استغلت شركات التكنولوجيا نماذج توظيف الاستعانة بمصادر خارجية والعقود المؤقتة لإخفاء ممارساتها العمالية الفظيعة سنوات طويلة. وقد بلغ الاستياء ذروته بين أعداد متنامية من العاملين في هذه الشركات.
سافر خريج جامعي من جنوب إفريقيا يدعى دانيال موتونغ آلاف الأميال إلى مدينة نيروبي في كينيا في مارس/أذار من عام 2019، ظناً منه أنه قد حصل على وظيفة مدير تكنولوجيا المعلومات في شركة تدعى ساماسورس (Samasource). ولكنه عندما وصل إلى نيروبي، أدرك أن وظيفته كانت مختلفة تماماً، إذ عمِل مشرفاً على المحتوى في فيسبوك. كان يقضي 9 ساعات يومياً مقابل أجر يبلغ قرابة 1.50 دولار في الساعة، لفحص بعض أسوأ المواد التي يمكن تخيلها ليقرر بعدها إذا كانت تنتهك سياسات المحتوى في فيسبوك أو لا.
دانيال وأمثاله من مشرفي المحتوى هم عاملون أساسيون في وسائل التواصل الاجتماعي، فمن دونهم ستغرق المنصات مثل فيسبوك وواتساب وتيك توك بمواد الكراهية والعنف. ببساطة، لا يمكن أن تعمل وسائل تواصل اجتماعي دون مشرفي محتوى.
يعمل دانيال وزملاؤه في ظروف خطرة. إذ ترفض فيسبوك وشركات المصادر خارجية التي تتعامل معها مثل شركة ساماسورس، التي أصبحت تدعى الآن شركة ساما (Sama)، تقديم رعاية نفسية مناسبة لهؤلاء العاملين، ما يؤدي إلى إصابة العديد منهم بأمراض نفسية خطيرة وطويلة الأمد.
كان أول مقطع فيديو تعامل معه دانيال بثاً مباشراً لرجل يُقطع رأسه، ولم يمضِ وقت طويل حتى أصيب باضطراب ما بعد الصدمة.
تخفي شركات وسائل التواصل الاجتماعي مشرفي المحتوى بعناية خلف منشوراتها الجذابة والكثيفة، حتى أننا لا نعرف العدد الحقيقي للمشرفين الذين يعملون على مستوى العالم.
ترفض فيسبوك الكشف عن عدد المشرفين الذين يعملون على الحفاظ على أمنها، لكن التقارير تشير إلى وجود ما يقرب من 15,000 مشرف حول العالم. لا يعمل معظمهم في فيسبوك مباشرة، بل في شركات المصادر الخارجية مثل شركة ساما في ظل ظروف عمل وأجور ودعم نفسي أدنى من زملائهم العاملين في فيسبوك مباشرة.
والمشكلة لا تقتصر على فيسبوك.
تحاول شركات التكنولوجيا الكبرى أن تقنعنا بأن الذكاء الاصطناعي والأدوات الذكية هي العلاج الشافي لمشاكلها كافة، ولكن الواقع هو أن هذه الشركات مدعومة بجيش خفي من البشر، تتمثل مهمتهم في جعل منصاتها تعمل وفق المُعلَن، وفي الحفاظ على تدفق أرباحها الهائلة.
في عام 2022، أصدرت مؤسسة تك إكويتي كولابوراتيف (TechEquity Collaborative) تقريرها "مشروع الكشف عن التمييز الذي يواجهه المتعاقدون"، الذي يبحث في الطرق المختلفة التي يعتمد بها قطاع التكنولوجيا على المتعاقدين الفرعيين وما يعنيه ذلك بالنسبة لهؤلاء. هذا العمل "الشبحي" أو "المصغر" يمكن أن يتضمن عملاً جزئياً صغيراً للغاية عبر الإنترنت، يتدرج من وضع علامات على المحتوى وحتى التفاعل مع نماذج الذكاء الاصطناعي اللغوية الكبيرة، ولا يتعدى الأجر بنسات أو أقل لكل مهمة.
ويشمل أيضاً ما يسمى بـ "المتعاقدين المستقلين" الذين يشكلون قوة العمل الكاملة لشركات اقتصاد العمل المستقل مثل شركتي أوبر ودورداش (DoorDash). وقد يشمل العاملين في مجال البيع والخدمات، بدءاً من متعهدي الإطعام في المقاصف إلى سائقي الحافلات، الذين يحافظون على استمرارية العمل في مرافق شركات التكنولوجيا. وقد يؤدي العاملون المؤقتون المهام التي يؤديها الموظفون الدائمون، أي المهام جميعها بدءاً من تحليل البيانات إلى الإشراف على المحتوى إلى الإدارة، ولكن دون مزايا وأجور عادلة ودون أمان وظيفي.
