ما مدى قوة مؤسسات المناصرة الرقمية؟

مؤسسات المناصرة الرقمية
shutterstock.com/3rdtimeluckystudio
استمع الى المقالة الآن هذه الخدمة تجريبية
Play Audio Pause Audio

تختلف مؤسسات المناصرة الرقمية عن العديد من المنظمات غير الحكومية التقليدية مثل أوكسفام (Oxfam) وغرينبيس (Greenpeace). حيث يشارك معظم المنظمات غير الحكومية في حملات المناصرة مع التزام طويل الأمد، ويقود تلك الحملات موظفون خبراء. في المقابل تستخدم مؤسسات المناصرة الرقمية عمليات التحليل الرقمية لتحديد أبرز القضايا الحالية وتسعى إلى حشد سريع لأعداد كبيرة من المناصرين بهدف الضغط على السياسيين. كما تسعى مؤسسات المناصرة الرقمية إلى تسخير “القوة القائمة على التسلسل الشبكي” بحيث يمكنها أن تبدأ حملات سريعة حول قضايا جديدة مع التخلي عن الحملات القديمة التي لا تحظى بتأييد كافٍ. وتستند مؤسسات المناصرة الرقمية إلى العولمة في عملها وتعالج في كثير من الأحيان المشكلات العابرة للحدود لكن من منطلق التركيز على الأهداف المحلية. ويشكل هذا الجيل الجديد من الناشطين شبكة قوية على المستويات المحلية، لكنهم يعدّون الدولة مركز القوة.

في هذا المقتطف من كتابي المنشور مؤخراً أقدّم للقراء بعض مؤسسات المناصرة الرقمية مثل موف أون في الولايات المتحدة (MoveOn.org) وغيت أب في استراليا (GetUp) وكامباكت في ألمانيا (Campact). وتستخدم هذه المؤسسات جميعها البريد الإلكتروني والعرائض على الإنترنت ووسائل التواصل الاجتماعي لحشد المناصرين بسرعة، ولديها تأثير في صناعة القرار على المستوى المحلي والدولي. وبينما وثّق باحثون مثل ديفيد كاربف، تأثير المؤسسات الفردية على المستوى المحلي، لم يتتبع الكثير منهم كيف تُبنى وهيَّأ ناشطون من حول العالم هذا النموذج المميز للتنظيم الرقمي. وتنشط مؤسسات المناصرة الرقمية حالياً في أكثر من 20 دولة من جنوب إفريقيا إلى السويد ومن بولندا إلى نيوزيلندا وتضم أكثر من 20 مليون عضو في جميع أنحاء العالم. يستند الكتاب إلى ملاحظات من مشاركين عدة في مؤسسات للمناصرة الرقمية في أستراليا والنمسا وكندا وألمانيا ونيوزيلندا وبولندا والسويد والمملكة المتحدة بالإضافة إلى إحصائيات وصفية لحملاتهم وأكثر من 100 مقابلة مع ناشطين رقميين. نينا هول

