انتشر مفهوم التمويل المبتكر على نحو متنامٍ في منظومة التنمية الدولية في السنوات الأخيرة باعتباره وسيلة لحشد المزيد من التمويل لتحقيق أهداف التنمية المستدامة. ويعتمد التمويل المبتكر على فرضية عدم توفر أموال كافية من الحكومات والمؤسسات الخيرية لمعالجة القضايا العالمية المُلحة مثل الفقر والتغير المناخي وتوفر الكهرباء والمياه الصحية. ويستلزم سد تلك الفجوة إعادة المموّلين هيكلة دعمهم التنموي وتنظيمه لجذب رأس المال الخاص. يتبع المتحمسون للتمويل المبتكر نُهجاً موسَّعة لتحقيق هذه الغاية مثل التمويل المختلط ونُهجاً خاصة مثل سندات التأثير.
تستحق أهداف التمويل المبتكر الثناء وبخاصة هدفها الرامي إلى زعزعة سيطرة النُهج التقليدية للتمويل. إذ تتضمن هذه النُهج التقليدية جداول زمنية محددة تنقصها المرونة وميزانيات وأنشطة صممها المانحون من خارج السياق المحلي. وهكذا تُهدر ملايين الدولارات التي تُجمع بشق الأنفس للمساعدات كل عام على برامج تعوزها الفعالية، وتُوجه عبر القنوات البيروقراطية التي تجبر مقدمي الخدمات على التركيز على الامتثال بدلاً من النتائج.
تستجيب بعض حلول التمويل المبتكرة لهذا التحدي من خلال السعي إلى مضاعفة نتائج المنح الاجتماعية. وقد تضاعفت قائمة الحلول في هذا المجال لتشمل سندات التأثير الاجتماعي والإنمائي، وسندات النجاح الاجتماعي، وحوافز التأثير الاجتماعي، وعقود القروض المرتبطة بالنتائج المفيدة، وضمانات التأثير الاجتماعي، والتمويل المرتبط بالتأثير.
وتسلط هذه القائمة الطويلة الضوء على توجّه مقلق يتمثل في تحويل التمويل المبتكر الهادف للتنمية إلى مجرد منتج عبر ابتداع منتجات تمويل جديدة ذات معايير موحدة وتسويقها بطريقة مشابهة لطريقة عمل قطاع التمويل التجاري. لكن ثمة حدود لتطبيق عقلية التمويل التجاري على قطاع التنمية. عدا عن أن تحويل التمويل المبتكر إلى منتج يجعل التمويل غاية وليس وسيلة. فهو يركز اهتمام الممولين على شكل التمويل وتسميته وليس على النتائج المطلوبة من العمل الاجتماعي. كما يمكن أن يرجع الفضل إلى نوع التمويل المستخدم بدلاً من فعالية التدخل الأساسي، ما يعزز الادعاءات التي تقول إن "سند تأثير التنمية (مثلاً) ساعد في التخفيف من حدة الفقر".
يحدث تحويل التمويل إلى منتج عندما يستحوذ المستشارون على تسمية نُهج جديدة للتمويل ويطلقون عليها أسماء مختصرة جديدة مثل SIBs (سندات التأثير الاجتماعي) وDIBs (سندات التأثير التنموي) وSIINCs (حوافز التأثير الاجتماعي) وSIGs (منح التأثير الاجتماعي). ويغذي هذه النزعة رغبة الممولين في أن يُنظر إليهم على أنهم يؤدون أدواراً مميزة، وأن يكونوا أول من يعلن مبادرة جديدة أو أول من يتوصل إلى إنجاز في المؤتمرات العالمية. ويشجع تحويل التمويل إلى منتج الممولين على التركيز بدرجة قليلة على الحل الذي يسعون إلى تمويله وبدرجة كبيرة على طريقة تمويله. ويؤدي ذلك إلى تخصيص الموارد لتقييم "تأثير" أدوات التمويل المبتكرة والانشغال بقضايا جانبية مثل تقليل كلفة المعاملات للمنتجات المالية المبتكرة من أجل توسيع نطاق استخدامها.
