كنت على استعداد تام للتخرج في الجامعة والانخراط في العمل الإعلامي، عندما علمت ببزوغ نجم موقع جديد يمكنه القضاء على محادثاتي الشائقة عبر البريد الإلكتروني، وكان "فيسبوك" وقتها اسماً غريباً وتطلب تحليلاً طويلاً بين الأصدقاء، بداية مَن اختار الاسم، وصولاً إلى الأسباب الخفية وراء إطلاق هذا الموقع، ومن هو ذلك الشاب المدعو "مارك زوكربيرغ" الذي أحدث ضجة كبرى بين عشية وضحاها؟
كانت الحياة وقتها معقدة في نظر أقراني من طلبة الإعلام، الذين وجدوا في هذا الموقع مؤشراً غريباً لما سيبدو عليه وضع العمل في المستقبل، ولا شك في أننا كنا نخاف من ذلك خاصة وأننا على وشك بدء حياتنا المهنية، لكن الواقع كان أغرب مما توقعناه، حيث جاءت الرياح بما لا تشتهي سفن "فيسبوك" أو مراكب أصدقائي الصغيرة، فبات الموقع وسيلة لتبادل الأخبار والصور، والدردشة في كل ما يخطر على البال. وبينما انقرض عشاق موقع "ماي سبيس" (My space) بدأت مجموعات "فيسبوك" تظهر بقوة، حتى وجدنا بعض التطبيقات الأخرى التي انتشرت كالنار في الهشيم.
ظاهرة المؤثرين
لم نكن تعافينا من التأثير السلبي لما يمكن أن نسميه بساطة الموضوعات المطروحة للنقاش على "فيسبوك"، حتى ظهر "إنستغرام"، بحلته الاستثنائية التي جعلت كل من باستطاعته أن يحمل هاتفاً ويلتقط صوراً أو فيديوهات من أي نوع نجماً مشهوراً، بل يمكنهم جني الأرباح، ومع مرور الوقت، انتشر المحتوى غير الهادف بشكل أكبر، وبدأت المعاناة من سلبيات هذه التطبيقات التي طغت على إيجابياتها.
لكن، ولحسن الحظ، فإن وعي الإنسان وتطوره العقلي أسهم في تخطي هذه السلبيات إلى حدٍ ما، وبدأ التيار المضاد للمحتوى غير الهادف على مواقع التواصل الاجتماعي بالظهور، بل اجتاح هاشتاج "توقفوا عن المساهمة في شهرة الأغبياء" (Stop making stupid people famous)، وهكذا بدأ كل مستخدمي هذه المواقع القديمة منها والجديدة، إبداء آرائهم حول المحتوى المرئي على وجه الخصوص الذي يقدمه ما عُرف مستقبلاً باسم "المؤثرين".
انتشرت ظاهرة المؤثرين على مواقع التواصل الاجتماعي في الآونة الأخيرة، وانتقلت إلى موقع "يوتيوب" أيضاً، حيث بدأ العديد من الشباب بتطوير مواهبهم في التحدث علانية، وتحويلها إلى فيديوهات يمكن للجميع الاطلاع عليها، وبالطبع كان الأمر بمثابة عمل مربح لمن يحقق نسب مشاهدات أعلى، أو تفاعلات أقوى؛ ما جعلهم ينفقون من أموالهم الخاصة من أجل الترويج للمحتوى الذي يقدمونه بالفعل، كاستراتيجية مضمونة لتحقيق الأرباح.
لعبت ظاهرة المؤثرين دوراً مهماً في زيادة ثراء العديد منهم، لكن دون وجود محتوى هادف يقدمونه، ومن هنا، ومن واقع الأزمات التي واجهت المجتمعات، كان لا بد من وجود المؤثرين الذين قرروا الانخراط في دعم القضايا الإنسانية المحيطة بهم. كما استخدمت المؤسسات غير الربحية، وسائل التواصل الاجتماعي، فذلك المنشور التفاعلي عند المؤثرين يمكنه الوصول إلى أكبر عدد من المستخدمين الذي يبلغ مليارات حالياً عن طريق المشاركة. على سبيل المثال، أنشأ "الصندوق العالمي للطبيعة" حملة محتوى تفاعلي ناجحة تسمى ساعة الأرض. تطلب حملة ساعة الأرض السنوية من الناس إطفاء الأضواء لمدة ساعة واحدة واستخدام هاشتاغ #EarthHour لتنشيط المتابعين. وفي عام 2020، شاركت 190 دولة في الحدث ونتج عنه أكثر من 4.7 مليارات انطباع عالمي على وسائل التواصل الاجتماعي.
انصراف المؤثرين إلى الأعمال الخيرية
قد يبدو اعتماد المؤثرين وسائل التواصل الاجتماعي استراتيجية تسويقية فعّالة، لكنهم في الواقع، غيّروا توجهاتهم، وحرصت مجموعة منهم على استغلال الشهرة التي وصلوا إليها لدعم القضايا الإنسانية، وتخصيص الوقت الكافي لإطلاق حملات خيرية يمكنها التغيير بالإيجاب في المجتمع، في بادرة إيثار واضحة، وقد تكون استراتيجية لابتزاز المشاعر تجاههم، لكن النتائج في النهاية كانت لصالح المجتمع.
وتتعدد تجارب المؤثرين سواء على "يوتيوب" أو مواقع التواصل الاجتماعي، في الوطن العربي خاصة، حيث يقدمون الدعم المعنوي برسالة هادفة إلى متابعيهم، فضلاً عن تنظيم حملات تبرعات واسعة لاقت تجاوباً كبيراً.
