب إلى المجتمعات والقضايا التي تتأثر بها، والأفضل أن تكون هذه المجموعات جزءاً من تلك المجتمعات. وقد يحتاج الكثير من الممولين إلى بناء قدرات جديدة لأداء تلك المهمة، فضلاً عن بناء الأنظمة والالتزام بضمان تأثير الإسهامات في الاستراتيجية والممارسة على نحو دائم.
وبدأ بعض الممولين في تجاوز مجرد توسيع وجهات النظر التي توجّه عملهم لاستكشاف طرق لمشاركة سلطة صناعة القرار أو التنازل عنها فعلياً. فقد تتضمن هذه العملية في بعض الحالات نقل عملية صناعة القرار بعيداً عن الممول تجاه المجتمعات التي يتطلع إلى دعمها. ويمكن أن يعني ذلك في حالات أخرى تحويل أصول مالية كبيرة إلى هذه المجموعات، ما يسمح لها ببناء أصول وثروة مركّبة بمرور الوقت تضمن حصولها على الموارد والمرونة والاستقلالية لمتابعة العمل الضروري على النحو الذي تراه مناسباً.
تفعيل النفوذ
يعلم معظم الممولين أن العمل الخيري يمثل سمكة صغيرة في بركة الموارد التي توفرها الحكومات والشركات الكبيرة لكن تأثيرها كبير. ولكن كيفية استجابة الممول وعمله في ضوء هذه الحقيقة ليست واضحة دائماً، وما تزال قائمة الخيارات مفتوحة.
يؤسس بعض الممولين شراكات استراتيجية أقوى أو ميزات لتطوير فرص التواصل مع الجهات الفاعلة الأخرى في القطاع الخيري، وقطاع الأعمال، والهيئات الحكومية، ووسائل الإعلام لتقصّي آفاق التعاون ذي التأثير والمشاركة في تصميمه. ويتجاوز آخرون استراتيجيات التأثير الداخلي إلى المشاركة في بلورة شبكة أوسع أو استراتيجيات لبيئة العمل بحيث يتواءم عمل مؤسسات متعددة في اتجاه مشترك ويحللون أدوارهم الخاصة للتقدم في هذا الاتجاه.
وبصرف النظر عن تفاصيل التقنيات المتبعة، يمكن للممولين تعزيز قدراتهم على خلق نفوذ يسمح لهم بإحداث التأثير على نطاق واسع، ورسم خريطة لشبكة الأطراف الفاعلة المطلوب مشاركتها، ومواءمة العمل، وبناء قدرات داخلية تكون جديدة غالباً للعمل كجزء من بيئة عمل أوسع.
(إعادة) تصميم المؤسسة
تتطلب الاستجابة إلى "التحولات السبعة الكبرى" التي حددناها في بحثنا مستويات أعلى من القدرة على تكيف المؤسسات من جميع المجالات وليس فقط مؤسسات العمل الخيري. وسيكون التحدي الذي يواجه الممولين هو التحقق المستمر من الحالة التنظيمية الراهنة للقطاع، التي ما يزال العديد من عناصرها على حاله منذ قرن من الزمن، وذلك لتعزيز المرونة التنظيمية التي ستكون مطلوبة للعقد القادم.
ويمكن أن يتخذ إضفاء الديناميكية على نظام يشوبه الجمود أشكالاً متنوعة. فعلى سبيل المثال، يمكن للمبادرات المؤقتة ذات الأهداف الواضحة للتأثير أن تسمح للممولين بتحديث مؤسساتهم بشكل أكثر انتظاماً دون الخضوع لإصلاح استراتيجي كبير. كما يمكن للفِرق التي تمتاز بالمرونة العالية وتعدد الاختصاصات أن تسمح للممولين بتفكيك وحدات العمل المنعزلة وإنشاء وإعادة إنشاء المجموعات الأنسب لتحقيق مجموعة من الأهداف. ويمكن أن تساعد المجموعات المخصصة للابتكار والتعلم في الحصول على أفكار لتغيير النتائج الأولية وتطويرها والارتقاء بها. ومهما كانت أهداف الممولين، فمن المهم أن يتمتعوا بالقدرة على اكتشاف خيارات التصميم التنظيمي المناسبة لتحقيقها.
نود أن نختتم بشكر كارمن روهاس، وستيفاني فويرستنر-جيليس، وجيف رايكس، وتريشيا رايكس، وألاندرا واشنطن، وأندرو تشونيلال، وتولين مونتغمري على مشاركة أفكارهم بشأن مستقبل العمل الخيري خلال الأسابيع العديدة الماضية. ونأمل أن تؤدي وجهات نظرهم إلى جانب النتائج المتعددة التي توصلنا إليها من مبادرة "ما الخطوة القادمة للعمل الخيري في عشرينيات القرن الواحد والعشرين" (What’s Next for Philanthropy in the 2020s) إلى تحفيز تفكيرك ليس بشأن مستقبل القطاع فحسب، بل بشأن مستقبل مؤسستك أيضاً.
يمكنكم الاطلاع على النسخة الإنجليزية من المقال من خلال الرابط، علماً أنّ المقال المنشور باللغتين محمي بحقوق الملكية الدولية. إنّ نسخ نص المقال دون إذن سابق يُعرض صاحبه للملاحقة القانونية دولياً.