قد يكون من الصعب قياس استمرارية التأثير، ولكن على المؤسسات غير الربحية والجهات المانحة بذل ما بوسعها لقياسها.
ذكرت في مقالة لي في عام 2022 بعنوان "ما وراء عدد المستفيدين من الخدمات" (Beyond X Number Served) أنه على المؤسسات غير الربحية والجهات المانحة توسيع نطاق رؤيتها لتتجاوز عدد المستفيدين الذين يقدمون لهم الخدمات. يجب أن نحاسب أنفسنا على جانبين رئيسيين آخرين من جوانب التأثير التي يمكن أن تتوارى خلف الأرقام أو تضيع في إحصاءات التقارير السنوية أو طلبات المنح. ما مدى أهمية الخدمات المقدمة للمستفيدين، وما مدى جودتها؟ وما المدة التي يستمر فيها التأثير فعلياً؟
ما زلت أؤمن بأن التأثير الحقيقي يعني تأثيراً واسعاً وحقيقياً ومتواصلاً في آن واحد، لكن ثمة تحديات خاصة بقياس التأثير على المدى البعيد تجعل الأمر يستحق التفكير بجدية أكبر. سمعتُ مراراً وتكراراً أشخاصاً يقولون إنه من "الصعب جداً قياس الاستمرارية" أو يصرون على ترديد عبارة "أننا لسنا مسؤولين عن سنوات التأثير التي تلي التنفيذ الأولي للبرنامج" وعبارة "لا أحد يطلب منا قياسها!" ومع ذلك، فإن الاستمرارية هي جوهر النجاح الحقيقي. في مجال الرعاية الصحية، لا يعني توسيع نطاق العلاج الكثير إذا لم يؤدِّ إلى تحسينات مستدامة وقابلة للقياس في النتائج الصحية. وفي حال كنا نعالج مشكلة الجوع من خلال توفير وجبات الطعام، فإن الهدف الحقيقي هو تحقيق أمن غذائي مستقر طويل الأجل للمجتمعات المحرومة، وقس على ذلك في القضايا الأخرى.
لقد حان الوقت لقادة المؤسسات غير الربحية والجهات المانحة لإطلاق جهود حقيقية ومستدامة لمعالجة مسألة الاستمرارية، وهي أقل المقاييس الرئيسية الثلاثة التي لم تُناقش ولم تُقس بعد، ولكن يمكن القول إنها الأهم من بين المقاييس الرئيسية الثلاثة.
أين البيانات؟
دعونا نتحدث عن التوظيف وهو مجال أعرفه جيداً. في شبكة التوظيف العالمية غير الربحية التي أقودها والتي تدعى مؤسسة جينيريشن (Generation)، يتمثل هدفنا في تدريب البالغين من جميع الأعمار وتوظيفهم في وظائف جديدة. ولكن في حال أخفق خريجونا الموظفون في كسب أجور مناسبة للمعيشة أو تركوا وظائفهم بعد عام، فما الذي حققناه فعلاً؟
على الرغم من أننا متخصصون في مجال القوى العاملة لم نستطع جمع إلا القليل جداً من الأدلة على أن مئات المليارات من الدولارات التي تنفقها الحكومات والمؤسسات والشركات والأفراد المتعلمون سنوياً على التدريب وإعادة التأهيل تؤدي فعلياً إلى تحسينات دائمة في الدخل والرفاهة. وعلى الرغم من قلة الأدلة المتاحة، تشير التحليلات التي جمعناها إلى عائد منخفض إلى متباين في أفضل الأحوال. بحث تحليل أجري في عام 2017 لـ 12 برنامجاً للتعليم والتدريب التقني والمهني في ثمانية بلدان تأثير التوظيف بعد 12 إلى 18 شهراً من البرنامج، وتوصل إلى أن هذه البرامج زادت نسبة التوظيف في المتوسط بمقدار نقطتين مئويتين فقط. وبالمثل، أجرت شركة ماثماتيكا (Mathematica) عام 2023 مراجعة لـ 17 تقييماً لتأثير برامج التعليم والتدريب التقني والمهني في البلدان المنخفضة الدخل والبلدان المتوسطة الدخل، وخلصت إلى أن أربعة منها فقط أظهرت تأثيراً إحصائياً مهماً على التوظيف بعد 12 شهراً. وماذا عن رفع الدخل؟ توصلت مراجعة أجراها مركز عبد اللطيف جميل للأبحاث (JPAL) التابع لمعهد ماساتشوستس للتكنولوجيا في عام 2023 لـ 28 تقييماً عشوائياً لبرامج التعليم والتدريب التقني والمهني، إلى أن نصف هذه البرامج رفع من دخل الخريجين في إحدى المراحل فحسب، كما أجمعت تلك التقييمات على أن معظم البرامج لا يزيد معدل التوظيف إلا بنسبة متواضعة. يكمن جزء كبير من المشكلة في أننا لا نعرف مدى استمرارية تدخلاتنا؛ إذ خلصت الدراسة إلى أنه "حتى الآن، لا يوجد فهم واضح جداً للعوامل التي تحدد إذا ما كان التدخل فعالاً على المدى القصير أم على المدى الطويل".
