التحوُل إلى استراتيجيات تمويل شاملة تعزز دور العمل الخيري

5 دقيقة
زيادة تأثير العمل الخيري

أثارت السرعة الكبيرة والمذهلة في إلغاء بعض السياسات واعتماد سياسات جديدة في الولايات المتحدة دهشة كبيرة لدى الكثيرين في قطاع المؤسسات غير الربحية. بالطبع، لا يقتصر هذا التأثير على الجهات العاملة في القطاع الاجتماعي فقط، ولكن هذه الجهات تمتلك فرصة حقيقية ودافعاً نابعاً من رسالتها وهدفها للتحرك واتخاذ خطوات فعالة. يدرك العديد من هذه الجهات ضرورة تحرك المؤسسات الخيرية التي تدعم جهودها بسرعة لتقديم المساعدة.

هناك نقاش متزايد حول طبيعة هذا الدعم المطلوب. يؤيد العديد من المراقبين زيادة المِنح، وهو ما بدأ بعض المؤسسات بالإعلان عنه بالفعل. نظراً لأن العديد من المؤسسات غير الربحية تعاني تجميد المنح التي كانت تقدمها الحكومة أو سحبها وتواجه تحديات سياسية أخرى، فمن الممكن أن تؤدي الأعمال الخيرية دوراً بالغ الأهمية من خلال الاستثمار المعاكس للدورة الاقتصادية (دعم المؤسسات غير الربحية عند تخفيض المنح الحكومية أو سحبها)  لتخفيف هذه الصعوبات.

وعلى الرغم من أهمية زيادة الدعم المالي الخيري، فإن كيفية إنفاق هذه الأموال ربما تمثل أهمية أكبر. يتطلب القطاع غير الربحي تمويلاً لبناء القدرات وإنشاء أدوات ومنصات تواصل وتنسيق مشتركة ووضع الاستراتيجيات بين المؤسسات المختلفة وتقريب وجهات النظر لبناء تحالفات أوسع وذات مصالح مشتركة، بالإضافة إلى وضع جداول أعمال شاملة وتنفيذها على مستوى القطاع ككل. عموماً، تحتاج المؤسسات التي تعمل مجتمعةً من أجل خدمة الصالح العام إلى تمويل يُسهم في بناء شبكات تواصل وتحديد الأولويات وتنظيمها، ثم العمل على تنفيذها على نطاق واسع.

باختصار، تحتاج هذه المؤسسات إلى تمويل لبناء القطاع. في الواقع، ارتكزت الإنجازات الاجتماعية البارزة التي تحققت في العقود الأخيرة، مثل تقليل تدخين الأطفال، على عنصر أساسي، وهو بذل جهود مركزة لدعم شبكة المناصرين والمؤسسات من خلال تعزيز قدراتهم المشتركة وتنسيق جهودهم.

يمكن أن تسهم هذه الأنواع من الاستثمارات مجتمعةً في إحداث أثر كبير في الوقت الحاضر وفي المستقبل، فهي تشكّل قوة موازنة أو مقابلة تخفف هدر الموارد في المؤسسات. تسهم هذه الاستثمارات أيضاً في تنفيذ العمل التعاوني الواسع النطاق، وهو أمر أساسي لأي استجابة فعّالة في مواجهة التحديات الحالية. كما أن الفائدة المستقبلية كبيرة، وهي تعزيز قدرة القطاع الاجتماعي على إحداث تحسينات ملموسة تشمل المجتمع بأكمله.

تتمثل المشكلة في قلة المِنح اللازمة لبناء القطاع عبر التاريخ. باستثناء المؤسسات التي تركز على الأهداف السياسية المحافظة، لم تقدم الأعمال الخيرية ما يكفي من هذه الاستثمارات الضرورية لبناء القطاع، على الرغم من إثبات المحللين لأهميته ودوره في تحقيق إنجازات مميزة.

في الواقع، خلص تقرير مهم أعده محللو القطاع الاجتماعي في مؤسسة ذا بريدجسبان غروب (Bridgespan Group) إلى أن جهود بناء القطاع هي من الاستثمارات الأكثر قيمة وأهمية التي يمكن أن يقدمها الممولون، ولكنها كانت الأقل حصولاً على التمويل عبر التاريخ. تتوافق هذه النتيجة مع التجارب الواقعية التي عاشها كل شخص أعرفه في القطاع الاجتماعي، ويشمل ذلك تجربتي الشخصية خلال السنوات التي عملت فيها على تحسين مياه الشرب النظيفة في إحدى المؤسسات البيئية الوطنية.

لكن الخبر السار وجوهر الفرصة الحالية هو أن التحول إلى ثقافة بناء القطاع السائدة أصبح أكثر إمكانية من أي وقت مضى، وذلك بسبب الشعور المشترك والعميق بأن الظروف التي نعيشها في الوقت الحاضر لم تكن متوقعة. بعض اللحظات تكون مهمة. في الأدب والأفلام السينمائية، يُطلق على الاكتشاف المثير بأن الحقيقة مختلفة عمّا كان متوقعاً مصطلح "اللحظة الحاسمة" (Anagnorisis)، مثل مشهد اكتشاف لوك أن دارث فيدر هو والده في فيلم حرب النجوم. في الوقت الحالي، يمثّل وعي الأعمال الخيرية الجماعي بالواقع غير المألوف لحظة حاسمة وقوية، وإن كانت أقل درامية، ولكنها قادرة على إحداث تحول في توجهات الأعمال الخيرية.

