تدخل معايير الحوكمة في صلب استدامة الأعمال، وتطبيقها يمثل ضرورة لتحقيق أهداف التنمية، ومع اقتراب استضافة قطر لبطولة كأس العالم لكرة القدم 2022؛ نستعرض في هذا المقال كيفية دمج معايير الحوكمة في التحضيرات لمشاريع هذه البطولة.
حوكمة كأس العالم
تتجلى الحوكمة بمدى الالتزام الاجتماعي والبيئي للشركات في عملياتها وخدماتها، ومنهجية تعاملها مع مُختلف الأطراف المعنية، بدءاً من الموارد البشرية وصولاً إلى الشركاء والموردين، وتكتسب الحوكمة في قطر ودول الخليج أهمية خاصة لاعتبار هذه الدول مركز ثقل عالمي للأنشطة والعمليات التجارية والاستثمارية واللوجستية، وبدأت الشركات في منطقة الخليج العمل على الحوكمة والممارسات البيئية والاجتماعية انطلاقاً من ضرورة التخطيط الاستراتيجي لمواجهة المخاطر الناشئة، لكن لا يزال أمامها مجال للنمو واستخدام مواردها بطريقة أفضل.
وتمثل بطولة كأس العالم في قطر فرصة فريدة لإحداث تغيير إيجابي ونمو مجالات الأعمال المستدامة بيئياً وذات تأثير اجتماعي، إذ ترى مجموعة أكسفورد للأعمال في تقريرها حول التحوّل الاقتصادي المستدام في قطر، أن استضافة قطر لأول بطولة لكأس العالم لكرة القدم خالية من الانبعاثات الكربونية، يهيئ للدولة منصة عالمية لاستعراض مدى التقدم الذي يتجسد يوماً بعد يوم في التنمية الاقتصادية المستدامة.
استراتيجية من 5 ركائز
منذ فوزها باستضافة كأس العالم 2022؛ بدأت قطر الاستفادة من التقدم الحاصل بأنظمة الحوكمة لوضع استراتيجية الاستدامة ودمجها في الجدول الزمني الرئيسي للبطولة، وعملت اللجنة العليا للمشاريع والإرث، واللجنة المحلية المنظمة لقطر 2022 بالتعاون مع الاتحاد الدولي لكرة القدم، فيفا (FIFA) على تقديم نموذجاً جيداً للحوكمة والممارسات التجارية الأخلاقية قائم على الركائز الخمس الأساسية التالية:
1. الحفاظ على نظام إدارة استدامة فعّال
يساعد وضع هيكلية واضحة للحوكمة في استمرارية الاستدامة، وخططت الجهات المنظمة للبطولة لذلك من خلال:
- وضع خطة عمل لتحقيق استراتيجية الاستدامة، بما في ذلك المسؤوليات الرئيسية ومؤشرات الأداء والأهداف لكل مبادرة، بهدف التصدي لأي مخاطر أو نتائج غير مرغوب بها.
- المشاركة الدورية والهادفة مع أصحاب المصلحة المحليين والدوليين، لمناقشة التقدم المحرز في تنفيذ الاستراتيجية وسياسة الاستدامة، وهذا يرتبط بتحديد أصحاب المصلحة ومعرفة توجهاتهم لاختيار أنظمة التواصل الفعّالة معهم وإشراكهم في تقديم المبادرات ذات الصلة.
- التدقيق ومراقبة الأداء وتقييم مطابقة النتائج الفعلية مع أهداف الاستدامة والمعايير العالمية لإدارة العمليات، وانعكس ذلك في حصول البطولة على شهادة الأيزو 20121 في إدارة الفعاليات المستدامة، لتكون أول نسخة في تاريخ بطولات كأس العالم لكرة القدم تحصل على هذه الشهادة.
2. تطبيق ممارسات الشراء والترخيص المستدامة
يرتبط حدث ضخم مثل كأس العالم بتقديم المئات من المنتجات والخدمات عبر سلاسل التوريد المختلفة الُمرخص لها والجهات الراعية، بما في ذلك خدمات البناء، وإدارة المرافق، ومعدات تكنولوجيا المعلومات، وخدمات النقل والأمن والنظافة وإدارة النفايات، لكن الأخذ بالجوانب البيئية والاجتماعية، والاقتصادية والأخلاقية وراء شراء المنتجات والخدمات، يعد عنصراً حيوياً لاستدامة البطولة.