متابعة البيانات على المدى الطويل
يتطلب توليد بيانات موثوقة حول الاستمرارية جمع نتائج تأثير البرامج التدخلية في المستفيدين بعد فترة طويلة من انتهاء البرنامج. وهو أمر صعب التنفيذ، فهو يعني البقاء على اتصال وثيق مع خريجي البرامج لمواكبة التغييرات التي تحدث عادةً في أرقام الهواتف وعناوين البريد الإلكتروني، والحفاظ على روابط قوية كافية لتحفز الخريجين على تقديم تقارير عن وضعهم سنوياً. العزيمة والإصرار لا تكفيان لتحقيق ذلك، فالأمر يتطلب القدرة على الإبداع. في مؤسسة جينيريشن على سبيل المثال، تصل معدلات إكمال بيانات استقصاءات الخريجين لدينا بين 90 و100% خلال السنة الأولى بعد إكمال البرنامج، ثم تنخفض إلى نحو 60% بعد مرور سنة إلى سنتين بعد البرنامج، ثم تستقر إلى نحو 30% بعد مرور سنتين إلى خمس سنوات. الحفاظ على هذا المستوى المرتفع نسبياً من معدل الاستجابة على المدى الطويل عبر أكثر من 100,000 خريج عالمي أمر ذو قيمة كبيرة، ولكنه غير كافٍ. تُعد مشكلة انحياز الإيجابية من أسباب ذلك، فمن المحتمل أن يكون الخريجون العاملون أكثر ميلاً للاستجابة من العاطلين عن العمل، لذلك نحتاج إلى معدلات استجابة أعلى بكثير لكي نتمكن من التحدث بمصداقية عن مسارات مختلف فئات الخريجين في مختلف المناطق الجغرافية التي نقدم لها خدماتنا.
لتحسين إكمال البيانات في مؤسسة جينيريشن نتجه الآن نحو المتابعة المتعددة القنوات التي تعتمد على مزيج من رسائل البريد الإلكتروني والاستقصاءات عبر الإنترنت والرسائل النصية القصيرة ورسائل واتساب والمتابعة الفردية المباشرة عبر الرسائل النصية أو المكالمات الهاتفية واللقاءات الشخصية في فعاليات الخريجين. كما ندرس استخدام نظام الرد الصوتي التفاعلي لإجراء استقصاءات قصيرة حول الاحتفاظ بالوظائف أو الأجور.
هذا النوع من جمع البيانات المكثف ليس مكلفاً، إذ يكلف قياس نتائج الاستمرارية مؤسسة جينيريشن 1% من التكلفة الإجمالية لكل متعلم. ومع ذلك، يشجع عدد قليل من الجهات المانحة الخيرية أو الحكومية على قياس استمرارية البيانات، ويدعم عدد أقل تكاليفها. يركز ممولو القوى العاملة، وخاصة الحكومات، على زيادة عدد المستفيدين من البرامج، وهذا يعني أن التمويل لا يتجاوز تغطية تكاليف تنفيذ البرامج إلا نادراً، مع القليل من المتطلبات أو الدعم لإعداد التقارير عن نتائج البرامج بعد فترة المنحة.
لكن هل يؤدي الاستثمار في تحسين قياس التأثير على المدى الطويل إلى رفع قدرتنا على إجراء تحسينات تشغيلية؟ بالطبع، وحدث ذلك في مؤسسة جينيريشن عندما بدأنا تتبع "نسبة التأثير"، أو النسبة المئوية السنوية للوظائف الشاغرة التي تشغلها المؤسسة في المهن المستهدفة والمدن المستهدفة (على سبيل المثال، مطورو البرامج المبتدئون في مدينة غوادالاخارا في المكسيك). نستحوذ الآن على أكثر من 5% من الوظائف في بداية التعيين في 18 موقعاً في ثمانية بلدان، وهي حصة كبيرة من التوظيف مقارنة بتسعة مواقع في أربعة بلدان قبل عام واحد. مكننا نهجنا الجديد من تحديد المهن التي تنطوي على أكبر إمكانات للنمو وبناء بيئة عمل مناسبة للشركات لتحقيقها، واستطعنا قياس ذلك وإدارته فعلياً.
