كيف نبني شبكات تأثير اجتماعي تتمتع بقدرة عالية على التحمل والصمود؟

22 دقيقة
شبكات التأثير الاجتماعي
shutterstock.com/officeBBstudio

لا بدّ أن تواجه شبكات التأثير الاجتماعي أزمات وجودية في فترات معينة، لكن يمكنها الاستعداد لها من خلال طرح الأسئلة الصحيحة.

كان المقر المكتبي الذي زارته المؤلفة المشاركة ميشيل شوميت واسعاً ذا تصميم حديث يضم كثيراً من المؤسسات غير الربحية ذات الصلة بقطاع التعليم التي تشكّل شبكة محو الأمية (The Literacy Organization) ويزيد عددها على 100. وبعد أن تجولت في المكان دخلت إلى غرفة اجتماعات مجلس الإدارة مع المدير التنفيذي، جيري، لمناقشة سبب دعوته لها، وتحدثا عن التحديات التي تواجهها الشبكات عادة ومنها تكاليف إدارتها وصعوبة تحديد مدى فعالية جهودها. كان جيري يرغب في أن تساعده ميشيل على قياس تأثير شبكة محو الأمية الاجتماعي.

للأسف أصيب جيري بخيبة أمل.

قالت له: "تعجبني مهمة الشبكة، والمكان هنا مذهل، لكن الروابط بين الأنشطة التي تؤديها الشبكة والتأثير الاجتماعي الذي تزعم أنها تحققه هشة، ولا أعتقد أنكم تحققون الأثر الاجتماعي المزعوم. ربما كانت المؤسسات الأعضاء في الشبكة هي التي تحقق الأثر، لا الشبكة نفسها". وعرضت ميشيل مساعدتها لتقييم ما تعدّه عمل الشبكة الحقيقي المتمثّل في جهود بناء القدرات التي تنفذها الشبكة لصالح المؤسسات غير الربحية الشريكة. لكنها أشارت إلى أن الشبكة ستكون واهمة إن اعتبرت التأثير الاجتماعي المتمثّل في التحسن العام في نتائج التعليم بالمدينة حصاد عملها.

وبعد هذا الاجتماع بفترة وجيزة، أجبرت جائحة كوفيد-19 الشبكة على إغلاق المقر المكتبي المشترك الجميل الذي كان قادة المؤسسات يتباهون به بسرور أمام الممولين وشركاء العمل المحتملين، ثم أدت جريمة قتل جورج فلويد في 25 من شهر مايو/أيار عام 2020 والمظاهرات التي أعقبتها إلى تسليط الضوء على أن غالبية أعضاء الشبكة من أصحاب البشرة البيضاء، ما دفع قادتها إلى التفكير فيما إن كانوا يتحدّون هياكل السلطة في مدينة تتمتع بالتنوع العرقي والاقتصادي، كما خفضت إحدى مؤسسات التمويل إسهاماتها في تمويل التكاليف التشغيلية بسبب معاناتها أزمة مالية. كان التغلب على هذه الظروف مجتمعة في غاية الصعوبة، وأدت إلى حلّ الشبكة الذي تسبب بصدمة شديدة لجيري وغيره من قادة المؤسسات الذين أسسوا الشبكة.

وهذه القصة ليست فريدة من نوعها. وقد تناولنا في بحثنا مئات الشبكات والاتحادات والمشاريع التعاونية التي أُسست بهدف تحقيق أثر اجتماعي، وجمعنا الرؤى الثاقبة التي توصلنا إليها على مدى عقود من الدراسة إلى جانب البحوث الجديدة، بما فيها دراسة متعددة المستويات للشبكات القائمة على المجتمع تمعنت في التغيير الذي طرأ على الشبكات، وذلك من أجل كتابنا الجديد "شبكات التأثير الاجتماعي" (Networks for Social Impact). خضع كثير من الشبكات التي درسناها في مشروع "شبكات التأثير الاجتماعي" في قطاع التعليم وكتابنا، ويزيد عددها على 50، إلى ما نسميه "اللحظة المصيرية". لا تتمثل هذه اللحظات المصيرية في التحديات الشائعة فحسب، مثل تقاعد الأعضاء أو تطوير مبادرة جديدة، ولا ترتبط جميعها بالاضطرابات العامة مثل جائحة كوفيد-19، ولكن كانت جميعها مشكلات حياة أو موت بالنسبة للشبكات.

كيف يمكن لشبكات التأثير الاجتماعي تجاوز اللحظات المصيرية بل والازدهار فيها؟ يشير بحثنا إلى أن جميع الشبكات تقريباً تواجه هذه اللحظات المصيرية، وأن القرارات التي تتخذها قبلها تؤثر في خياراتها ثم في نتائجها. تتبنى الشبكات التي تتمتع بالقدرة على التحمل ممارسات تُعدها لمواجهة المشكلات التي قد تعترضها في هذه اللحظات، كاتباع نهج اللامركزية الإدارية، وتحديد نظرية التغيير ومواءمتها مع الموارد، ووضع استراتيجيات لإدارة النزاعات بشكل فعال، والتزام القادة المؤثرين بالصدق والوضوح وتوجيه المؤسسات الأعضاء إلى المسار الصحيح من خلال طرح مجموعة من الأسئلة الأساسية.

ما هي شبكات التأثير الاجتماعي؟

هي مجموعات مكونة من ثلاث مؤسسات أو أكثر تركز على هدف مشترك يتمثّل في تحقيق المواءمة بين استقلالية المؤسسات الأعضاء وتنمية الاعتماد المتبادل بينها، وهو ما يجعل دور قادة الشبكات المتمثّل في إدارة اللحظات المصيرية أكثر صعوبة من معالجتها، فهم مسؤولون عن أداء جميع المسؤوليات المماثلة لمسؤوليات قادة مؤسسات التأثير الاجتماعي التقليديين، لكنهم لا يتمتعون بالسلطة نفسها.

ولا يُعتبر تصميم الشبكات شائعاً بقدر شيوع التصميم التنظيمي التقليدي، بل تختلف تصميمات الشبكات بعضها عن بعض في عدة طرق، فقد يتباهى بعضها بعضوية عدة مئات من المؤسسات، في حين يضم بعضها الآخر أقل من عشرة أعضاء، وقد يتكون بعضها من مؤسسات غير ربحية تعمل معاً، في حين قد يضم بعضها الآخر إلى جانب المؤسسات غير الربحية شركات ووكالات حكومية. وقد تتحكم مؤسسة رئيسية في بعض الشبكات من خلال الإشراف على وظائفها الإدارية، في حين تتخذ شبكات أخرى قراراتها بشكل جماعي، لا سيما تلك الصغيرة منها أو التي تضم أعضاء من المجتمع. وقد يتأسس بعض الشبكات من قبل قادة محليين يسعون إلى معالجة مشكلة محلية ناشئة، في حين يتشكل بعضها الآخر من قبل مجموعات تعمل مع القادة المحليين وتنضوي تحت مظلة الخدمات التقنية (كشبكات أميركا سيرفز (AmericaServes) وحركة لنسعى معاً (StriveTogether) وحملة القراءة على مستوى الصف (The Campaign for Grade-Level Reading)).