يتطلب هذا التحوّل تغيير 4 أنماط تمويل شائعة ومتداخلة، وهي نمط التمويل المجزأ (الذي يركز على دعم كيانات فردية أو مشاريع منفصلة) والتمويل الضيق النطاق (الذي يركز على أهداف أو قضايا محددة جداً) والتمويل الإقصائي أو الانتقائي والتمويل المركّز للسلطة (الذي يعزز هيمنة الجهات المانحة على عملية اتخاذ القرار)، واستبدال هذه الأنماط بأخرى أكثر إنتاجية تقوم على الشمولية والاتساع ( أي تغطية مجموعة متنوعة من القضايا) والانفتاح أو التشاركية وتوزيع السلطة.

  1. يجب أن تركز الأعمال الخيرية على دعم شبكات المؤسسات والأفراد الذين يعملون لتحقيق أهداف مشتركة ضمن المجال نفسه، بدلاً من انتقاء جهات معينة للحصول على المِنح. يتمثل السبب المنطقي الأساسي لبناء القطاع في حقيقة مفادها أن المؤسسات الفردية لا يمكنها حل التحديات الكبيرة بمفردها، وبالتالي، فإن التنسيق الحقيقي والهادف لتحقيق أثر جماعي هو أمر بالغ الأهمية. لكن لا تخلو عملية التنسيق من الصعوبات، كما أنها لا تحدث مجاناً. من الضروري أيضاً توفير بنية تحتية مشتركة كافية للحركات الاجتماعية، ويشمل ذلك القدرة على جمع البيانات والاتصالات والتدريب والتنظيم والموارد المشابهة.
  2. ترتبط مشكلة نقص الدعم للأدوات المشتركة بتحدٍّ آخر يزيد من حدّتها، وهو حصر التمويل في عدد قليل نسبياً من المؤسسات غير الربحية. يوفر التمويل المخصص للمدافعين عن البيئة والمناخ مثالاً واضحاً على ذلك. وفقاً لأحد التقديرات، يوجد 30,000 مؤسسة غير ربحية معنية بالبيئة في الولايات المتحدة، وعلى الرغم من ذلك، فقد حصلت 204 مؤسسات فقط على 50% من التبرعات التي قدمها أعضاء جمعية مقدمي المِنح البيئية (Environmental Grantmakers Association)، والتي بلغت 2.3 مليار دولار في عام 2021؛ وفي عام 2018، تلقت 5 مؤسسات غير ربحية 13% من التبرعات في ذلك العام. وعلى الرغم من إعادة منح بعض هذه الأموال لمؤسسات أخرى، فإن هذا النمط لا يسهم كثيراً في تعزيز القطاع ككل.
  3. يُظهر قطاع البيئة والمناخ أيضاً نمطاً ثالثاً؛ إذ إن المؤسسات التي يقودها أفراد من مجتمعات أصحاب البشرة الداكنة والسكان الأصليين وأصحاب البشرة الملونة في الولايات المتحدة (BIPOC) أو تلك التي تخدم هذه المجتمعات تتلقى مجتمعةً نسبة ضئيلة من التمويل تتراوح بين 1.3 و20% من إجمالي المِنح، وذلك تبعاً للدراسات والمناطق الجغرافية. تؤدي هذه الممارسة إلى حرمان تلك المؤسسات، التي ترتبط عادة ارتباطاً وثيقاً بمجتمعاتها المحلية وتمتلك معرفة عميقة بقضاياها، من القدرات الأساسية اللازمة لأداء دورها بفعالية. يؤدي هذا الأمر أيضاً إلى إضعاف المجتمع المدني ككل من خلال تقليص فرص التعاون الواسع النطاق، الذي يمكن أن يسهم في تحقيق أهداف كبيرة.
  4. أخيراً، تشارك مؤسسة واحدة فقط من كل 10 مؤسسات سلطة اتخاذ القرار مع الجهات المستفيدة والأكثر تأثراً بتمويلها. يمثّل التمويل التشاركي، الذي يمنح العاملين في المجال صلاحية اتخاذ قرارات التمويل، وسيلة مناسبة وفعالة لتمويل الحركات الاجتماعية وتوسيع نطاق الدعم المالي، وهو ما نحتاج إليه في الوقت الراهن.

إجمالاً، يمكن أن تعوق أنماط التمويل السائدة الجهود التحويلية، وربما تضعف الطموحات الرامية إلى إحداث التغييرات من خلال تقييد المبادرات والجهود الواسعة النطاق التي يقودها العديد من الجهات القادرة على إحداث تغيير جذري في طريقة التفكير الاستراتيجي. من الناحية العملية، يؤدي هذا النمط إلى حرمان العديد من المؤسسات غير الربحية من التمويل التشغيلي العام اللازم لبقائها وازدهارها، وهو شرط أساسي للمشاركة في الجهود والمبادرات الكبرى.

في أفضل الأحوال، يعكس النهج الحالي ما يسميه علماء الأحياء في سياق آخر "عدم التطابق التطوري" (Evolutionary Mismatch)، إذ إن السلوكيات المميزة المتبعة في العمل الخيري لم تواكب التغيرات السريعة في البيئة المحيطة. في هذا السياق وغيره، إذا أدت لحظة الإدراك الحاسمة هذه إلى تركيز الانتباه نحو تحسين أساليب دعم المؤسسات غير الربحية، فسيكون ذلك إنجازاً عظيماً. من الضروري في الوقت الحاضر تبني ممارسات تسهم في تعزيز الاستدامة وتحسين القدرة على التواصل، والأهم من ذلك، تحقيق التأثير الجماعي، فمثل هذه الممارسات ستؤدي إلى نتائج أفضل مع مرور الوقت.

 

يمكنكم الاطلاع على النسخة الإنجليزية من المقال من خلال الرابط، علماً أنّ المقال المنشور باللغتين محمي بحقوق الملكية الدولية. إنّ نسخ نص المقال من دون إذن مسبق يُعرض صاحبه للملاحقة القانونية دولياً.          

المحتوى محمي