في 12 أغسطس/آب 2017، تجمع متطرفون من ذوي البشرة البيضاء في شوارع مدينة شارلوتسفيل في ولاية فيرجينيا في مظاهرة حملت شعار “وحدوا اليمين”. وفي المقابل خرج متظاهرون من اليسار للاحتجاج على مظاهرة اليمين المتطرف تلك. وبدأت أحداث العنف عندما نفّذ أحد مؤيدي مظاهرة “وحدوا اليمين” عملية دهس بين صفوف المتظاهرين من اليسار وقتل أحدهم. وعلّق الرئيس الأميركي دونالد ترامب حينها أن اللوم يقع على “كلا الجانبين” ورفض إدانة عنصرية وعنَّف اليمين المتطرف (ميريكا Merica، 2017). تعرض ترامب لانتقادات واسعة وبرزت مطالبات للعديد من الرؤساء التنفيذيين الذين يشغلون مناصب في مجلسين استشاريين للأعمال في البيت الأبيض تحثهم على الاستقالة من مناصبهم. ففي الولايات المتحدة أطلقت كل من مؤسستي المناصرة الرقمية موف أون وكلور أوف تشينج (Color of Change) حملة تحثُّ الرئيسة التنفيذية لشركة بيبسي إندرا نويي وقادة أعمال آخرين على الاستقالة. وفي هذه الأثناء أطلقت مؤسسة المناصرة الرقمية سكيفتيت (Skiftet) في السويد حملة استجابة سريعة تطالب الرئيس التنفيذي لشركة ثري إم (3M) السويدي الأصل إنجي تولين بالاستقالة من منصبه في المجلس الاستشاري للأعمال في البيت الأبيض. حيث أرسل المئات من السويديين المدفوعين من سكيفتيت رسائل بريد إلكتروني إلى إنجي تولين مشيرين فيها إلى أن ترامب “فشل في إدانة المتطرفين اليمينيين والنازيين” (ميتتلمان Mittelman وآخرون، 2017). أُضيفت هذه الجهود إلى الضغط الشعبي الواسع في الولايات المتحدة ما أدى إلى انهيار المجلسين بسرعة بعد عدد من الاستقالات.

وعلى الرغم من أن مؤسستَي موف أون وسكيفتيت متباعدتان جغرافياً، فإنهما تحملان قواسم مشتركة كثيرة. فكلتاهما تدير حملاتها عبر البريد الإلكتروني والعرائض على الإنترنت وتويتر وفيسبوك ومقاطع الفيديو السريعة الانتشار. وتضيف على نشاطاتها عبر الإنترنت تنظيم مسيرات ومظاهرات ووقفات احتجاجية على أرض الواقع للضغط من أجل التغيير. وهما عضوان في مجموعة متنامية من مؤسسات مناصرة رقمية تعمل على نحو مستمر وتمتلك موظفين محترفين. فمؤسسة موف أون على سبيل المثال تدير الحملات منذ عام 1998. ويمتد نشاط مؤسسة سكيفتيت السويدية التي تضاهي مؤسسة موف أون منذ عام 2014. ويتمتع العديد من مؤسسات المناصرة الرقمية بأعداد كبيرة من الأعضاء، حيث تضم مؤسسات موف أون الأميركية وكامباكت الألمانية وغيت أب الأسترالية أكثر من مليون عضو. وتتميز بقِدمها عن الحركات الاجتماعية المهمة التي تعمل بشكل منفرد مثل مؤسسة إنديغنادوس (Indignados) في إسبانيا أو أوكيوباي وول ستريت (Occupy Wall Street) في الولايات المتحدة (جيربادو (Gerbaudo)، 2012؛ توفيكسي (Tufekci)، 2017).

وتَعد وسائل الإعلام والسياسيون وبعض الأكاديميين مؤسسات المناصرة الرقمية جهات فاعلة ومؤثرة. في عام 2016 اختارت صحيفة أوستراليان فاينانشال ريفيو (Australian Financial Review) مؤسسة غيت أب كواحدة من أفضل عشر جهات فاعلة تتمتع بـ “قوة خفية” في أستراليا. حيث حشدت مؤسسة كامباكت الرأي العام بقوة في ألمانيا ضد اتفاق الشراكة التجارية والاستثمارية العابرة للأطلسي (TTIP) (باوير (Bauer) 2016). كما كانت مؤسسة موف أون إحدى “المؤسسات المناصرة الرائدة” التي حشدت الناس ضد حرب العراق في الولايات المتحدة (بوسباي (Busby)، 2010؛ هنري آند روجاس (Heaney & Rojas)، 2007). كما ساعدت مؤسسة ليندناو (Leadnow) الكندية للمناصرة الرقمية في إقالة رئيس الوزراء ستيفن هاربر (Stephen Harper) في الانتخابات الفيدرالية الكندية لعام 2015 (فرومين (Vromen)، 2017).