ويتمثّل أهم اختلاف في تصميم هذه الشبكات في نظرية التغيير التي تتبناها، أو أسلوب تعاملها مع المشكلات التي تحاول معالجتها. بمعنى آخر، يمكنها التركيز على نظرية واحدة للتغيير أو استخدام أساليب متعددة للتعامل مع المشكلات، أو تبنّي عدة استراتيجيات متزامنة، لا سيما في الشبكات الكبيرة أو الشبكات ذات التمويل الجيد والموارد الكافية التي تتيح لها استخدام مناهج متعددة. من جهة أخرى، قد تتخذ شبكات نهجاً تسلسلياً وتتبنى نظريات مختلفة للتغيير مع تطور فهمها للمشكلة. وقد وصفنا في كتابنا "شبكات التأثير الاجتماعي" بالفعل نظريات التغيير الخمس الأكثر شيوعاً التي تتبناها الشبكات.

نظريات التغيير القائمة على المشاريع التي تركز على تعاون الشبكات في إعداد برنامج أو منتج جديد وتقديمه. على سبيل المثال، عقد البرنامج التعاوني استعدّ أن تكون والداً! (Ready، Set، Parent!) شراكات مع شبكة لكل شخص تأثيره على الأطفال (Every Person Influences Children) ومدرسة بيكر فيكتوري سيرفيسز (Baker Victory Services) ومؤسسة كاثوليك هيلث (Catholic Health) للرعاية الصحية لإنشاء برنامج لدعم الأمهات الجدد بعد الولادة. وتُعد نظريات التغيير القائمة على المشاريع الأقل تعقيداً من بين النظريات الخمس لأن الهدف من تأسيس الشبكة هو إطلاق مشروع جديد محدد، ثم ما تلبث الشبكة أن تحدّ من مشاركتها أو تقللها بمجرد اكتمال المشروع. ويعتمد التأثير الاجتماعي للشبكة على جودة البرنامج أو الخدمة المقدمة.

نظريات التغيير القائمة على المحفزات التي تبرز عندما تحاول الشبكات توسيع نطاق ممارسة فعالة. وعلى الرغم من سعي المؤسسات الفردية إلى توسيع نطاق ممارساتها الفعالة أيضاً، تتمتّع الشبكات القائمة على المحفزات بالقدرة على التوصل إلى حلول على مستوى الشبكة. وتُعد شبكة الخريج (The Graduate! Network) خير مثال على ذلك، فقد نصَّ هدفها الأولي على تأسيس شبكة مجتمعية لمد يد العون إلى الأشخاص الذين بدؤوا تعليمهم بعد الثانوي لكنهم انفصلوا عن الجامعات قبل إكمال دراساتهم ومساعدتهم على استكمال تحصيلهم العلمي. وتضم الشبكة قادة الكليات، والممولين المحليين، ووكالات التنمية الاقتصادية، ومجالس استثمار قوى العمل، وأصحاب العمل المهتمين بتوسيع قوى أعمالهم، وقادة المدن، ووكالات استشارات الائتمان الاستهلاكي، والمكتبات، و"الأماكن العامة" الأخرى في المجتمع، والمؤسسات غير الربحية المحلية. وتكرر النموذج الذي يتخذ من فيلادلفيا مقراً له في 41 مجتمعاً وساعد أكثر من 80,000 طالب من مستأنفي الدراسة.

وعلى النقيض من ذلك، تعتمد نظريات التغيير القائمة على السياسات على التغييرات التشريعية والتنظيمية من خلال حشد التأييد المباشر أو الشعبي على الحكومة والتحديات القانونية. وتولد مثل تلك الشبكات تأثيراً اجتماعياً عندما تتلقى المناصرة والتأييد. على سبيل المثال، تأسست شبكة آر إي-أيه إم بي (RE-AMP) عام 2004، وهي تضم اليوم أكثر من 130 مؤسسة عضو من وسط غرب الولايات المتحدة لتحقيق هدف رئيسي يتمثّل في تقليل انبعاثات الغازات الدفيئة من المنطقة، فزادت كمية الطاقة المتجددة المنتجة وسط غرب البلاد من خلال جهود المناصرة على مستوى الولاية، وأوقفت إنشاء محطة جديدة لتوليد الطاقة بالفحم، وأنهت عمل المحطات الحالية.

​وغالباً ما تكون الشبكات التي تتبنى نظرية التغيير القائمة على السياسات كبيرة جداً وتنخرط في تخطيط حملات مشتركة للتأثير على أهداف محددة، تماماً كشبكة آر إي-أيه إم بي التي لم يقتصر تركيز مؤسساتها الأعضاء على الأولويات التشريعية لولاية ما بعينها، إنما لجأت إلى توسيع نطاق جهودها وتنسيقها بين الولايات، ما أسفر عن نجاحها في التأثير على السياسات مقارنة بتأثير أي مؤسسة عضو بمفردها.

من جهة أخرى، تركز نظريات التغيير القائمة على التعلم على تحسين جودة الخدمات التي تقدمها المؤسسات بالفعل. وتستخدم شبكة مركز المجتمعات الراعية (The Center for Communities That Care) هذا الأسلوب في عقد شراكاتها في الولايات المتحدة، فتعتمد على قادة المجتمع الذين ربما يمثلون المدارس أو قطاع الرعاية الصحية أو المؤسسات غير الربحية أو نظام العدالة أو الحكومة المحلية لتعلم الممارسات القائمة على الأدلة من أجل الحد من سلوكيات الشباب الخطرة، كتعاطي المواد المخدرة. ويعتمد تأثيرها الاجتماعي على مقدار ما تتعلّمه المؤسسات الأعضاء عن تلك الممارسات القائمة على الأدلة وتطبيقها في مجتمعاتها بالفعل.