وفي حال كان المموّلون جادين في إحداث تأثير إيجابي فعليهم تطبيق عقلية التأثير لتمويل التنمية، وليس عقلية تحويل التمويل إلى منتج. وعليهم النظر إلى التمويل بوصفه وسيلة لتحقيق أفضل النتائج وليس بوصفه منتجاً يستوجب الترويج. إذ تدرس عقلية التأثير في المقام الأول أفضل توظيف ممكن لموارد التمويل العام والجهات المانحة الحالية ولأدواتها. وتدرك أن التغييرات الطفيفة في عمليات التمويل البيروقراطية الحالية تكون غالباً أكثر فاعلية من الترويج لشيء جديد وجذاب ظاهرياً. كما تأخذ هذه العقلية في الحسبان أن أموال المساعدات يجب أن تذهب إلى حيث تشتد الحاجة إليها، أي إلى السكان ذوي الدخل المنخفض والقطاعات ذات العائدات الضعيفة من الناحية التجارية.
تختلف عقلية التأثير عن عقلية المنتج بعدة طرق:
- تنظر إلى التمويل المبتكر على أنه وسيلة لتحقيق غاية وليس غاية في حد ذاته.
- تنظر إلى التمويل المبتكر نظرة شاملة، ولا تختزله إلى قائمة من المنتجات المالية الجديدة.
- تشجع مستندة إلى الأدلة توسيع نطاق التدخلات الناجحة بدلاً من توسيع نطاق استخدام منتج مالي معين.
- تعطي الأولوية لتلبية احتياجات الأفراد والمجتمعات وليس للممولين.
- تفضل الإعلان عن نتائج الجهود المبذولة وليس طريقة تمويلها.
- تصبُّ اهتمامها على فاعليتها وليس على الظهور بمظهر من له الأسبقية بعمل ما.
- تقترض من التمويل التجاري إلى الدرجة التي تلبي قطاع التنمية فحسب.
سنلقي نظرة على 3 طرق يمكن للتمويل المبتكر أن يخدم عبرها عقلية التأثير، متجاوزاً المنتجات التمويلية وموظفاً بعض المبادئ الأساسية لتسهيل أفضل أساليب العمل.
1. تمويل النُهج المستندة إلى الأدلة
لا يهم مدى ابتكار الممولين إذا لم يكن لديهم خطة لتقييم مدى نجاح التدخل. على سبيل المثال، دعا مكتب البيت الأبيض للإدارة والميزانية (The White House Office of Management and Budget) منذ فترة طويلة إلى استخدام المزيد من الأدلة لتحسين تصميم البرامج الفيدرالية باستخدام الأدلة المتوفرة على النجاح، وتوليد أدلة جديدة، واختبار مناهج جديدة لتنفيذ البرامج. كما سنَّت الحكومة الأميركية قانون الأدلة في عام 2019، الذي يدعو الهيئات الفيدرالية إلى وضع خطة استراتيجية لتطوير المزيد من الأدلة لدعم وضع السياسات. للانتقال من الجانب النظري إلى الجانب العملي، يمكن للممولين استخدام مناهج تمويل مبتكرة لإدراج استخدام الأدلة على نحو أفضل في البرامج الحالية.
ويعد الاستفادة من برامج تقديم المنح الحالية لوضع برامج منح بمستويات متدرجة حسب الأدلة إحدى الطرق للقيام بذلك. يشرح مكتب محاسبة الحكومة الأميركية (US Government Accountability Office) هذا النهج بالطريقة الآتية: "تحدد الهيئات مستويات تمويل المنح بناءً على مستوى الأدلة التي يقدمها المستفيدون على نماذجهم لتقديم الخدمات الاجتماعية أو التعليمية أو الصحية أو غيرها من الخدمات. وتُقدم المنح الصغيرة لاختبار نماذج الخدمة الجديدة والمبتكرة؛ بينما تُقدم المنح الكبيرة لتوسيع نماذج الخدمة ذات الأدلة القوية". وليس الهدف من هذا النهج بالضرورة تمكين المستفيدين الفرديين من المنح الانتقال من مستويات التمويل المتدنية إلى المستويات الأعلى؛ بل يهدف إلى تحديد نماذج الخدمة المستندة إلى الأدلة التي يمكن للآخرين تكرارها وتوسيعها. وذلك يسلط التركيز على تمويل البرامج الناجحة، وليس توفير المزيد من التمويل للحاصلين على المنح ذاتهم. كما يتطلب هذا النهج قياس الأدلة والتقييم طوال مدة المنحة، وليس في نهايتها فحسب، ما يعزز التحسين المستمر والتكيف. كما أنه يجمع بين فِرق البرنامج وفرق التقييم في بدايات العملية.
