من الأكاذيب إلى الحقيقة: رؤية مستقبلية للعمل الخيري

4 دقائق
قطاع العمل الخيري

ثمة دعوات متزايدة لتخلي قطاع العمل الخيري عن الممارسات التي لا تخدم الناس ولا حتى الكوكب.

نعيش في ظل تحولات كارثية مثل الجائحة التي تسببت في وفاة أكثر من ستة ملايين إنسان حول العالم؛ والحرائق والمجاعات وموجات الصقيع والفيضانات؛ وزعزعة الأمن والاستقرار في أماكن عدة حول العالم. وكل ذلك يشير إلى تدهور النظام العالمي.

لكن ثمة أيضاً قفزات هائلة من التقدم إلى الأمام لم يتوقعها الخبراء ولم يتنبأ بها المسار المنطقي للأحداث. والمثال على ذلك حدوث أكبر احتجاجات متواصلة في تاريخ الولايات المتحدة تدافع عن الحقوق المدنية في أثناء الجائحة التي أعلنت فيها جميع الأعراق والمعتقدات أن "حياة السود مهمة". والاستجابة السريعة باختراع لقاحات فعالة لكوفيد-19 والتوزيع السريع لها في مختلف دول العالم؛ وانتخاب أول امرأة من ذوي البشرة السمراء لمنصب نائبة الرئيس في الولايات المتحدة وتعيين قاضية من ذوي البشرة السمراء أيضاً للمرة الأولى في المحكمة العليا الأميركية.

ونظراً لنطاق التحديات المستقبلية وإمكانية إحداث تغيير حقيقي، نمرُّ الآن في الوقت المناسب لمناقشة كيف يجب أن يتغير أداء قطاع العمل الخيري لمواجهة تبعات الماضي ولتحويل مسار التاريخ نحو العدالة. لا مجال لأساليب الأعمال التقليدية، فثمة حاجة ملحّة لدى الناس والكوكب لتأسيس رؤية جديدة للأعمال الخيرية والتخلي عن الممارسات القديمة العديمة الفائدة وبناء ممارسات جديدة تدفعنا إلى الأمام.

من التنقيب إلى التجديد

يعزز هوس المجتمع بالمقاييس، مثل الناتج المحلي الإجمالي، الفكرة الخاطئة التي تشير إلى إمكانية النمو الدائم والرغبة في تحقيقه. لكن دورة الفصول، الدورة الطبيعية للحياة والموت، تعلمنا عكس ذلك. ففي عملية الزراعة والحصاد والبذار، يجب ألا نستهلك البذار المخصصة لزراعة الموسم القادم. نحن نعيش على كوكب قادر على التجدد، لذلك من ممكن أن نحصل على الوفرة فقط في حال وضعنا حداً لجشعنا واستثمرنا في التجديد. تقاوم المجتمعات في منطقة زقاق السرطان (Cancer Alley) السيئ الصيت في ولاية لويزيانا الأميركية شركات الوقود الأحفوري التي تُصر على خيارها الخاطئ لتوفير الوظائف ولو كان ذلك على حساب البيئة والهواء الخالي من الملوّثات. ألا يجب أن يقف العمل الخيري إلى جانب الخير في مواجهة الخراب؟

من العمل الفردي إلى التعاون

تؤدي الثروة أحياناً إلى العزلة، ولهذا السبب قد يتمسك الكثير من المتبرعين الأثرياء بوهم أهمية الاكتفاء الذاتي. ومن المفارقات أن الطريقة التي يُمارس بها العمل الخيري التقليدي تُبعد المتبرعين الأثرياء عن المجتمعات التي يسعون إلى خدمتها عبر مؤسساتهم الخيرية. لكن العمل الخيري القائم على الثقة، والذي تتنامى ممارسته بشكل مدروس بمرور الوقت، يساعد المانحين على التكاتف مع المجتمعات والعمل لتحقيق الأهداف المشتركة في العدالة والإنصاف.

من العمل الموضوعي إلى العمل المستند إلى التجربة

في بدايات مسيرتي المهنية، عندما كنت أول شخص من ذوي البشرة السمراء في قاعة اجتماعات مجلس الإدارة أو الوحيد فيها، غالباً ما تساءل قادة المؤسسة عما إذا كان بإمكاني أن أكون حيادية عند التوصية بتقديم مِنح لخدمة مجتمع ذوي البشرة السمراء. في ذلك الوقت، كان يُظن أن البيض وحدهم يمتلكون تلك المهارة الأساسية التي يُفترض أنها مطلوبة لمراجعة مقترحات المنح، وهي التدقيق المجرد من العواطف الذي لا تؤثر فيه المعرفة بطبيعة المستفيدين أو سياق ظروفهم أو اختبار ما يعيشونه. تنبّه العمل الخيري في السنوات الأخيرة فقط لأهمية سؤال الناس الأكثر تأثراً بالمشكلة عما يرونه الحل وإشراكهم في تطبيقه. فعندما نفعل ذلك تظهر أفكار رائعة، مثل إعطاء المال للأشخاص الذين يعانون قلّتها بدلاً من تقديم الخدمات، وإنفاق التمويل المدرسي على وجبات الغداء بدلاً من أجهزة الكشف عن المعادن، وفتح مجمعات التوظيف والحدائق والمكتبات بدلاً من فتح السجون ومراكز الاحتجاز وتزويدها بالموظفين، أو توفير سكن دائم للمشردين بدلاً من وضعهم في ملاجئ مؤقتة.