وتتفوق الشبكات على المؤسسات الفردية في هذا الشأن في قدرتها على جمع بيانات الأداء والنشاط القابلة للمقارنة من مجموعة من المؤسسات المماثلة. (في حين تفتقر المؤسسات الفردية إلى وجود معايير إضافية خلاف أدائها السابق عند جمعها البيانات بشكل مستقل). على سبيل المثال، تستخدم شبكة جمعية شيكاغو للمقاييس المعيارية (Chicago Benchmarking Collaborative) نهج التعلم المقارن على الرغم من اختلاف مؤسساتها الأعضاء في أهدافها وعملائها، إذ يخدم بعض المؤسسات الأعضاء البالغين، بينما يركز بعضها الآخر على مراحل الطفولة المبكرة، وبما أن هذه المجموعات تعمل في أحياء مختلفة، تختلف طبيعة السكان الذين تخدمهم من حيث انتماءاتهم العرقية ولغاتهم الأم. وعندما انتاب قادتها الفضول بشأن الفرق الذي قد يحدثه تضافر الجهود في شيكاغو بدلاً من التركيز على أنشطة مؤسساتهم فقط، حددوا بداية البرامج والنتائج التعليمية التي يمكن قياسها في جميع مؤسساتهم، ولم يقتصروا على جمع البيانات فحسب، بل التزموا أيضاً بتبادل الممارسات ومراجعة النتائج ووضع الأهداف معاً، فدمجت كل مؤسسة عضو ممارسة واحدة على الأقل تعلمتها من مؤسسة عضو أخرى في خطة التحسين. فأتاح هذا النشاط القائم على الشبكة للمؤسسات الأعضاء إجراء مقارنة مُحكمة للبيانات، والتوصل إلى فهم أفضل لنتائجها، وتعلم استراتيجيات مختلفة وتطبيقها، ومن ثم تحسين النتائج التعليمية لعملائها.

أخيراً، تنسّق نظريات التغيير القائمة على مواءمة الأنظمة الخدمات المشتركة بين المؤسسات الأعضاء وتستكشف الفجوات في الخدمة. حيث تُجري هذه الشبكات مقارنات وتعديلات شاملة على الجهود التنظيمية الحالية على عكس نظريات التغيير التي تعتمد على إطلاق مشروع جديد، أو توسيع نطاق ممارسة ما، أو إدخال سياسة جديدة، أو تسهيل تعلم الأعضاء، فتخفض عدد الأنشطة التنظيمية أو تدمجها أو تغيّرها للتوصل إلى نهج أكثر شمولاً يخدم عدداً أكبر من المستفيدين، مقارنة بعدد المستفيدين من خدمات المؤسسة الفردية. ويتولد التأثير الاجتماعي من شبكات مواءمة الأنظمة عندما تسعى البرامج مجتمعة إلى تحسين النتائج بين السكان.

وتشير الاستثمارات الفيدرالية الأخيرة في أنظمة الرعاية المنسقة بالفعل إلى سعي مزيد من الشبكات إلى مواءمة الأنظمة. على سبيل المثال، أنشأ برنامج سلسلة الرعاية المتواصلة (Continuum of Care) التابع لوزارة الإسكان والتنمية الحضرية شبكة من مزودي خدمات الإسكان لإعادة إيواء الأفراد والأسر المشردة بسرعة. وتوفر خطة توجيه الولايات (Roadmap for States) التي أعدتها مراكز برنامج الرعاية الطبية (ميديكير) وبرنامج المساعدة الطبية الأميركي (مديكيد) إرشادات حول استخدام إعفاءات المادة 1,115 من برنامج المساعدة الطبية الأميركي لمساعدة الشبكات على اتخاذ قراراتها الخاصة في معالجة العوامل الاجتماعية المحددة للصحة ومواءمة الفوائد والبرامج والخدمات عبر المؤسسات.

على سبيل المثال، تقدّم شبكة أميركا سيرفز دعمها لـ 11 شبكة تُعنى بشؤون المحاربين القدامى والجنود الذين أنهوا خدمتهم العسكرية وبدؤوا حياتهم المدنية، إضافة إلى العائلات العسكرية. وتضمن أنظمة رعايتها عدم إغفال أي إحالة تُرسل إلى أي مؤسسة أخرى في الشبكة، فضلاً عن أنها تستخدم تقنية إحالة موارد المجتمع وفق نظام الحلقة المغلقة الذي يتعقب حالة كل إحالة. وتحتوي كل شبكة على مركز تنسيق يراقب حالة الإحالات ويتخذ الإجراءات اللازمة عند فشل التعامل مع أي منها، وهو ما يتيح لأعضاء الشبكة تقديم ملاحظات دقيقة بسرعة أكبر. ويبلغ متوسط وقت إجابة مؤسسة خدمة المحاربين القدامى في شبكة أميركا سيرفز على كل إحالة أقل من 48 ساعة، وهو تحسن هائل بالنسبة لقوائم الانتظار الكبيرة والشائعة في مثل تلك المؤسسات. وتستخدم الشبكة نظرية التغيير القائمة على مواءمة الأنظمة، لا سيما أنه لم تطرح أي مؤسسة مشاركة فيها أي برنامج أو خدمة جديدة، إنما تسعى إلى تحسين الوصول إلى الخدمات وتنسيقها، وتستخدم منصة مشتركة لإحالة موارد المجتمع وتعتمد مركز تنسيق مخصص لتقديم الإحالات في المؤسسات وتتبعها وإدارتها.

يدرك قادة الشبكات أن الديناميكيات التي يواجهونها قابلة للتغيير، ويتوقعون التحديات المحتملة، ويصوغون استراتيجيات لتجاوزها.

في الواقع، تسعى المؤسسات إلى تكوين الشبكات عند إدراكها وجود مصلحة مشتركة في مشكلة اجتماعية ما وإيمانها بقدرتها على تحقيق تأثير ملموس من خلال العمل معاً. وعادة ما يكون وضع نظرية التغيير كافياً لجذب بعض الأعضاء وجزء من التمويل. ومع ذلك، غالباً ما تخضع الشبكات لبعض التحوّل بمجرد بدء العمل، فتحاول بعض الشبكات الحفاظ على هيكلها الأولي ونظرية التغيير لترسيخ التزامها الأصلي تجاه الممولين أو المجتمع الذي تعمل فيه، وتجرب أخرى نظريات متعددة للتغيير لوعيها بإمكانات مجتمعاتها إلى حين الاعتماد على نظرية واحدة أو مزيج من نظريتين، وقد تحدّث الشبكات نماذجها أحياناً بناءً على ما تعلمته، وهو ما يدل على نضوج الشبكة، وهي تجارب نموذجية في الواقع، وذلك لتعامل الشبكات مع التغييرات التي تطرأ داخل الشبكة أو خارجها. لكن قد تواجه الشبكات في أحيان أخرى لحظات مصيرية تقودها إلى التساؤل حول جميع قراراتها السابقة بشأن أساليب عملها، وإذا ما كانت قادرة على تحقيق أي تأثير في وضعها الحالي.

خمس لحظات مصيرية مشتركة

تواجه الشبكات تغييرات مستمرة، ويتعاقب فيها الأعضاء الأفراد والمؤسسات، وتشهد تحوّلات في الموارد المؤسسية والموارد الشبكية، وتعمل في بيئات متقلبة، وتشهد تغيرات في القضايا الاجتماعية عندما يؤثر الرأي العام والقيادة السياسية والسوابق القانونية على فهمها لطبيعة المشكلات والحلول الممكنة. ويدرك قادة الشبكات بالفعل أن الديناميكيات التي يواجهونها قابلة للتغيير، ويتوقعون التحديات المحتملة، ويصوغون خططاً استراتيجية للتغلب عليها.