ويمكن للممولين تطبيق نهج المحفظة الابتكارية على برامج منحهم الحالية. وكما هو الحال في الاستثمار التقليدي، يمكّن نهج المحفظة الممولين من تنويع الابتكارات التي يمولونها، ما يسمح لهم بالمجازفة مع فهم صريح وتوقع مسبق بأن بعض الأنشطة الفردية ستبوء بالإخفاق. يعتمد المموّلون بدلاً من ذلك على تحديد النجاح بناءً على المحفظة الإجمالية. يقوم برنامج تطوير المشاريع الابتكارية للتنمية التابع للوكالة الأميركية للتنمية الدولية (The US Agency for International Development) بذلك إلى جانب اعتماده على نهج الأدلة المتدرجة، وبناءً على أبحاث مستقلة أنتجت محفظته الأولية من منح الأدلة المتدرجة عائداً اجتماعياً بنسبة 17: 1 على الاستثمار.
2. الدفع مقابل النتائج والإدارة التكيفية
تُعرف سندات التأثير بتمكين الجهات المانحة من الدفع مقابل النتائج، ولكن مناهج الدفع مقابل النتائج تشمل أكثر من سندات التأثير. يجب على الممولين النظر في تقديم المزيد من المنح المستندة إلى النتائج مباشرة لمقدمي الخدمات دون إشراك الممولين الذين يقدمون التمويل على نحو مسبَّق أو الكيانات ذات الأغراض الخاصة. يمكن تحقيق العديد من غايات الدفع مقابل النتائج، مثل الحد من المخاطر، وتقديم الحوافز، وتشجيع الابتكار بتقديم الخدمات من خلال المنح المباشرة، بدلاً من الاعتماد على الهياكل المعقدة التي تشمل أطرافاً متعددة واتفاقيات تمويل. ويركز هذا النهج على الابتكار الداخلي باستخدام أدوات التمويل الحالية بطرق جديدة. وهو مهم بخاصة للبيروقراطيات المؤسسية الكبيرة البطيئة في تبنّيها أدوات التمويل الجديدة والمترددة في استخدامها مثل الهيئات الحكومية.
وعلى سبيل المثال، يمكن للحكومة الفيدرالية الأميركية تقديم المزيد من المنح ذات المبلغ الثابت بدلاً من تقديم المنح بناءً على أساس سداد الكلفة التقليدية. وعلى الرغم من أن المنح ذات المبلغ الثابت ما تزال غير مستغلة بدرجة كافية للتنمية، فهي إحدى أدوات المنح الفيدرالية المتوفرة، حيث تقدم الحكومة مبلغاً محدداً من التمويل لتحقيق مجموعة من الإنجازات ولكنها لا تراجع التكاليف الفردية لكل منها. استخدم عدد قليل من الهيئات الفيدرالية المنح ذات المبلغ الثابت، وتُستخدم في العادة لتمويل الأنشطة الصغيرة مثل المؤتمرات أو التقارير البحثية التي تقلل العبء الإداري لإدارة المنح الصغيرة. كما يمكن للممولين استخدام منح المبلغ الثابت للتركيز بشكل أكبر على الأداء بدلاً من الامتثال، ما يعني التركيز على نتائج الجهود المبذولة، وليس كلفتها فحسب. على سبيل المثال، بدلاً من سداد الهيئة لكلفة أنشطة التدريب المهني (الإسهامات) بعد تتبع امتثال مقدم الخدمة لمتطلبات الإنفاق، يمكن للهيئة أن تقرر الدفع لمقدم الخدمة إذا حقق الإنجازات المطلوبة، مثل عدد معين من الأشخاص الذين يحصلون على وظائف جيدة (نتائج).
يمكن أن يكون مقدمو التمويل المستند إلى النتائج أكثر إبداعاً في كيفية تسعير مدفوعات تحقيق الإنجازات. ويقتضي ذلك التسعير بناءً على القيمة الإجمالية، وليس الكلفة المقدرة لإجراء النشاط فحسب. فالمستفيد الذي ينجح في تنفيذ برنامج يقلل من حوادث المرور على الطرق، يوفر ملايين الدولارات من كلفة الرعاية الصحية ودعم الإعاقة التي يتحملها عادةً نظام الرعاية الصحية الوطني. ويمكن للممول أن يأخذ في الحسبان هذه الوفورات في التكاليف لدفع المزيد إلى المستفيد لتحفيزه على تحمل مخاطر آلية المنح المستندة إلى النتائج. وبهذه الطريقة يمكن للممولين أن يبتكروا طرقاً لتسعير الإنجازات بناءً على القيمة الإجمالية للتدخل بمرور الوقت.