لكن ثمة حاجة إلى أكثر من مجرد بيانات، فنحن بحاجة إلى مجموعات بيانات مشتركة لتعزيز الصلة بين تحسين قياس الاستمرارية وتحسين إدارة مقدمي الخدمات. في مجال التوظيف والتدريب على سبيل المثال يجب أن يكون الحصول على أجر مناسب للمعيشة هو المعيار الذهبي، وهو المقياس الأكثر موضوعية الذي يمكن أن يستخدمه مقدم الخدمة لتقييم الحراك الاقتصادي للخريجين بمرور الوقت. ولكن في معظم الدول باستثناء الولايات المتحدة والمملكة المتحدة وكندا وأستراليا، لا تتوافر مقاييس معيارية قوية للأجور المناسبة للمعيشة على نحو علني (أو منتظم)، ولا سيما لمجموعة متنوعة من أنواع الأسر والمواقع. ونتيجة لذلك، اضطررنا في مؤسسة جينيريشن إلى وضع مقياس معياري خاص بنا للأجور المناسبة للمعيشة في البلدان التي نعمل بها، وإرسال زملاء محليين لجمع أسعار السلع مثل الغذاء والسكن والمرافق ثم دمج هذه البيانات مع المصادر المتاحة للجمهور. في حال توفر مصدر موثوق ومتاح مجاناً للأجور المناسبة للمعيشة على مستوى العالم، سيعدّ ذلك تغييراً جذرياً بالنسبة للمؤسسات العاملة في مجالنا، إذ سيساعدها ذلك على معرفة مستوى خريجيها بالمقارنة مع غيرهم من الخريجين.
نظرة مستقبلية
كيف يمكن للمؤسسات غير الربحية والجهات المعنية جمع بيانات أكثر وأفضل عن الاستمرارية؟ يبدأ الأمر بالاستعداد لإجراء محادثات شاقة والاتفاق على معيار عالمي نسترشد به جميعاً عند صناعة القرارات المتعلقة بالبرامج. ونتيجة لإصرارنا على جمع البيانات منذ بداية عملنا، تحتفظ مؤسسة جينيريشن حالياً بـ 40 مليون نقطة بيانات تتبع دورة حياة المتعلم، بدءاً من تقديم الطلب وحتى 5 سنوات بعد التخرج. لكننا لن ننجح بمفردنا، نحن نرحب بإجراء حوار داخل نطاق عملنا حول مجموعة المقاييس التي تتبع حالة التوظيف، وجودة الوظائف، والأجور، والنمو المهني، والمدخرات، ومسار الأجور المناسبة للمعيشة، والرفاهة الشخصية التي ستكون أهم المعايير لقياس التأثير الطويل الأجل لجهودنا الجماعية.
بوسع الحكومات والمؤسسات الخيرية تسريع هذه الرحلة من خلال جعل الاستمرارية أولوية. وبطبيعة الحال، على الجهات المتلقية للمنح أن تمتلك مجموعة واسعة من نماذج التسليم ونظريات التغيير. لن يساعد تتبع التأثير في ضوء معيار عالمي لبيانات الاستمرارية على إرشاد الممولين فحسب، بل سيولد الأفكار للمتخصصين أيضاً.
لن يتحقق النجاح بسرعة، وسيتطلب بلا شك العديد من التجارب في كل قطاع لتقييم ما هو قابل للتنفيذ وذو قيمة. أثبتت حركة المدارس العامة المستقلة في الولايات المتحدة أن مسار البيانات ممكن. ومع أن عملية جمع البيانات ركزت في البداية على التسجيل والأداء (مقارنةً بنظرائهم في المدارس الحكومية)، توسعت بمرور الوقت لتشمل معدلات التخرج من المدارس الثانوية ومعدلات القبول في الجامعات والتخرج فيها. حتى إن بعض الأطراف في هذا المجال تسعى إلى تعزيز عملية جمع البيانات لتشمل الدخل المكتسب في أول وظيفة بعد التخرج.
أياً كان القطاع الذي نعمل فيه، فإننا جميعاً نسعى للتغيير الذي يحسّن رفاهة الأفراد ويعالج التفاوتات الهائلة، ونريد لهذا التغيير أن يستمر، نريد تحقيق الاستمرارية. والطريقة الوحيدة الأكيدة لمعرفة إذا ما كان تأثير برنامجنا يوافق تطلعاتنا هي أن نشمر عن سواعدنا ونلتزم بتواضع وصبر بمسار الاستمرارية مهما تطلّب منا.