وانتشر هذا النموذج الجديد لمؤسسات المناصرة حول العالم من الولايات المتحدة إلى أوروبا وأستراليا وإفريقيا وآسيا وأميركا اللاتينية والشرق الأوسط. وصرحت 19 مؤسسة للمناصرة الرقمية بأنها تمتلك أكثر من 20 مليون عضو. وتوزعت مؤسسات للمناصرة الرقمية في عام 2021 في البلدان الآتية: النمسا مؤسسة آوفشتيهين (aufstehn)، أستراليا مؤسسة غيت أب (GetUp!)، كندا مؤسسة ليندناو (Leadnow)، ألمانيا مؤسسة كامباكت (Campact)، المجر مؤسسة أهانغ (aHang)، أيرلندا مؤسسة أبليفت (Uplift)، إيطاليا مؤسسة بروغريسي (Progressi)، فرنسا مؤسسة لو موفمينت (le Mouvement)، نيوزيلندا مؤسسة أكشن ستايشن (ActionStation)، هولندا مؤسسة دو خودوزاك (De Goede Zaak)، بولندا مؤسسة آكتسيا ديموكراتسيا (Akcja Demokracja)، رومانيا مؤسسة دي كليك (De.clic)، صربيا مؤسسة كريني بروميني (Kreni Promeni)، جنوب إفريقيا مؤسسة أمانديلا (Amandla)، السويد مؤسسة سكيفتيت (Skiftet)، سويسرا مؤسسة كامباكس (Campax)، المملكة المتحدة مؤسسة 38 ديغريز (38 Degrees) وفي الولايات المتحدة مؤسسة أس (US). وبينما درس علماء التواصل السياسي ظهور هذه المؤسسات في سياقاتهم المحلية، ركز القليل منهم على الأبعاد الدولية للمناصرة الرقمية وما يعنيه هذا النموذج الجديد للمناصرة في العلاقات الدولية (تشادويك ودينيس (Chadwick & Dennis) 2016؛ كاربف (Karpf)، 2012؛ فرومن (Vromen)، 2017).

لي ثلاث غايات من تأليف هذا الكتاب. أولاً، أريد أن أفهم كيف ظهر النموذج ذاته من مؤسسات المناصرة في تلك البلدان المختلفة. وما وراء الانتشار العالمي لمؤسسات المناصرة الرقمية؟

ثانياً، رغبتي في الإسهام في نظريات المناصرة في العلاقات الدولية التي تركز عادة على المنظمات غير الحكومية الدولية الكبيرة مثل أوكسفام وغرينبيس، أو شبكات المناصرة العابرة للحدود التي تركز على قضايا محددة مثل تغير المناخ أو حقوق الإنسان أو الألغام الأرضية. وأتساءل إلى أي مدى تتطلب مؤسسات المناصرة الرقمية وجود نظريات مناصرة جديدة في علوم العلاقات الدولية؟

ثالثاً، استكشاف إن كانت مؤسسات المناصرة الرقمية تقوم بحملات عابرة للحدود وكيف تقوم بذلك. يشير العديد من الباحثين إلى أن الإنترنت سيتيح المزيد من التواصل والتعبئة العابرة للحدود (كيك وسيكينك (Keck & Sikkink)، 1998). حتى إن بعضهم أشار إلى أن التكنولوجيا الرقمية يمكن أن تخلق “مجتمعاً مدنياً عالمياً” لأن “العديد من الناشطين المدنيين عبر الحدود يعدون أنفسهم مواطنين عالميين بالإضافة إلى صفتهم كمواطنين في دولهم، ويمكن أن يعدوا أنفسهم مواطنين عالميين أكثر من كونهم مواطني دولهم” (شولتيه (Scholte)، 1999، p. 16). وتنطلق هذه الآراء من أن التواصل الدولي السريع وغير المكلف سيؤدي إلى تعزيز التضامن الدولي ونمو العمل الجماعي العابر للحدود.