تتطلب إدارة مخاطر استدامة سلسلة التوريد، فهم الموردين لضرورة مراقبة فئة التوريد الخاص بهم وتقييمها على أساس الاستدامة، لذا شملت قواعد التوريد المستدام في كأس العالم التأكد من تطبيق المعايير ذات الصلة على الموردين ومواقع الإنتاج والمستودعات، واتباع إجراءات الشراء المستدامة، وأثمرت جهود الجهات المنظمة في هذا الإطار بحصول مقر بطولة كأس العالم قطر في الدوحة على شهادة البناء المستدام في العمليات، كأول برج إداري في قطر يحقق هذا الإنجاز، كما نجحت ملاعب البطولة الثمانية في الحصول على شهادات جي ساس (GSAS) من فئة أربع نجوم على الأقل في التصميم والبناء.
3. ترسيخ ثقافة الامتثال للقانون
تدخل العديد من الهيئات والمؤسسات والشركاء في تنفيذ مشاريع كأس العالم، ولضبط هذه العملية المعقدة، ركزت الجهات المنظمة على تأسيس ثقافة الامتثال بناءً على المتطلبات القانونية والسياسات التنظيمية، ومعايير الشفافية والمساءلة وممارسات الحوكمة والإدارة الفعالة، ومكافحة الرشوة والفساد، ويأتي ذلك ترجمةً لتقدم دولة قطر في هذا الجانب، إذ حلت بالمرتبة الثانية على مستوى منطقة الشرق الأوسط والمرتبة 31 عالمياً بمؤشر مدركات الفساد للعام 2021، ومن جهة أخرى، كانت قطر أول دولة خليجية تطرح قانون حماية البيانات عام 2016.
4. تغيير السلوك المستدام
يكمُن مفتاح نجاح فعاليات كأس العالم في إدراج الاستدامة في كافة عملياتها، لما لها من أثر إيجابي بعيد المدى على كافة عناصر البطولة واللاعبين والمشجعين والعاملين والمجتمعات المحلية والشركاء، لذا، سعت اللجنة العليا للإرث والمشاريع، لخلق إرث مبني على التدخلات السلوكية التي توجه القرارات اليومية للجهات المنظمة والمُشارِكة نحو تأثير اجتماعي أكبر ونمو شامل وحوكمة جيدة، فأطلقت مؤسسة السلوك من أجل التنمية (B4Development Foundation. B4D) في عام 2016، لتعزيز الممارسات المجتمعية التي تركز على الاقتصاد السلوكي، والاستفادة من علم السلوك البشري في صياغة البرامج والمبادرات ودفع أصحاب المصلحة المشاركين في البطولة نحو خيارات أكثر استدامة تساهم في تنفيذ المبادرات وتحقيق الأهداف المتعلقة بالشمولية والبيئة المستدامة والصحة والسلامة للمشاركين والحضور والمجتمع.
5. الصحة المستدامة
وضعت جائحة كوفيد-19 الأمن الصحي على رأس أولويات الدول في التخطيط والتنظيم لأي برامج أو فعاليات، وفي هذا الإطار، تعاونت منظمة الصحة العالمية مع دولة قطر والاتحاد الدولي لكرة القدم، في مشروع كأس العالم للصحة 2022، لتكون البطولة حدثاً صحياً وآمناً وتجربة يمكن الاستفادة منها تقديم أحداث رياضية صحية وآمنة في المستقبل.
بدورها، وضعت وزارة الصحة العامة نظام حوكمة على مستوى القطاع الصحي لضمان جاهزية القطاع لتقديم خدمات الرعاية الصحية خلال البطولة في الملاعب ومواقع المشجعين أو حتى التجمعات الجماهيرية، وشملت الخطة عدة جوانب منها، تخصيص سبعة مراكز صحية لتقديم الدعم أثناء الحوادث المحتملة خلال المباريات، وضمان جاهزية الخدمات المساندة خلال الحدث مثل سلامة الغذاء والوقاية من العدوى ومكافحتها، والتنسيق في حالات الطوارئ مع الجهات الأخرى.
ستغير هذه الجهود طريقة تنظيم البطولات ومختلف الفعاليات الرياضية الكبرى المقبلة، وستعمل على إرساء إرث مستدام قائم على معايير الحكومة والشفافية والمساءلة بما يسهم في تعزيز أهداف التنمية المستدامة.