توصَّل التقرير إلى أن عمل موظفي شركات المصادر الخارجية ضروري لاستمرار شركات التكنولوجيا، لكن الفروق بينهم وبين الموظفين المباشرين هائلة. إذ يحصل المتعاقدون الفرعيون على 75% من أجور الموظفين المباشرين، لكنهم لا يحصلون في كثير من الأحيان على إجازة مدفوعة الأجر أو تأمين صحي أو أمان وظيفي أو فرصة للتقدم المهني، كما أن أغلبهم ممن يفتقرون أصلاً إلى التمثيل الكافي في عالم التكنولوجيا أي النساء وذوي البشرة الملونة والأقليات.
يُعامل المتعاقدون الفرعيون معاملة مهينة تختلف عن معاملة الموظفين المباشرين. قد يضطر العاملون المتعاقدون إلى ارتداء شارات تعريف تختلف بألوانها عن شارات الموظفين الدائمين بدوام كامل، وقد يُمنعون من حضور مناسبات العمل التي يحضرها الموظفون المباشرون (في إحدى الحالات التي علمنا بها، مُنع متعاقد فرعي من حضور مناسبة كان قد خَطَّط لها بالكامل!) ويُحظر عليهم غالباً الإشارة إلى عملهم في شركات التكنولوجيا في سيرهم الذاتية. وهذا يدحض الفكرة الخاطئة الشائعة بأن موظفي شركات المصادر خارجية يحصلون على الأقل على فرصة لدخول سوق العمل تسمح لهم فيما بعد بالتقدم لوظائف أفضل في شركات التكنولوجيا الأخرى.
الفروق الديموغرافية بين المتعاقدين وبين العاملين بدوام كامل في مجال التكنولوجيا كبيرة جداً، لدرجة أنها تصل إلى الفصل الكامل في مكان العمل. بصراحة، من المحتمل أن ترى الكثير من ذوي البشرة البيضاء في المقر الرئيسي لشركة فيسبوك مقارنة بما تراه في مكاتب الإشراف على المحتوى التابعة لها.
في شركات التكنولوجيا الكبرى عموماً، يبلغ عدد العاملين المتعاقدين من أصول لاتينية ضعفي نظرائهم من العاملين المباشرين، ويزيد عدد العاملين المتعاقدين من ذوي البشرة السمراء على عددهم من الموظفين المباشرين مرة ونصف. وكما أخبرنا أحد المتعاقدين في مجال التكنولوجيا، يجب أن يجلس العاملون المتعاقدون في شركته (جلهم من ذوي البشرة الملونة) منفصلين عن الموظفين المباشرين (جلهم من البيض)، فيبدو المكتب وكأنه صورة من زمن عصر الفصل العنصري، حيث يجلس العاملون المتعاقدون ذوو البشرة السمراء في أحد جانبي الغرفة والموظفون المباشرون ذوو البشرة البيضاء في الجانب الآخر.
وهذا الفصل له تبعات مهمة على السلامة أيضاً. في عام 2018، عندما هدد مسلح بإطلاق النار على مبنى يوتيوب في مدينة سان برونو بولاية كاليفورنيا، تلقى الموظفون الدائمون بريداً إلكترونياً طارئاً من الشركة تطلب منهم فيه مغادرة المبنى، فيما ادعى العاملون المتعاقدون أنهم لم يتلقوا التحذير مطلقاً. (أنكرت جوجل هذا الادعاء).
وبالمثل، خلال الأيام الأولى من جائحة كوفيد-19، أُرسل الموظفون الدائمون في العديد من شركات التكنولوجيا في وادي السيليكون إلى منازلهم للعمل عن بُعد، بينما أُجبر المتعاقدون على مواصلة العمل حضورياً، دون تلقي إشعارات خاصة بالصحة والسلامة تعلمهم بالسياسات الجديدة أو بما ينبغي لهم فعله إذا كانوا قد خالطوا زميل عمل مصاباً بفيروس كورونا.
وهناك انتهاكات تقليدية للصحة والسلامة أيضاً. أخبرنا أحد مصممي الغرافيك أنه قَبِل وظيفة متعاقد فرعي في شركة تكنولوجيا مرموقة، ظناً منه أنه وُظّف بناءً على مهاراته في تصميم الغرافيك والتواصل، لكن الشركة طلبت منه العمل على رافعة شوكية في المستودع دون تدريب أو معدات السلامة.