وتشكل مؤسسات المناصرة الرقمية أمثلة واضحة للحملات العابرة للحدود. وتتشارك المؤسسات الواردة في هذا الكتاب قيماً تقدمية مشتركة وتعمل في عالم شديد الترابط والعولمة تمتد فيه القضايا عابرةً للحدود. حيث تستطيع هذه المؤسسات التواصل بسهولة عبر الحدود وتشارك مواد الحملات وذلك بفضل البريد الإلكتروني ووسائل التواصل الاجتماعي. بالإضافة إلى ذلك، تنتمي هذه الشركات إلى شبكة عابرة للحدود تسمى شبكة المشاركة التقدمية عبر الإنترنت “أوبن” (the Online Progressive Engagement Network (OPEN)). وكثيراً ما يلتقي الناشطون الرقميون عبر هذه الشبكة وجهاً لوجه ويتبادلون التقنيات والمهارات والأساليب الجديدة عبر الإنترنت. وتبلور هذه المؤسسات علاقات وثيقة من خلال عقد مؤتمرات قمة منتظمة وتبادل الموظفين والتشاركية في نجاح الحملات أو إخفاقها. أبحث في هذا الكتاب في طريقة تنفيذ هذه المؤسسات لحملاتها الجماعية حول القضايا العابرة للحدود ومتى تنفذها وما أسبابها.

الفكرة العامة

يقدم هذا الكتاب فكرتين نظريتين أساسيتين. تتمثل الأولى في تحدي مؤسسات المناصرة الرقمية لبعض نظريات العلاقات الدولية المتعلقة بالمناصرة. وتكتسب هذه المؤسسات قوتها ووزنها من قدرتها على حشد المناصرين بسرعة عبر الإنترنت وعلى أرض الواقع وليس من خبرتها في معالجة قضايا معينة. وغالباً ما تنفذ حملات الاستجابة السريعة بحيث تنتقل من قضية إلى أخرى استناداً إلى اهتمامات أعضائها. في المقابل تلتزم غالبية المنظمات غير الحكومية التقليدية بقضايا معينة، وتكتسب القوة والوزن بناءً على معرفتها بهذه القضية.

ثانياً، أعتقد أن مؤسسات المناصرة الرقمية تتعاون بانتظام عبر الحدود، ولكن نادراً ما تنفذ حملات جماعية متزامنة حول نفس القضية ولنفس الأهداف. لكنها تتشارك في التمويل والأساليب والتكنولوجيا والرسائل لتعزيز حملاتها على المستوى المحلي. وهي تركز على تعبئة الجماهير المحلية للضغط على صانعي القرار المحليين وذلك لأنها تعد الدول أقوى اللاعبين على الساحة العالمية. وتبلور أشكالاً جديدة من الحملات الرقمية العابرة للحدود والحملات على أرض الواقع في آن واحد حول القضية ذاتها لكن بأهداف مختلفة على المستوى المحلي. وسأوجز هاتين الفكرتين هنا بمزيد من التعمق.

