كان مفهوم التنمية المستدامة مرتبطاً بالأبعاد الاقتصادية والبيئية فقط، لكن مع تزايد المخاوف بشأن عدم المساواة، أصبحت الاستدامة الاجتماعية أحد أهم عناصر التنمية التي تُعنى بالحد من الفقر، والاستثمار في رأس المال الاجتماعي، وبناء مجتمعات آمنة وعادلة.
وأمام تحديات الحفاظ على الموارد للأجيال المقبلة وتقليل البصمة البيئية؛ برزت أهمية الاستدامة الاجتماعية للحد من التأثير السلبي لأنشطة المؤسسات والشركات في الأفراد، والعمل على تعزيز فرص الرفاه والنمو للجميع.
مفهوم الاستدامة الاجتماعية وأهميتها
بدأ الاهتمام بالبعد الاجتماعي للاستدامة في ثمانينيات القرن العشرين، عندما فرضت مشكلات مثل الاحتباس الحراري وكارثة تشيرنوبل، ضرورة اتخاذ تدابير اجتماعية لحماية البيئة، وتحوّل مفهوم الاستدامة الاجتماعية إلى اتجاه استراتيجي جديد يركز على إنشاء مجتمعات أكثر شمولية، وتعزيز قدرة الأفراد على المشاركة بفاعلية في المجتمع.
وبذلك، تمثل الاستدامة الاجتماعية جميع الجهود الرسمية وغير الرسمية الرامية إلى دعم قدرة الأجيال الحالية والمستقبلية على إنشاء مجتمعات صحية وعادلة، لضمان رفع مستوى حياة الأفراد الذين يفتقرون إلى السكن والغذاء والمياه النظيفة، وتلبية احتياجاتهم الاجتماعية والثقافية التي لا ينبغي تجاهلها لصالح الرخاء الاقتصادي على المدى القصير.
لا تنحصر أهمية الاستدامة الاجتماعية في الأفراد والمجتمع فقط، بل ترتبط أيضاً بعمل الشركات والمؤسسات، فحسب الميثاق العالمي للأمم المتحدة، يجب أن تكون الاستدامة الاجتماعية جزءاً مهماً من عمل أي مؤسسة أو شركة لأنها تؤثر في جودة العلاقة مع أصحاب المصلحة، وتعد طريقة استباقية لتحديد تأثيرات الأعمال على الموظفين والعملاء والمجتمعات المحلية.
بالنسبة لمؤلف كتاب: "تأثير الشركات - قياس بصمتك الاجتماعية وإدارتها" (Corporate Impact: Measuring and Managing Your Social Footprint)، أدريان هنريكس (Adrian Henriques)، تتمثل أهمية الاستدامة الاجتماعية بتأثيرها في العلاقات بين الشركة وأصحاب المصلحة، بدءاً من مقدار ثقة الموردين بسياسة الدفع، وخلق سلاسل قيمة أكثر شمولاً، وصولاً إلى كيفية تأثير المنتج في حياة الأفراد.
تؤدي الإجراءات المرتبطة بالاستدامة الاجتماعية إلى فتح أسواق جديدة، وتحسن إنتاجية الموظفين وزيادة ولائهم للشركة أو المؤسسة التي يعملون بها، إذ أوضح استطلاع أجراه مركز بيو للأبحاث (Pew Research Center) عام 2021، أن 63% من المشاركين تركوا وظائفهم بسبب عدم توفر فرص الترقي الوظيفي، و57% منهم استقالوا نتيجة عدم الاحترام والتقدير.