وما يزيد الطين بلة أن العاملين المتعاقدين لا يحصلون على الحماية اللازمة عندما يحاولون تحسين ظروف عملهم المتردية. ذكر العاملون الذين تحدثوا مع مؤسسة تك إكويتي كولابوراتيف مراراً وتكراراً إنهم لا يحتجون مخافة عدم تجديد عقودهم، وهو تهديد مخيف جداً للعاملين الأجانب الذين ترتبط تأشيراتهم بعملهم.
وقد خبر دانيال موتونغ ذلك بنفسه، فبعد عدة أشهر من عمله في الإشراف على المحتوى مع شركة ساما، قرر دانيال أن يفعل شيئاً حيال ظروف عمله وظروف عمل زملائه، وبدأ بتنظيم أكثر من 100 من زملاء العمل لتشكيل نقابة، فطُرد على الفور. وقد رفع دعوى قضائية ضد شركتي ساما وفيسبوك بدعم من مؤسسة فوكس غلوف (Foxglove) غير الربحية في المملكة المتحدة وهي مؤسسة معنية بالمناصرة والمقاضاة، تعمل على تحقيق العدالة في قطاع التكنولوجيا.
والأسوأ كان ينتظر مشرفي المحتوى في كينيا، ففي وقت سابق من هذا العام، عندما تحولت شركة فيسبوك من التعامل مع شركة ساما إلى شركة أخرى للمصادر الخارجية تدعى ماجوريل (Majorel) في كينيا، فُصل جميع زملاء موتونغ السابقين، نحو 260 عاملاً، بدعوى كاذبة وهي زيادة العمالة عن الحاجة، ثم أُدرجوا في القائمة السوداء لعدم السماح لهم بالعودة إلى وظائفهم في الشركة الجديدة. تدعم مؤسسة فوكس غلوف هؤلاء العاملين أيضاً في المحاكم للمطالبة بتغيير أسلوب التعامل معهم في الشركات،
وهذا لا يخص شركة فيسبوك فقط، فبعد سيطرة إيلون ماسك على تويتر الخريف الماضي، فُصل آلاف العاملين دون سابق إنذار، ثم ورد أنهم تعرضوا لضغوط للتخلي عن حقوقهم من أجل الحصول على تعويضات نهاية الخدمة.
تقدم شركات التكنولوجيا الكبرى نفسها على أنها خيرة وتقدمية عموماً، مدعومة بمقراتها الرئيسية البهية في كاليفورنيا ورسائلها المثالية، مثل عبارة جوجل "لا تكن شريراً" التي أصبحت الآن سيئة الصيت. الحقيقة المرة هي أن شركات التكنولوجيا التي تهيمن الآن على كل جانب من جوانب حياتنا تقريباً تعادي بشدة الإنصاف في العمل، وحقوق عمالها وحقهم الإنساني في التنظيم في مكان العمل.
استغلت شركات التكنولوجيا نماذج توظيف الاستعانة بمصادر خارجية والعقود المؤقتة لإخفاء ممارساتها العمالية الفظيعة سنوات طويلة. لكن قطاع التكنولوجيا شهد في العام الماضي زيادة ملحوظة في نشاط العاملين. حيث تسمع مراراً وتكراراً عبارات جديدة بين العاملين في مجال التكنولوجيا، مثل: "يستطيعون التخلص مني بسهولة، مثل أي عامل آخر". ويصاحب هذا الوعي الحديث شعور متنامي بالشجاعة في جميع أنحاء عالم التكنولوجيا، لأن العاملين قرروا الدفاع عن حقوقهم.
تدعم مؤسسة فوكس غلوف عدة دعاوى قضائية ضد فيسبوك وتيك توك وشركات المصادر خارجية المتعاقدة معهما، بهدف مساعدة العاملين في مجال التكنولوجيا حول العالم على النضال لتحقيق العدل في العمل. في أوائل شهر يونيو/حزيران من هذا العام، ساعدت شركة فوكس غلوب العاملين الكينيين في شركة فيسبوك على تحقيق انتصار كبير عندما أصدرت محكمة كينية حكماً مؤقتاً مفاده أن شركة فيسبوك هي الشركة الفعلية التي يتبع لها مشرفو المحتوى مثل دانيال موتونغ، وبالتالي فهي المسؤولة قانوناً عن أسلوب التعامل معهم في العمل.