قوة مؤسسات المناصرة الرقمية

غالباً ما يرى الباحثون في العلاقات الدولية أن قوة المنظمات غير الحكومية مستمدة من خبرتها ووزنها في قضايا معينة (آلان بي بي (B.B. Allan)، 2017؛ هاس (Haas)، 1990؛ ستراوب (Stroup)، 2012). حيث تركز غالبية المنظمات غير الحكومية وتلتزم بمجموعة معينة من القضايا؛ فمثلاً تركز غرينبيس على البيئة وتركز منظمة العفو الدولية على حقوق الإنسان. وعادة ما تبدأ عملية صنع القرار في الحملة من الأعلى إلى الأسفل حيث يحدد الموظفون المحترفون القضايا التي يجب التركيز عليها. وتشارك المنظمات غير الحكومية بانتظام في وضع جداول الأعمال وجهود التوعية لتثقيف الجمهور وصناع القرار حول القضايا الجديدة (كيك وسيكنك، 1998). وتتبادل معارفها في اختصاصاتها المختلفة بهدف الوصول إلى المنظمات الدولية وصناع القرار (تولبيرغ (Tallberg) وآخرون، 2015). وغالباً ما تشترك المنظمات غير الحكومية في حشد التأييد عبر السعي لعقد اجتماعات مع صانعي القرار للتأثير عليهم بصورة مباشرة. وثمة العديد من الاستراتيجيات الأخرى التي يمكن للمنظمات غير الحكومية المشاركة فيها مثل مراقبة متابعة الحكومات للاتفاقيات الدولية و”فضح” الحكومات التي لا تفي بوعودها ورفع القضايا أو تنفيذ أحكامها مباشرة دون العودة للقضاء (أخذ حقها بيدها) (إيليستراب – سانجيوفاني وبونداروف (Eilstrup‐Sangiovanni & Bondaroff)، 2014؛ موردي وأوربيلاينين (Murdie & Urpelainen)، 2015؛ برينسن، 1995؛ سيتزر وبرينيز، 2019). وتقوم المنظمات غير الحكومية بتثقيف الرأي العام وحشد “الحركات ذات الأهداف الأخلاقية” لتضغط على حكوماتها (بوسباي، 2010). تتضمن كل هذه الاستراتيجيات التزام المنظمات غير الحكومية بقضاياها الخاصة على نحو مستدام وتعزيز خبراتها في هذه القضايا. ولم يبدأ علم العلاقات الدولية بعد بدراسة تأثير العصر الرقمي في استراتيجيات مؤسسات المناصرة وقوتها.

وعلى عكس المنظمات غير الحكومية، تبني مؤسسات المناصرة الرقمية قوتها القائمة على التسلسل الشبكي من خلال تعبئة الناس على نحو سريع عبر الإنترنت وعلى أرض الواقع (هول وآخرون، 2020). فلديها قوائم تحوي مئات الآلاف بل الملايين من الأعضاء. وبمقدورها أن تصنف أعضاءها بحسب ميولهم وأن تعد حملات جديدة على نحو سريع وذلك بفضل البريد الإلكتروني ووسائل التواصل الاجتماعي والتحليلات الرقمية (فراوسين وهالبين (Fraussen & Halpin)، 2017). ولديها الخبرة في الاستجابة السريعة والمناصرة الرقمية بدلاً من الخبرة المختصة بقضايا محددة تنفذ من أجلها الحملات. لذا يمكنها بسهولة تبديل وجهة الحملات إلى قضايا ملحة جديدة لأنها تقوم بتعيين موظفين لكل قضية على حدة.

وتمتلك مؤسسات المناصرة الرقمية نموذجاً تنظيمياً متميزاً جداً عن معظم المنظمات غير الحكومية التقليدية. حيث يفوض أعضاؤها بعملية صناعة القرار فيقررون ما القضايا والحملات التي يجب أن تكون ذات أولوية. ثم يعطي هؤلاء الأعضاء الشرعية والقوة للحملات عبر نشاطاتهم. وقوتها مثل قوة التيار على حد تعبير ناشط رقمي حيث يقول: “يشارك في صنعها الكثيرون، مفتوحة وتشاركية ويديرها الأقران، يتم تحميلها ومن ثم توزيعها، وتكون أقوى عند توجيهها مثل الماء أو الكهرباء، وليس الهدف من القوة الجديدة تخزينها بل توجيهها” (هيمانز وتيمز (Heimans & Timms)، 2018، الصفحة 8). في المقابل، يعتقد الناشطون الرقميون أن: “القوة القديمة مثل المال، يمتلكه القليل من الناس، وبمجرد اكتسابه تتم حراسته بحذر ويجمع الأقوياء كميات كبيرة منه لكي ينفقوه فيما بعد، مغلق ولا يمكن الوصول إليه ويديره القادة. يتم تنزيله ومن ثم الاحتفاظ به” (هيمانز وتيمز، 2018). التمييز بين ثنائية القوة الجديدة والقديمة بسيط إلى حد ما، لكنه يؤكد الفرق الأساسي بين المنظمات غير الحكومية التقليدية (حيث تكون سلطة صناعة القرار في أيدي الموظفين المحترفين) ومؤسسات المناصرة الرقمية (التي تسعى إلى خلق شكل من أشكال السلطة التشاركية التي يقودها الأعضاء).