وفي الواقع، تختلف اللحظات المصيرية عن المشكلات اليومية التي يواجهها قادة الشبكات، فهي أحداث جذرية مزعزعة تدعوهم إلى التشكيك في افتراضات أعمالهم. وكما كتبت الباحثات ديبورا أغوستينو وميشيلا أرنابولدي ومارتينا دال مولين حول هذا الموضوع: "إذا تغلبنا على التحديات الناشئة من اللحظات المصيرية، فسندخل مرحلة جديدة من التعاون؛ في حين أن الفشل في التغلب عليها سيبدد أي فرصة للتعاون". وتوصلنا في بحثنا الذي أجريناه على مدار السنوات الخمس الماضية إلى خمس لحظات مصيرية مشتركة تواجهها الشبكات، أو تواجه واحدة منها على الأقل.

انخفاض مقدار الدعم الذي يقدمه المموّلون

تعتمد شبكات تأثير اجتماعي كثيرة على المنح خلال سنواتها الأولى من أجل توسيع نطاق أعمالها والانتقال من تقديم جهود تطوعية من قبل عدد قليل من المؤسسات إلى تعيين موظفين لإدارة الشبكة وتشغيلها. لكن الاعتماد على المنح قد يؤدي إما إلى الازدهار وإما إلى الانهيار.

وتواجه الشبكات الأكثر نضجاً لحظات مصيرية بالفعل عندما تبالغ في اعتمادها على مؤسسة مانحة واحدة لمواصلة أعمالها تكون أحد الممولين المؤسِّسين غالباً وجهة فاعلة ربما في تأسيس الشبكة في المقام الأول، ما يسبب لها الأزمات عندما تنتهي علاقات التمويل تلك.

لنتأمّل على سبيل المثال شبكة فلينت آند جينيسي لمحو الأمية (Flint and Genesee Literacy Network) وجهودها لتحسين النتائج التعليمية في مجتمع ولاية ميشيغن، حيث خسرت منحة وطنية في الوقت نفسه الذي تغيّر فيه قادتها، ما دفعها إلى السعي جاهدة للتوصل إلى استراتيجية تمكّنها من مواصلة أعمالها دون الحاجة إلى تمويل كبير. وتبنّى أعضاء الشبكة المتبقون في النهاية نظرية التغيير القائمة على المشاريع التي اعتمدت على الطلاب العاملين من كلية المجتمع المحلي وبرامج أميري كوربس (AmeriCorps).

حدث كبير يقلب أنشطة الشبكة رأساً على عقب

اضطرت شبكات التأثير الاجتماعي إلى التكيّف مع حدثين مهمين في العامين الماضيين، وهما جائحة كوفيد-19 والحساب العرقي القومي بعد مقتل جورج فلويد، حيث أجبرت جائحة كوفيد العديد من برامج المؤسسات الأعضاء وخدماتها على العمل بشكل افتراضي أو إيقافها عند تعذّر تقديمها وجهاً لوجه. كما أدت الاحتياجات الناشئة الجديدة المتمثّلة في انعدام الأمن الغذائي والحاجة إلى تأمين الاتصال بالإنترنت لأطفال المدارس إلى تولي بعض الشبكات والمؤسسات الأعضاء أنشطة جديدة. كما دفعت حركة حياة السود مهمة (Black Lives Matter) العديد من المؤسسات وأصحاب المصالح إلى تحديد هوية الشبكات التي سهّلت تحقيق التأثير الاجتماعي وشاركت فيه، وهوية الأشخاص الذين تسعى تلك الشبكات إلى خدمتهم.

وشهد العديد من شبكات التأثير الاجتماعي التي عملنا معها لحظات مصيرية بالفعل خلال العامين الماضيين، وخاصة الشبكات التعليمية التي تخدم طلاب المدارس. على سبيل المثال، أوقفت شبكات التحاق بكليات محلية كثيرة أنشطتها كلياً في أثناء الجائحة لارتباط أعمالها برجال الأعمال والحكومة والمجتمع وقادة التعليم، فضلاً عن مواجهة العديد من المناطق التعليمية والمدارس التي عملت معها أزمات مرتبطة بجائحة كوفيد-19، وفشلها في توفير الوقت والطاقة لمعالجة طلبات الالتحاق بالكليات.

قائد حالم يحيد عن الطريق

قد تشكّل التغييرات في القيادة تحديات وجودية لبعض الشبكات، لا سيما إذا فقدت الشبكات أحد داعميها الذي قد يكون قائداً مؤسساً أو صاحب رؤية أو قائداً تحوّلياً. وعلى الرغم من أن شبكات التأثير الاجتماعي تعتمد على الجهود الجماعية المنسقة، ترتبط غالبية مبادرات التغيير الاجتماعي بقادة أفراد ينجحون في إقناع الآخرين بمناصرة قضاياهم.

وقد تخشى المؤسسات الأعضاء والممولون أن يؤدي انفصال أحد داعميها عنها إلى تحوّل رؤية الشبكة عن مسارها، أو إلى انخفاض الدافع ونقص التمويل وضعف العلاقات. وبما أن داعمي الشبكة يجلبون خبراتهم إلى مجالات اهتمامهم، قد يخشى أعضاؤها من احتمال افتقارهم إلى الحماس أو الخبرة لتنفيذ هدف الشبكة المحدد مسبقاً. لنتأمّل مثال شبكة بيتسفيلد بروميس (Pittsfield Promise) القائمة على التعليم، حيث أثار انفصال العديد من القادة المهمين عنها مخاوف بشأن فقدان مشاركين آخرين انضموا إلى الشبكة بناءً على طلب أولئك القادة. فعندما انفصل المناصرون الأوائل عن مؤسساتهم وبالتالي عن الشبكة، شكّك بعض الأعضاء المتبقين في التزاماتهم تجاهها.

مؤسسة قوية تتحكم بعمل الشبكة

غالباً ما يؤدي قادة الشبكات دور الوسيط في العلاقات بين أعضاء الشبكة الأكثر والأقل قوة. وبما أن الشبكات تستند إلى اتفاق طوعي بين المؤسسات، غالباً ما يكون لمدير الشبكة، إن وُجد، سلطة رسمية محدودة على عمل المؤسسات، وقد تتحكم المؤسسات الأكثر قوة في عمل الشبكة في بعض الحالات.