في الولايات المتحدة، تعمل مؤسسة تك إكويتي كولابوراتيف على أكثر من اتجاه لتحسين وضع العاملين في هذا القطاع. بعد مشروع مشروع الكشف عن التمييز الذي يواجهه المتعاقدون، أنشأت مؤسسة تك إكويتي كولابوراتيف معيار التعاقد المسؤول، الذي أُرسل إلى مئات الشركات لوضع معايير أعلى لأساليب تعامل شركات التكنولوجيا مع عامليها. وقعت شركة واحدة فقط على هذا المعيار التطوعي حتى الآن، وهو أمر يستحق الثناء، ولكنه يوضح أيضاً سبب الحاجة إلى حلول السياسة العامة لتحسين معايير العمل في قطاع التكنولوجيا فعلياً.
ولتحقيق هذه الغاية، أقرت ولاية كاليفورنيا في عام 2022 قانون شفافية الأجور من أجل تحقيق المساواة في الأجور، الذي يتطلب من الشركات التي تضم 100 موظف أو أكثر إدراج العاملين المتعاقدين معها، عند تقديم تقارير عن جداول الأجور والفئات السكانية للعاملين إلى إدارة الحقوق المدنية بالولاية. وهذا يعني أنه للمرة الأولى، سيكون تفاوت الأجور الذي تشهده القوى العاملة الموازية المعزولة بشدة في قطاع التكنولوجيا، معروفاً للجهات الحكومية المسؤولة عن التحقيق في انتهاكات الحقوق المدنية.
تعمل المؤسسة حالياً على توسيع نطاق حماية العاملين التي يقدمها قانون وارن (WARN Act) في كاليفورنيا ليشمل العاملين المتعاقدين أيضاً، إذ يُلزم هذا القانون الشركات بإشعار العاملين قبل مدة من إنهاء عقودهم أو دفع مكافأة نهاية الخدمة للعاملين الذين يُسرحون جماعياً، كما حدث في تويتر. الهدف هو وضع مجموعة من تدابير الحماية للعاملين المؤقتين والمتعاقدين في مجال التكنولوجيا وخارجه، مع إدراك أنه إذا كانت شركات التكنولوجيا في وادي السليكون تعامل عمالها بهذا القدر من السوء، فيمكن للمرء أن يتخيل الظروف التي يواجهها العمال في القطاعات الأقل شفافية.
وسواء كان الأمر يتعلق ببواب متعاقد يعمل في مدينة بالو ألتو في كاليفورنيا أو مشرف محتوى خارجي في نيروبي، لمشكلاتهما المشتركة حل مشترك، وهو إرغام الشركات على ضمان سلامة عامليها، وإنصافهم واحترامهم.
التحديات كبيرة، وإمكانات التغيير كبيرة أيضاً. يعمل عاملو التكنولوجيا على بناء مصادر قوة جديدة لهم في جميع أنحاء العالم. يبذل العاملون في أمازون بالمملكة المتحدة أقصى جهودهم لتأسيس أول نقابة لهم، بعد عام واحد فقط من نجاح نظرائهم في الولايات المتحدة في ذلك. كما تعاون الموظفون المباشرون والمتعاقدون في جوجل لتشكيل اتحاد عمال ألفابيت (Alphabet Workers Union). وفي ربيع هذا العام، صوَّت رفاق دانيال موتونغ السابقون في كينيا على إنشاء أول اتحاد إفريقي لمشرفي المحتوى.
في الفضاءات التقنية حول العالم، يتجمع العاملون معاً ويلمسون القوة التي يمكن أن يجلبها التنظيم الجماعي.
لمستهلكي منتجات شركات التكنولوجيا الكبرى منا دور حيوي أيضاً، يبدأ بإدراكنا أن وسائل التواصل الاجتماعي وغيرها من التقنيات الرائدة لن تكون أبداً حيزاً آمناً لنا قبل تصبح حيزاً آمناً للعاملين فيها.
شاهد الحوار الذي يضم مارثا دارك ودانيال موتونغ في مؤتمر داتا أون بيربوس (Data on Purpose) التي أقامته مجلة ستانفورد للابتكار الاجتماعي عام 2023.
يمكنكم الاطلاع على النسخة الإنجليزية من المقال من خلال الرابط، علماً أنّ المقال المنشور باللغتين محمي بحقوق الملكية الدولية. إنّ نسخ نص المقال من دون إذن مسبق يُعرض صاحبه للملاحقة القانونية دولياً.