يوضح هذا الكتاب كيف سخّرت مؤسسات المناصرة الرقمية الإنترنت لبناء قوة جماعية وتعزيز السياسات التقدمية. وبذلك يسهم هذا الكتاب في المناقشات حول مدى قوة المنظمات غير الحكومية والجهات الفاعلة في مجال المناصرة في الحوكمة العالمية. درس عدد كبير من الباحثين مدى قوة الجهات الفاعلة غير الحكومية في مجالات قضايا محددة، بما في ذلك سياسات تغير المناخ والهجرة العالمية وحوكمة أزمة اللاجئين وتسييس التجارة. (بي بي آلان (B. B. Allan)، 2017؛ جيه آلان (J. Allan)، 2021؛ هادن (Hadden)، 2015؛ هادن وبوش (Hadden & Bush)، 2020؛ باوير (Bauer)، 2016؛ بيفري وبوليتي (Bièvre & Poletti)، 2017؛ ألياسون (Eliasson)، 2019؛ كيه وأيفانس (Kay & Evans)، 2018؛ سيليس بروج (Siles-Brügge)، 2017؛ سترانج وسيليس بروج (Siles-Brügge & Strange)، 2020؛ براديلي (Bradely)، 2020؛ ديلا بورتا (della Porta)، 2018؛ هول، 2017؛ روثر وستينهيلبير (Rother & Steinhilper)، 2019؛ تينات وولف (Tennant & Wolff)، 2018). كما يبحث الكتاب في كيفية إسهام مؤسسات المناصرة الرقمية في المناخ ومكافحة التجارة الحرة وحركات اللاجئين. ويدرس أسباب نجاحها في حشد المناصرين في حالات وفشلها في حالات أخرى. لدى الباحثين في العلاقات الدولية الكثير لتعلمه عن تأثير الحركات “التي يقودها الناس” في الحوكمة العالمية.

المناصرة العابرة للحدود مقابل المناصرة المحلية في العصر الرقمي

تمتلك مؤسسات المناصرة الرقمية التي أدرسها جميع العوامل المناسبة لإدارة الحملات العابرة للحدود. أولاً، تتشارك هذه المؤسسات القيم التقدمية والاهتمام بالقضايا الدولية مثل التغير المناخي واللاجئين والاتفاقيات التجارية والصراعات. ثانياً، أنشأت شبكة قوية عابرة للحدود “أوبن”. تجتمع وجهاً لوجه على نحو منتظم وهناك مستوى عالٍ للغاية من الثقة بين الناشطين، والتي لاحظتها على مدى خمس سنوات من دراستها. تتشارك المؤسسات في هذه الشبكة التمويل والموظفين والتكنولوجيا والاستراتيجيات وعملية إرسال الرسائل في الحملات على نحو مستمر. وتبذل الكثير في سبيل نجاح المؤسسات الشقيقة حول العالم.

كما تتشارك مؤسسات المناصرة الرقمية نفس نموذج المناصرة: قائمة على التكنولوجيا الرقمية ومتعددة القضايا ويقودها الأعضاء وذات استجابة سريعة. ويمكنها بسهولة تبادل الأساليب والاستراتيجيات والتقنيات بسرعة وبتكلفة منخفضة. فمن السهل على مؤسسة غيت أب في أستراليا مشاركة رسائل البريد الإلكتروني أو العرائض على الإنترنت أو مقاطع الفيديو على فيسبوك أو التغريدات مع المؤسسات الأخرى ضمن هذه الشبكة. ويتوقع منها الباحثون في العلاقات الدولية أن تنفّذ حملات جماعية عابرة للحدود، وبخاصة في حال تم حظرها محلياً (سيكينك، 2005).