تدرك هذه المؤسسات القوية غالباً أن برامج الشبكة تقع ضمن مجال اختصاصها الأساسي وتؤمن بفعالية تشغيلها بشكل مستقل عن الشبكة. على سبيل المثال، تحكّمت منطقة تعليمية في عمل شبكتين تعليميتين أجرينا دراسة عليهما. ففي شبكة شراكة هارتفورد لنجاح الطلاب (Hartford Partnership for Student Success) في ولاية كونيتيكت، أُعجب رئيس دائرة المدارس بمشروع مدارس المجتمع لدرجة أنه قرر المشاركة فيه والالتزام بتمويله، فوسّع العمل ليشمل مدارس أخرى، ما زاد من عدد الطلاب الذين يتلقون الخدمات. وعلى الرغم من أن العمل اقتصر على المدارس، تضاءل دور الشبكة. وبالمثل، انطلق مشروع حارس أخي (My Brother’s Keeper) في ماونت فيرنون في ولاية نيويورك بهدف تشكيل شبكة، لكن المنطقة التعليمية التي تُعد الوكيل المستلم للأموال من الولاية استحوذت عليه. وبما أن المنطقة التعليمية كانت ملزمة بعرض نتائج أعمالها على المموّل للاستمرار في تلقي التمويل، وجدت أن تشغيل البرامج داخلياً كان أسهل من العمل مع تحالف المجتمع المتنوع.

إجهاد الاجتماعات الذي يرهق الأعضاء

يدرك العديد من الشبكات التي أجرينا دراسة عليها أنها تحاول تلبية سلسلة من المطالب المتضاربة. وتتمثّل إحدى أكثر المشكلات الشائعة التي تواجه قادة الشبكات في محاولتهم إبراز تقدمهم في مجتمع يتوق إلى رؤية آثار تغيير اجتماعي واسع النطاق من خلال تسليط الضوء على الإنجازات الأصغر للشبكة، لكنهم يواجهون صعوبة في إطلاق هذه المشاريع الأولية بسرعة في حال انخراط العديد من أصحاب المصالح فيها، وهي صعوبة تخلق توتراً بين كفاءة الشبكة والشمول بحسب الباحثين في مجال الشبكات. واختارت شبكات كثيرة من التي تابعناها إدارة هذه المشكلة من خلال عقد اجتماعات منتظمة دعت إليها أصحاب المصالح المهتمين، أسفرت خلال وقت قصير عن تحفيز الناس وتوفير شعور بالشفافية والشمول لأنها كانت متاحة للجميع. ومع ذلك، تستغرق الاجتماعات وقتاً طويلاً، ولا يمكن لأي شخص حضورها كلها، على الرغم من بذل قادة الشبكات قصارى جهدهم لعقدها في أوقات مناسبة وفي أماكن يسهل الوصول إليها، وهو ما قد يصيب الأعضاء بالإرهاق على المدى الطويل.

لنتأمّل مثال شبكة التعليم للجميع (Education for All) التي تركز على المجتمع وتهدف إلى تحسين النتائج التعليمية من مرحلة الطفولة المبكرة وحتى مرحلة دخول الكلية إضافة إلى تعزيز مهارات الاستعداد الوظيفي. استضافت الشبكة ثلاثة أنواع مختلفة من الاجتماعات في محاولة للوصول إلى كل من قادة المؤسسات وأعضاء المجتمع، وهي اجتماعات لقادة المؤسسات لاتخاذ قرارات ذات صلة بأعمالهم، واجتماعات إعلامية كبيرة لأولئك الذين يرغبون في الحصول على تحديثات وكانوا أقل انخراطاً ربما في أنشطة الشبكة، واجتماعات فرق العمل المكونة من أعضاء المؤسسة أو المجتمع الذين يرغبون في تعزيز مشاركاتهم. حتى إنها عقدت جلسات تدارك غير رسمية قبل الاجتماعات الإعلامية لمناقشة موضوعات الاجتماعات السابقة مراعاةً لمخاوف بعض الناس المرتبطة بتفويت حضور اجتماع ما والتخلّف بذلك عن أقرانهم. وعلى الرغم من أنها كانت تعتزم تبنّي نهج الشمول، أقرّ قادتها في النهاية أن "الإجهاد الناجم عن الاجتماعات" أثّر على المشاركين.

وكثيراً ما تواجه الشبكات مشكلة دوران الأعضاء، وهو أمر لاحظناه منذ فترة طويلة في بحثنا. لكن لا يضمن أي هيكل اجتماع مشاركة جميع أصحاب المصالح في الشبكة أو تعزيز شعورهم بالاندماج، على الرغم من وجود العديد من الطرق للمساهمة. شعر قادة شبكة التعليم للجميع بالانزعاج من أولئك الذين اعتبروا هيكل اجتماعاتها الشامل بديلاً عن تطوير الشبكة، فناقشوا فكرة دعوة مشاركين من المجتمع في أحد الاجتماعات ليدركوا في النهاية أن هيكل اجتماعاهم أثبط عزيمة هؤلاء الأشخاص الذين اعتقدوا أن "كل ما تفعله الشبكة هو التشدّق بالكلام" بدلاً من الترويج للتغيير الاجتماعي.

العمل التحضيري للشبكات المرنة

تضع اللحظات المصيرية مستقبل الشبكة على المحك، سواء أصيب أعضاؤها بالإعياء أو خسرت تمويلها، وعليها بالتالي إما تغيير طريقة عملها وإما حلّ أعمالها. ومع ذلك، وجد بحثنا أن بعض الشبكات تتبنى ممارسات تجعلها أكثر مرونة قبل أن تواجه أي لحظة مصيرية، كأن تركز على الحد من المخاطر المرتبطة بقيادة الشبكة المركزية، ونظريات التغيير الغامضة، والاهتمام غير الكافي بإدارة النزاع. باختصار، تُجري الشبكات المرنة استثمارات تجعلها في منأى عن آثار أي لحظة مصيرية. ونقدم ثلاث توصيات عامة بناءً على الاستراتيجيات التي أثبتت فعاليتها.

تبنّي اللامركزية في قيادة الشبكة

يجب أن تصمد أي شبكة مرنة أمام معدل دوران الأعضاء الفرديين، حتى ولو كانوا قادة مؤسسين أو تحوّليين. وقد تبنّت بعض الشبكات التي أجرينا دراسة عليها نهج القيادة المركزية الذي يعتمد على مؤسسة رائدة أو "رئيسية" يتخذ فيها قادة الشبكة قراراتهم عادة بالتشاور مع أعضائها الآخرين، لكن عادة ما تؤدي التغييرات في القيادة في الشبكات المُدارة مركزياً إلى زعزعة تلك الشبكات.