ويمنح تقديم المنح المستندة إلى النتائج مباشرة لمقدمي الخدمات المرونة في اختبار برامجهم والتعلم منها وتكييفها في أثناء التنفيذ. ويجب على أي برنامج يهدف إلى حل مشكلة اجتماعية الاستجابة باستمرار لأدلة النجاح، والتكيف مع التغييرات في بيئة التشغيل، وإعادة تخصيص الميزانيات بسرعة وسلاسة. لنأخذ برنامج كانغارو موذر كير (Kangaroo Mother Care) في الكاميرون الذي تبنى سندات التأثير على سبيل المثال. كان على مقدم الخدمة الذي سعى إلى تحسين النتائج الصحية بين الأطفال الخُدّج والمنخفضي الوزن عند الولادة، إعادة النظر في ممارسته المتمثلة في إجراء زيارات شخصية إلى المستشفى خلال جائحة كوفيد-19 والتحول إلى التقييم عن بُعد. وكان من الممكن أن يتطلب ذلك التحول إعادة تصميم البرنامج وبالتالي تأخير التمويل لو كان من البرامج الممولة بالطريقة التقليدية التي تحدد خطوات ثابتة للتنفيذ. في هذه الحالة سمحت مرونة تصميم البرنامج لمقدم الخدمة بإجراء التغييرات سريعاً وبأقل قدر ممكن من البيروقراطية، والتركيز على تقديم الرعاية الصحية الضرورية في ظروف صعبة. يمكن للممولين تطبيق مبدأ التصميم نفسه على العقود أو المنح المباشرة المستندة إلى النتائج.
3. طرق جديدة للتعاون
يمكن للتمويل المبتكر المستند إلى النتائج تغيير المعايير والتوقعات ومستويات التدقيق الخاصة بإدارة مقدمي الخدمات لبرامجهم بما يتجاوز الامتثال للأنشطة المتفق عليها سلفاً وتتبع التكاليف. إذ يؤدي الدفع مقابل النتائج إلى تعزيز طريقة عمل شديدة الوضوح ويتطلب عملية جمع بيانات مُحكمة. وعلى مقدمي الخدمات الاستعداد للتحلي بشفافية عالية، ومشاركة البيانات حول العمليات الداخلية بما يتجاوز قدرات الإدارة المالية. كما يمكنه تغيير الطريقة التي يستجيب بها مقدمو الخدمات لمقترحات التمويل؛ إذ يمكنهم تحديد النتائج التي يعتقدون أنها طموحة ومعقولة مسبقاً لتحقيقها وتقديم بيانات داعمة لتسعير كل إنجاز.
ويمكن للممولين بذل المزيد من الجهد للتعاون مع ممولين آخرين للعمل بطرق جديدة وتعاونية. ويجسد تمويل النتائج إحدى الأمثلة على ذلك. ويستلزم هذا النوع من التمويل عملية جمع الأموال من جهات مانحة متعددة تديرها جهة واحدة. ويتم الدفع إذا تم تحقيق نتائج البرنامج المحددة والمتفق عليها مسبقاً مع مقدم الخدمة. ويمكن لمقدمي الخدمة المتعددين الحصول على التمويل على مدى سنوات عدة، وبالتالي الابتعاد عن نهج استقلالية المشاريع. يجمع نهج تجميع الممولين ذوي التفكير المتشابه المهتمين بالدفع مقابل النتائج، ويعفي مقدمي الخدمة من الاضطرار إلى الامتثال لقواعد وشروط التمويل المتعددة والأهداف التنافسية المحتملة من مختلف الجهات المانحة.
تعيد هذه النُهج صياغة التمويل المبتكر ليصبح طريقة عمل تركز على المشكلة وتبدأ بفهم دقيق ومركز للتحديات التي يسعى المموّلون إلى معالجتها. وقد يكون الهيكل المالي المبتكر غير ضروري على الإطلاق في بعض الحالات. في النهاية، يجب أن تقود الأدلة طريقة دعم المموّلين للتنمية، وليس الرغبة في الابتكار من أجل الابتكار فحسب.
يجب إعادة التوازن لتجنب إلغاء التمويل المبتكر باعتباره إحدى البدع التمويلية. إن إدراك جوهر التمويل المبتكر، بما يتجاوز مجموعة المنتجات ذات الأسماء المختصرة بحروف، يعزز تلبية احتياجات الأفراد والمجتمعات الذين يتطلع المموّلون إلى خدمتهم.
يمكنكم الاطلاع على النسخة الإنجليزية من المقال من خلال الرابط، علماً أنّ المقال المنشور باللغتين محمي بحقوق الملكية الدولية. إنّ نسخ نص المقال دون إذن سابق يُعرض صاحبه للملاحقة القانونية دولياً.