أبو فلة وحملة "#دفي_قلوبهم"
على الرغم من صغر سن الشاب الكويتي (لم يؤكد جنسيته الكويتية في مقابلة تلفزيونية مع قناة العربية) حسن سليمان المعروف على يوتيوب بـ "أبو فلة"، فإنه يتمتع بقاعدة متابعين قوية، فهو أحد أكثر لاعبي الفيديو شعبية في العالم العربي وصاحب أكبر قناة من حيث النمو على "يوتيوب" في العالم، وما قام به من مساندة قضايا النازحين واللاجئين السوريين، كان نموذجاً مهماً للعمل الإنساني للمؤثرين، وكيفية استغلال الشهرة في سبيل قضية إنسانية مهمة.
قرر "أبو فلة" تكريس جهوده لدعم القضايا الإنسانية بعد أن تخطى 20 مليون متابع بإطلاق حملة مشتركة مع "مفوضية اللاجئين" لتوفير احتياجات آلاف الأسر اللاجئة والنازحة خلال فصل الشتاء.
خلال 28 ساعة فقط، أصبح "أبو فلة" حديث الإعلام المحلي ورواد مواقع التواصل الاجتماعي، بعد حملة "#دفي_قلوبهم" الخيرية التي بدأها على قناته في "يوتيوب"، نجح خلالها في جمع مليون دولار للنازحين السوريين بالتعاون مع المفوضية السامية للأمم المتحدة، التي ستكفي لـ 5,715 عائلة لاجئة ونازحة بما يعادل أكثر من 17,000 شخص، يواجهون خطر شتاء قارس البرودة.
فريق ملهم التطوعي وحملة "حتى آخر خيمة"
هل يمكن أن تصبح الخيمة بيتاً؟ هذا هو السؤال الاستنكاري الذي يطرحه فريق ملهم التطوعي، عند إطلاقه حملة "حتى آخر خيمة"، فالخيام لا يمكنها أن تنقذ ابتسامة الأطفال الأبرياء أو المرضى من ثلوج الشتاء.
في أحد الأراضي الزراعية في مدينة أعزاز السورية، يعمل صطوف ساعات طويلة ليعيل أسرته المكونة من زوجته وأطفاله السبعة ووالدته المريضة بالتهاب الكبد، بينما يواجهون ظروفاً قاسية جداً، إذ يحتاج إلى تأمين تكاليف العلاج لوالدته، إضافة إلى الطعام والشراب ومواد التدفئة التي تكاد أن تكون معدومة لدى عائلته. تلك العائلة كُتب لها مصير مختلف، خاصة بعد تأمين فريق ملهم المنزل لها.
قرر فريق ملهم التطوعي من خلال حملة "حتى آخر خيمة"، أن يجمع التبرعات لمنازل موجودة بالفعل، إلا أنها غير مكتملة البناء بعد، لذا فإنهم يقومون بأعمال الصرف الصحي. ويعمل الفريق وفقاً لخطة محددة تعتمد على نقل 600 عائلة من سكّان عدد من المخيمات العشوائية الأكثر تضرراً من العواصف، كأولوية في الوقت الحالي، علماً أنه تم تأمين منازل لـ 584 عائلة بالفعل، وبلغت مجموع التبرعات الواردة للحملة أكثر من مليوني دولار.
أنس وأصالة وحملة "ابقونا دافئين"
بتاريخ ميلاد ابنة الثنائي الشهير أنس وأصالة، في 14 فبراير/شباط عام 2021، أطلقا حملة "ابقونا دافئين" بالتعاون مع المفوضية السامية للأمم المتحدة لشؤون اللاجئين، حيث حرصا على الظهور في فيديو استمر لمدة 10 ساعات لحث المتابعين على دعم اللاجئين والنازحين في مواجهة الشتاء. وحصل الفيديو على أكثر من 15 مليون مشاهدة.
وتعهدت العائلة بدعم العائلات اللاجئة والنازحة، حيث تسعى لتوفير احتياجات 1,000 أسرة، إيماناً بدورها الفعّال في مساندة القيم الإنسانية والتأثير الإيجابي في المجتمع.
ختاماً، وصل الترف الفكري للبعض بتحليل الأهداف الخفية للمؤثرين أو "اليوتيوبرز" من هذه الحملات، لكن في الواقع وإن كان صانع المحتوى يرغب في زيادة مشاهدات الفيديوهات الخاصة به، فلا شك في أن الأمر يعود بالنفع على الفئات المستهدفة سواء من اللاجئين أو النازحين أو المرضى، ولن ننسى أن هناك العديد من المؤسسات العالمية تستغل مواقع التواصل الاجتماعي أيضاً لزيادة التبرعات، وربما أشهرها "جمعية سرطان الدم والأورام اللمفاوية" التي تضم أكثر من 100 ألف متطوع حول العالم لجمع التبرعات تحت شعار "إضاءة ظلامهم"، أو نجوم كرة القدم ممن توجهوا إلى التواصل الاجتماعي لجمع التبرعات لمواجهة أزمة "كوفيد-19"، وغيرها من القضايا المهمة التي تحافظ على تمتع الإنسان بأبسط حقوقه بالحياة.
لا مانع بالتأكيد من أن تنعكس مساهمات المؤثرين من الحملات الخيرية زيادة في جمهورهم وتفاعلاً من متابعهيهم. لم لا، فقد يكون هذا هو الحافز الذي يمكن أن يحرّض لظهور المسؤولية الاجتماعية لدى المؤثرين، تماماً كما نطالب ونتوقع من الشركات أن تتحمل مسؤوليتها الاجتماعية، التي قد تخصم تكاليفها من الضرائب في بعض الدول. لا يوجد ما يمنع.