في المقابل، تبنّت بعض الشبكات هياكل القيادة اللامركزية التي توزع نطاق الحوكمة، ما جعلها أكثر مرونة في مواجهة آثار أي لحظة مصيرية بحسب ما توصّل إليه بحثنا. تأمّل مثال شبكتي تحالف نجاح الأسر (Family Success Alliance) في مقاطعة أورانج بولاية نورث كارولاينا التي تركز على كسر حلقة الفقر، وشبكة حملة القراءة على مستوى الصف الدراسي في مقاطعة مارشال تاون في ولاية أيوا التي تركز على تحسين درجات القراءة لدى طلاب الصف الثالث. تعتمد كلتا الشبكتين على الهياكل اللامركزية التي تتيح لهما مواصلة أنشطتهما حتى مع انفصال القادة الأساسيين عنهما، إضافة إلى تمكين أدوار العديد من أصحاب المصالح. وبالعودة إلى مثال شبكة تحالف نجاح الأسر، أسفرت مشاركة المؤسسات المختلفة للإشراف على البرامج إضافة إلى مشاركة أصحاب المصالح في المجتمع، مثل مجلس الآباء، عن وجود العديد من الجهات الفاعلة ذات الأدوار القيادية، بدلاً من الاعتماد على شخصية واحدة صاعدة في الشبكة. أما بالنسبة لحملة القراءة في مقاطعة مارشال تاون، فأسهم تمكين التحالفات المجتمعية وتعزيز العلاقات بين الأعضاء المختلفين في تيسير أعمال الشبكة بعد تقاعد قائدها الرئيسي الذي قاد مؤسسة محلية لمدة 40 عاماً.

تحديد نظرية تغيير الشبكة ومواءمتها مع الموارد

لا تُفصح بعض الشبكات أبداً عن دور أنشطتها في تحقيق التأثير الاجتماعي المنشود، لكن يمكن لأي شبكة أن تتكيف مع التغيرات في التمويل والقيادة والعمليات وغيرها من خلال تحديد نظريتها المتعلقة بالتغيير، والتوصل إلى الطرق التي تتيح لها دعم تلك النظرية، حتى لو اضطرت إلى تغيير خطتها الأصلية.

نحن نفهم بالفعل سبب المبالغة في تقدير حسن نوايا المشاركين بصفتنا باحثين متخصصين في مجال الشبكات التعاونية منذ فترة طويلة ومساهمين في مثل هذه الأنشطة أيضاً.

يجب أن تبدأ الشبكات أولاً بتحديد النظرية التي تتبناها من نظريات التغيير الخمس لكن دون أن تتوقف عند هذا الحد. تحدد الشبكات القوية نظريتها في التغيير باستخدام التخطيط العكسي، بمعنى أن تحدد هدفها وتأثير أنشطتها على هذا الهدف. في حين تحدد الشبكات الأكثر قوة مؤشرات النجاح الرائدة والمتأخرة حتى تتمكن من اختبار صحة نظرياتها في التغيير.

وتتطلب مثل هذه العملية أن يكون قادة الشبكات واقعيين بشأن مدى توافق نظرية التغيير مع الموارد التي يمتلكونها أو التي يمكنهم تنميتها. وعادة ما ترتبط اللحظات المصيرية بتقلبات الموارد أو النزاعات التي تدور في الشبكة بين الأعضاء أو المجتمع. لكن قد يتساءل قادة الشبكة عما إذا كانوا يمتلكون الموارد التي يحتاجون إليها للحفاظ على تماسك الشبكة قبل حدوث اللحظات المصيرية. وقد يكون اختيار نظرية معينة للتغيير سبيلاً للنجاح في عصر يتطلب من المؤسسات غير الربحية ومبادرات التأثير الاجتماعي تحقيق مزيد من الأثر بموارد أقل، وهو قرار يتيح للشبكة التخلّص من الأنشطة التي لا تبرع في أدائها للتركيز على الأنشطة التي تقع ضمن مجال اختصاصها. ويُفيد تحديد نظرية التغيير أيضاً في تحميل الممولين وأصحاب المصالح المهتمين بدعم جهود الشبكة أو تقييمها بعض المسؤولية.

وتتطلب نظريات التغيير القائمة على المشاريع عموماً موارد أقل تتيح للمشاريع بمرور الوقت العمل بشكل مستقل عن الشبكة التي أطلقتها. وعلى النقيض من ذلك، تعد مواءمة الأنظمة نظرية تغيير ذات أفق زمني طويل. وعادة ما يكون قادة الشبكات الذين يتبنون نظرية مواءمة الأنظمة المدعومة بمنح قصيرة الأجل أو دون مشاركة قادة الحكومة في وضع محفوف بالمخاطر. وقد تكون الشبكات التي تفشل في مواءمة نظرية التغيير مع مواردها الحالية أكثر عرضة للتصفية، تماماً كالشركات ذات رأس المال المنخفض.

وضع منهجيات للتعامل مع النزاع

نحن نفهم بالفعل سبب المبالغة في تقدير حسن نية المشاركين بصفتنا باحثين متخصصين في مجال الشبكات التعاونية منذ فترة طويلة ومساهمين في مثل هذه الأنشطة أيضاً، حيث تفترض شبكات كثيرة أن المصلحة المشتركة في تحسين النتائج التعليمية والصحية ستتيح لها التغلب على أي خلاف محتمل.

النزاع طبيعي في الشبكات، والخلافات الناشئة بين الأفراد والمؤسسات ذات الأهداف وإجراءات التشغيل المختلفة هي أمر حتمي، فقد لا يتبنى أعضاء المجتمع نهج الشبكة. وتتمثّل أفضل طريقة للاستعداد للنزاعات في اعتماد عمليات رسمية لصناعة القرار تكون فعالة أو شاملة، مثل صناعة القرار بالإجماع. يستغرق اتخاذ القرار بالإجماع وقتاً أطول قليلاً، وهو ما قد يثبط أعضاء الشبكة المتحمسين لرؤية التغييرات في مجتمعاتهم. من جهة أخرى، تضمن هذه العملية سماع آراء أعضاء الشبكة، وفهمهم لكيفية اتخاذ القرارات، وتقليل احتمالية انفصالهم عنها بسبب النهج الذي تتبعه الشبكة في اتخاذ القرارات. كما تساعد عمليات صناعة القرار الرسمية في تحقيق التوازن بين المصالح القوية في الشبكة وفي تطبيق إجراءات نموذجية للتعامل مع العديد من النزاعات.

وعلى قادة الشبكات أيضاً تنمية مهاراتهم فيما يتعلق بإدارة النزاعات وتقييمها، وهي عملية يحدد فيها المدراء طبيعة النزاع وإمكانيات التدخل. كما أن عليهم تقييم أساليب إدارة النزاع وتعلم استراتيجيات محددة، مثل تبني وجهات نظر الآخرين أو نهج الدبلوماسية المكوكية (الوساطة)،

وقد لاحظنا بالفعل استعانة بعض الشبكات بأطراف ثالثة تؤدي دور الوسيط عندما يفوق النزاع قدرة قادة الشبكة على حله أو عندما يكون متجذراً بعمق. على سبيل المثال، عندما توقعت شركة إيج ويل بيتسبرغ (AgeWell Pittsburgh) حدوث نزاع حول إغلاق البرامج أو إعادة تنظيمها لتحقق مواءمة أفضل مع أهداف الشبكة، استعانت بوكالة أخرى للحفاظ على التزام الشركاء.