يمكن أن يشكل التنوع في فِرق العمل مصدراً لابتكار منتجات أو خدمات جديدة، فعندما تلتقي الأضداد تتولّد شرارة صغيرة من الطاقة توقِد جمر الإلهام، كما وصف غاري هامل (Gary Hamel)، في كتابه: "مستقبَل الإدارة" (The Future of Management). بالمقابل، يمكن أن يؤدي الافتقار إلى الاستدامة الاجتماعية، بما في ذلك الفقر وعدم المساواة وضعف سيادة القانون، إلى عرقلة النمو الاقتصادي على المدى البعيد. لكن ما المحاور التي يجب التركيز عليها لتحقيق الاستدامة الاجتماعية؟
كيفية تحقيق الاستدامة الاجتماعية
يكمن جوهر الاستدامة الاجتماعية في مساعدة الأفراد في التغلب على العقبات التي تمنعهم من المشاركة في المجتمع وتشكيل مستقبلهم، وفي هذا الإطار حدد الاقتصادي الهندي الحائز على جائزة نوبل أمارتيا سين (Amartya Sen)، عدة أبعاد للاستدامة الاجتماعية، أهمها:
- الإنصاف: توفير فرص متساوية لجميع أفراد المجتمع، وبالأخص الفقراء والأقل حظاً.
- التنوع: توفير أنظمة وعمليات تعزز الترابط داخل المجتمع وخارجه على المستوى الرسمي وغير الرسمي والمؤسسي.
- جودة الحياة: تلبية الاحتياجات الأساسية ورفع المستوى المعيشي المرتبط بالصحة والسكن والتعليم والعمل والسلامة.
- النضج: تقبل الفرد مسؤولية النمو والتحسين من خلال تعزيز أنماط التواصل والتعليم غير المباشر والاستكشافات الفلسفية.
وعليه، يحتاج تحقيق الاستدامة الاجتماعية توجهاً استراتيجياً يقوم على محورين رئيسيين:
1. معالجة أوجه عدم المساواة
تعد المساواة من أهم القضايا الاجتماعية التي تؤثر في الاستدامة، إذ يعاني الأشخاص ذوو الأصول إفريقية في أميركا اللاتينية من مستويات فقر عالية مقارنةً بغيرهم، كما أن 90% من الأطفال ذوي الهمم في البلدان النامية غير ملتحقين بالمدارس، فضلاً عن ذلك، يتسبب التمييز بين الأفراد على أساس النوع أو العمر أو العِرق بتكاليف اقتصادية باهظة، فالخسائر الناتجة عن عدم المساواة بين الجنسين تُقدر بنحو 160.2 تريليون دولار.
ومن الجهود المبذولة في هذا المحور، البرنامج الذي طورته شركة الاتصالات الأميركية فيرايزون (Verizon) لصقل المهارات وخلق فرص عمل لـ 500 ألف خريج من المجتمعات الضعيفة في أميركا بحلول عام 2030، وعليه شكلوا أكثر من 50% من القوى العاملة للشركة، وكذلك تعاون شركة غاب (Gap) للألبسة مع مؤسسة عمل أفضل (Better Work) في برنامجها لتعزيز المساواة بين الجنسين في قطاع صناعة الملابس.
2. المشاركة المجتمعية
يبدأ إحداث الفرق من النطاق المحلي، وبالتالي تتحقق الاستدامة الاجتماعية عندما يأخذ سكان منطقة معينة دوراً أكبر في تقديم الخدمات والتخطيط لاحتياجاتهم المستقبلية، وتحديد خيارات التنمية الجديدة في مناطقهم.
عند وضع البرامج التنموية يواجه صانعو السياسات صراعاً بين مجموعات تسعى إلى حماية جودة المجتمع، وأخرى تعمل لاستغلال الموارد المحلية كوسيلة لتحقيق التنمية، لذا يمكن اعتماد النهج التشاركي لتحسين الخدمات المجتمعية ومساعدة الأفراد الأكثر ضعفاً في تعزيز إمكاناتهم وتطوير سبل عيشهم، وتُعد التجربة التنموية لقرية تفهنا الأشراف، الواقعة في مركز ميت غمر بمحافظة الدقهلية المصرية، مثالاً ناجحاً على مساهمة المشاركة المجتمعية في التنمية المحلية.
وتبرز أهمية المشاركة المجتمعية بشكل أكبر خلال الأزمات، مثل جائحة كوفيد-19، حيث شارك المواطنون في أفغانستان رسائل الوقاية من الجائحة مع الأشخاص الأكثر تأثراً بالأزمة، بما في ذلك اللاجئين والنازحين داخلياً وذوي الهمم والنساء الفقيرات والبدو.