وعلى الرغم من أن مؤسسات المناصرة الرقمية جزء من شبكة عابرة للحدود وتعمل في عصر رقمي تسوده العولمة، أرى أنها تستهدف الدول دائماً في نشاطها. فهي تنفذ الحملات حول القضايا الدولية في كثير من الأحيان، لكنها نادراً ما تستهدف المؤسسات الدولية. وتتبادل مؤسسات المناصرة الرقمية الأفكار بانتظام مع الحلفاء الدوليين، لكنها نادراً ما تدير الحملات معهم. وذلك لأن الناشطين الرقميين يرون الدولة القومية أهم جهة فاعلة سياسياً. وتستمد قوتها من حشد المواطنين للضغط على صناع القرار المحليين.

كما تعد مؤسسات المناصرة الرقمية جزءاً من تحول كبير يبتعد عن المناصرة التي تركز على مؤتمرات القمة الدولية ويتجه نحو الحملات “الموزعة رقمياً”. تحدث هذه الحملات في نفس الوقت ولكن بأهداف وطنية أو محلية مختلفة. على سبيل المثال، اشتركت مؤسسات كومباكت وغيت أب و موف أون وغيرها من مؤسسات المناصرة الرقمية مع مؤسسة 350 دوت أورغ (350.org) ومؤسسة فرايديزفورفيوتشر (FridaysForFuture#) للمساعدة في حشد الملايين من أجل الأيام العالمية للعمل المناخي. اقترح الناشطون ذوو الخبرة أنه من المرجح نجاح “الحملات الشبكية الموجهة”، التي تحمل هيكلاً مركزياً وتخطط لشبكة واسعة وتحشدها لتنفيذ الحملات، في إحداث التغيير، وذلك لأنها “تزاوج بنجاح بين القوة الجديدة والقوة القديمة” (هيمانز وتيمس، 2018؛ موغوس ولياكاس (Mogus & Liacas)، 2016، ص 6). يستخدم الناشطون الرقميون المنصات الرقمية لمضاعفة عدد رسائلهم وتوسيع التعبئة على المستوى المحلي، والأهم من ذلك، توزيع الأشكال التنظيمية الجديدة. لدى الباحثين في العلاقات الدولية الكثير لتعلمه عن الطرق العديدة التي يمكن أن يتغير بها الاحتجاج العابر الحدود وما هو الدور الذي تؤديه التكنولوجيا الرقمية في ذلك (ديلا بورتا وكريسي (della Porta & Kriesi)، 1999؛ تارو (Tarrow)، 2005؛ تارو وماك آدم (Tarrow & McAdam)، 2005).

يسهم هذا الكتاب أيضاً في نقاشات واسعة عن التواصل السياسي والحركة الاجتماعية والعلوم السياسية. تعد مؤسسات المناصرة الرقمية جزءاً من اتجاه واسع لرقمنة المناصرة والسياسة (كاستيلس (Castells)، 2012؛ فاريل (Farrell)، 2012؛ فانغ (Fung) وآخرون، 2013). يشرح هذا الكتاب الانتشار العالمي لنوع معين من مؤسسات المناصرة الرقمية فضلاً عن الأساليب وممارسات صنع القرار. ويقدم أدلة مقارنة غنية على الاختلافات بين مؤسسات المناصرة الرقمية في جميع أنحاء العالم، بالإضافة إلى تطورها بمرور الزمن. وذلك ضروري لأن علم التواصل السياسي الحالي يركز على دراسة مؤسسات معينة ضمن سياقاتها الوطنية (كاربف، 2012، 2016؛ فرومين، 2017)؛ مع بعض الاستثناءات (هول، 2019؛ فاغهان (Vaughan)، 2020).

يمكنكم الاطلاع على النسخة الإنجليزية من المقال من خلال الرابط، علماً أنّ المقال المنشور باللغتين محمي بحقوق الملكية الدولية. إنّ نسخ نص المقال دون إذن سابق يُعرض صاحبه للملاحقة القانونية دولياً