عند وقوع اللحظة المصيرية

قد يجد قادة التأثير الاجتماعي صعوبة في الاعتراف بمواجهتهم لحظات مصيرية، ويشعرون بالصدمة والحزن لحنينهم إلى أسلوب عمل الشبكة السابق متسائلين عن كيفية تجاوز تلك اللحظات. لكن القادة الفعالين يدركون وقت مواجهة تلك اللحظات بالفعل ويلتزمون الصراحة بشأنها، ويستخدمونها للإجابة عن أسئلة أساسية مثل:

  • ما الهدف من تأسيس شبكتنا؟
  • ما الأثر الاجتماعي الذي نسعى إلى إحداثه، وما نظريتنا في التغيير؟
  • ما النهج الذي علينا تبنيه في صناعة القرارات؟
  • كيف سنموّل العمل؟

يمكن للقادة الإجابة عن هذه الأسئلة بسرعة أحياناً، لا سيما عندما تكون شبكاتهم مستعدة بالفعل لمثل هذه الأزمات في الثقة. وإذا حددت الشبكة نظريتها في التغيير بالفعل، وكيفية اتخاذها قرارات صعبة، وأوضحت قيمها أمام المجتمع وأعضاء الشبكة، فيمكنها استغلال اللحظة المصيرية واعتبارها فرصة لإعادة النظر في أهدافها وإعادة الالتزام بها. من جهة أخرى، عندما يعجز القادة عن الإجابة عن تلك الأسئلة أو عندما تتغيّر إجاباتهم عنها باستمرار، سيصعب عليهم تجاوز اللحظة المصيرية ويضطرون إلى إجراء محادثات على مدى عدة شهور بهدف إعادة تنظيم الشبكة، هذا إن جرت مثل تلك المحادثات بالفعل.

لنتأمّل مثال شبكة تحالف شباب بريطانيا الجديدة (Coalition for New Britain’s Youth)، وهي شبكة تعليمية متخصصة في التدريب والتوظيف وتركز على الاستعداد الجامعي أو الوظيفي في ولاية كونيتيكت. عندما بدأنا الحديث مع هذه الشبكة في عام 2017، كان قد مضى على عملها حوالي 16 عاماً ولديها مؤسسة أساسية تضم عدداً قليلاً من الموظفين، بمن فيهم المدير التنفيذي. وعندما تحدثنا مع أعضائها عام 2020، علمنا أنها مرت بلحظة مصيرية ترك الموظفون خلالها المؤسسة، ما دفعها إلى تبني مهمة ورؤية وقيم وبنية تنظيمية جديدة تخلّت فيها عن التركيز على النتائج التعليمية، وحصرت مهمتها وقيمها الجديدة على دعم عائلات بأكملها وتعزيز أصوات الشباب. ومع ذلك، تمثّل التغيير الأكثر أهمية في منع الممولين من المشاركة في اجتماعات التحالف، كما اعتادوا دائماً، وتشجيعهم بدلاً من ذلك على المشاركة في مجموعة منفصلة خاصة بمساهمات الممولين، وتطلب الانتقال ذلك أكثر من عام.

لكن لا تمتلك كل شبكة الخيارات نفسها خلال اللحظة المصيرية، بل ما يحدد خياراتها هو طبيعة تلك اللحظة والقرارات التي تتخذها قبل حدوثها. وندعو هذا المبدأ "التبعية للمسار"، فالشبكة التي تتبنى هيكلاً إدارياً جديداً تماماً أو مهمة أو نظرية تغيير لا يعني أنها تعود خطوة للوراء أو تبدأ من الصفر، لكن إعادة تكوين أي شبكة أكثر صعوبة من تأسيسها في الواقع.

على سبيل المثال، تختلف اللحظات المصيرية التي تواجهها الشبكات التي تتبنى نظريات التغيير القائمة على المشاريع أو السياسات أو المحفزات عن الشبكات التي تتبنى نظريات التغيير القائمة على نظريات التعلم أو مواءمة الأنظمة. ووجدنا في بحثنا أن الشبكات التي تتطلب من المؤسسات الأعضاء أداء مهام تتجاوز عملياتها اليومية أو أنشطتها العادية كانت أكثر عرضة لمواجهة لحظات مصيرية. على سبيل المثال، غالباً ما تكون المشاركة في الحملات المشتركة خارجة عن نطاق الاختصاص الرئيسي للمؤسسات، وغالباً ما تتطلب نظريات التغيير القائمة على المحفزات من أعضاء الشبكة تعزيز جهودهم المحلية لتوسيع نطاق تأثيرهم.

وغالباً ما تسفر اللحظات المصيرية عن إنهاء عمل الشبكات إذا كانت تُدير برنامجاً واحداً، مثل شبكة "استعدّ أن تكون والداً!" فعندما قلّلت شركات التأمين من وقت الوالدين في المستشفى، لم يعد لدى الشركاء الموارد المالية أو الوقت لدعم البرنامج، ما أدى إلى حلّ الشراكة في النهاية. ولا يعود سبب إنهاء البرنامج إلى انخفاض الطلب أو تضاؤل جهود الشركاء، فقد حصلت الشبكة في الواقع على جائزة العمل التعاوني المقدَّمة من مؤسسة لودستار (Lodestar)، لكن امتلاك سجلٍ من النجاح ووجود شركاء ملتزمين هما عاملان غير كافيين لدعم أي شبكة تواجه لحظة مصيرية.

تركز الشبكات التي تعتمد على نظريات التغيير القائمة على التعلم ومواءمة الأنظمة بشكل أساسي على تحسين العمليات الحالية للمؤسسات المعنية من خلال اكتساب ممارسات أفضل أو مواءمة الجهود مع البرامج الأخرى. ويدعم كل من نظريتي التغيير هاتين العمل المؤسسي الحالي، ما يجعلهما أقل عرضة لمواجهة لحظات مصيرية.

في الواقع، شكّلت جائحة كوفيد-19 لحظة مصيرية للعديد من الشبكات التي أجرينا دراسة عليها واختبرنا مرونتها وقدرتها على التحمّل. على سبيل المثال، أجرى فريق بحثنا مقابلات شخصية مع موظفين في 11 مؤسسة محلية في شبكة أميركا سيرفز خلال العام الأول من جائحة كوفيد-19. وكما ذكرنا، توفر هذه الشبكات إحالات دون طرق الأبواب الخطأ إلى 21 نوعاً مختلفاً من المزايا والبرامج والخدمات، بدءاً من الطعام إلى السكن إلى الإثراء الروحي. بمعنى آخر، لا يُطلب من العملاء التواصل مع أي شخص آخر لتلقي هذه الخدمة، وذلك لتمتّع أي مزود بصلاحية تقديم الإحالة. على سبيل المثال، أغلقت العديد من المؤسسات الأعضاء التي قدمت خدماتها للمحاربين القدامى أبوابها لبعض الوقت في أثناء الجائحة وطلبت من موظفيها العمل عن بُعد، لكن شبكاتها تكيفت بسرعة مع الاحتياجات الناشئة من خلال وضع استراتيجيات جديدة لتحقيق الأهداف نفسها.

لا توجد طريقة لتحصين أي شبكة بالكامل من الأزمات، وفي الواقع، ينبغي ألا تتوقع أي شبكة جادة بشأن التأثير الاجتماعي تحقيق أهدافها دون التغلب على العقبات.

على سبيل المثال، لم يعد بإمكان شبكة بي أيه سيرفز (PAServes) التابعة لشبكة أميركا سيرفز إجراء تواصلات وجهاً لوجه للعثور على المحاربين القدامى ذوي الاحتياجات، ولن تتمكن إحدى المؤسسات الشريكة التابعة لها من تقديم برامجها بعد الآن لأنها لا تعمل عبر الإنترنت، فغيّرت الشبكة وجهتها، وجمعت قوائم المحاربين القدامى الذين شاهدتهم في الأحداث المجتمعية وشرعت في استخدام التسويق عبر البريد الإلكتروني لتوعيتهم بالموارد المتاحة من أغذية وخدمات أساسية، وشجعت برنامج الشركاء المغلق على تقديم المواد الغذائية والطبية، وهو أمر لم تفعله من قبل، وأضافت أداة فرز جديدة ودقيقة للقبول لتلبية مزيد من الاحتياجات المشتركة في الوقت نفسه (كاحتياجات السكن والغذاء والمساعدة في التوظيف) وتحسين كفاءتها في التعامل مع العملاء الجدد. وتمكّنت عندما أدركت تأثير شبكتها الاجتماعي من تغيير وجهتها بسرعة من خلال ربط المحاربين القدامى بخدمات متعددة تلبي احتياجاتهم. وعندما أدركت المؤسسات الأخرى أن شبكة بي أيه سيرفز نجحت في ربط المحاربين القدامى بالخدمات التي تقدمها بالفعل، واصلت الاستثمار فيها.

شبكة أكثر مرونة

ماذا يعني أن تتجاوز شبكة ما لحظة مصيرية؟ لاحظنا تميّز إحدى الشبكات التي أجرينا دراسة عليها، وهي شبكة فويدج (Voyage) في ويلمنغتون بولاية نورث كارولاينا. تخلق نظرية التغيير التي تبنتها شبكة فويدج مسارات للشباب والأسر الناجحة. وهي تتبّع نظرية هجينة للتغيير تستدعي إجراء تنسيق بين عدة مؤسسات (أي أنها قائمة على المشاريع) وتستخدم البرنامج الذي يحمل اسمها والموجه لدعاة التوعية المجتمعية (أي مواءمة الأنظمة). يعمل دعاة التوعية المجتمعية مع الأسرة لتحديد أصولها وأهدافها، ووضع خطة عمل لتحقيق النجاح، كما أنهم يعرّفون الأسر بالفوائد والبرامج والخدمات المناسبة التي يقدمها أعضاء الشبكة.

واتخذت شبكة فويدج بضع خطوات مفيدة في السنوات التي سبقت اللحظة المصيرية بالفعل، أولها إفصاح قادتها عن نظريتها في التغيير في وثائقها التأسيسية وموقعها على الإنترنت ليكون نهجها معروفاً للجميع، وثانيها جمع فرق عمل ومجالس مجتمعية متعددة، أتاحت لها تبني نهج اللامركزية الإدارية من خلال توزيع الأدوار والمسؤوليات عبر الشبكة، بدلاً من المبالغة في الاعتماد على شخصية مركزية واحدة. وثالثها معالجة أوجه النزاع التي تهدد قابلية الشبكة للنجاح في مراحلها الأولى. وعندما شعرت المؤسسات غير الربحية المحلية بالقلق من احتمالية أن تقوض الشبكة الجهود التنظيمية، وهو نزاع مألوف في بحثنا، دأبت الشبكة إلى تجاوز تلك المخاوف وبناء الثقة.

وبدأت اللحظة المصيرية عندما انفصل قائد تحوّلي عن الشبكة، وتبنّى المدير التنفيذي الجديد نهجاً أكثر شمولية تناول البحث في العلاقات والأسر والمجتمعات والمؤسسات التي أثرت في قرارات الشبكة اليومية. كما غيّر اسمها لتعكس قيمها المتغيرة من لجنة الشريط الأزرق لإنهاء عنف الشباب (Blue Ribbon Commission to End Youth Violence) إلى فويدج. وواصلت نموها منذ ذلك الانتقال، حيث ضاعفت إجمالي عدد الطلاب في برنامجها وزادت عدد العائلات التي تخدمها بشكل كبير. وفي عام 2017، شاركت حوالي 30 مؤسسة في الشبكة؛ وارتفع العدد إلى 51 مؤسسة بحلول عام 2019. وتتناقض تجربتها تلك المرتكزة على التوجيه والإعداد مع مؤسسة محو الأمية.

ويقترح بحثنا ضرورة أن يدرك القادة أن مواجهة لحظة مصيرية هي أمر حتمي. قد ينجح هؤلاء القادة في توقع تلك اللحظات أحياناً، في حين قد يكون توقع لحظات أخرى مستحيلاً في أحيان أخرى. وقد تُنهي بعض الشبكات أعمالها، إما لتضاؤل جهودها أو لفشلها في تجاوز الأزمة. من جهة أخرى، قد تنجح شبكات أخرى في التكيّف والازدهار، مستغلة فترة التراجع الاستراتيجي لتغيير وجهتها، ما يتيح لقادتها إثبات قدرة شبكاتهم على الاستجابة لاحتياجات الأعضاء والمجتمع والتركيز على القيم الحقيقية التي تقدمها.

لا توجد طريقة لتحصين أي شبكة بالكامل من الأزمات، وفي الواقع، ينبغي ألا تتوقع أي شبكة جادة بشأن التأثير الاجتماعي تحقيق أهدافها دون التغلب على العقبات. لكن الشبكات المرنة قادرة على تجاوز تلك اللحظات لإيمانها بقدرتها على الاستمرار في خدمة مجتمعاتها. قد تثنيها اللحظات المصيرية عن التحوّل، لكنها ستتيح لها التركيز على نظريتها في التغيير وعلى ماهية قيمها.

يمكنكم الاطلاع على النسخة الإنجليزية من المقال من خلال الرابط، علماً أنّ المقال المنشور باللغتين محمي بحقوق الملكية الدولية. إنّ نسخ نص المقال دون إذن سابق يُعرض صاحبه للملاحقة القانونية دولياً.

المحتوى محمي