من العمل الآلي إلى العمل الحيوي

أحدثت المصانع ثورة في الإنتاج من خلال تدخل الآلة في جميع المهام والقدرة على تكرارها. حيث تُصنِف خطوط التصنيع العمليات على نحو منظم وبذلك تضمن القدرة على الإنتاج بكميات كبيرة. ويخطئ العمل الخيري في كثير من الأحيان عندما يقلد هذا النموذج على أمل أن تعالج عملية مبسطة وفعالة جميع المشكلات الاجتماعية المعقدة بالطريقة نفسها التي ننتج بها أجهزة الكمبيوتر أو السيارات. ولكن ذلك غير صحيح. إذ يتشبث الكثير من الأثرياء بحلم الحل الواحد القادر على إنهاء العديد من المشكلات ويفاجَئون عندما لا تستطيع برمجية رياضيات جديدة تحويل الأطفال الجياع أو المشردين إلى طلاب متفوقين. لا تُصنع الفعالية عبر الآلات في المصانع، بل تُثمرها الأشجار القوية ذات الجذور الراسخة. إذ يمكن للأيدي البيضاء نسج العديد من الحلول ضمن شبكة أمان مجتمعية، فلا وجود للحلول السحرية.

من السيطرة إلى التبادلية

العمل الخيري عمل تبادلي فالمتبرعون يعطون ويأخذون في آن واحد. لكن العادات الظالمة هي التي تسمح للمتبرعين اعتبار أنفسهم مانحين والآخرين متلقين. فلا تقلل المنحة من قيمة المستلم وتجعلها أقل من المانح. العطاء ليس إخضاعاً بل علاقة تبادلية ومتكافئة. وغالباً ما يكون العمل الخيري التقليدي شريكاً مُريعاً. متى نعي أننا نتلقى في نفس الوقت الذي نعطي فيه؟

من الكراهية إلى المحبة

في زيارة قام بها صندوق ديموكراسي فرونتلاينز (Democracy Frontlines Fund) مؤخراً إلى مركز السلام والعدل التذكاري (Peace and Justice Memorial Center) التابع لمبادرة المساواة في العدالة (Equal Justice Initiative)، أوقفني تعليق لآش لي ودارد هندرسون، وهي إحدى شركائنا في المِنح حيث قالت: "بينما كنت أقود سيارتي اليوم إلى مدينة مونتغمري بولاية ألاباما في الولايات المتحدة، تساءلت عما إذا كان ينبغي أن أحضِر حراسة شخصية معي". فقد أحرق المتظاهرون مؤخراً مكاتب مؤسستها هايلاندر ريسيرتش آند إديوكايشن سنتر (Highlander Research and Education Center). وأضحت التهديدات ضد الناشطين من ذوي البشرة السمراء والآسيويين والأقليات والسكان الأصليين واسعة الانتشار وخطِرة. ومع ذلك، عندما أسمع ودارد هندرسون تتحدث عن التزامها بالكفاح من أجل حرية الجميع في منطقة أبالاتشيا وجنوب أميركا، بمن فيهم البيض، لا يسعني إلا أن أستقي الإلهام من الحب الذي يغذي كفاحها. في كثير من الأحيان يتم تبرير كراهية المتطرفين اليمينيين وعنفهم على أنهما نتيجة "الخوف" وعلى الرغم من ذلك فإن الذين عانوا الأذى والتهديدات الفعلية هم من ينشرون الحب. فلنستثمر في الحب.

من الأكاذيب إلى الحقيقة

إن الفكرة الخاطئة القائلة بأن "التعليم هو المُنقذ من الفقر" تتجاهل ديون الطلاب الكبيرة التي تعيق تقدم الكثير منهم. كما تتجاهل مقولة "اعمل بجد وسوف ترتقي في سلم النجاح" 30 عاماً من ركود نمو الأجور الذي استنزفته زيادة قوة الشركات وثروتها. "كن مواطناً ملتزماً بالقانون ولن يكون لديك ما تخشاه من الشرطة" هذه العبارة لم يعد من الممكن أن ينطق بها أصحاب البشرة السمراء الذين ماتوا على أيدي الشرطة، مثل بريونا تايلور وجورج فلويد. ونظراً لأن العديد من قيادات المؤسسات الخيرية يأتون من خلفيات ثرية ومميزة، فقد تعامل القطاع الخيري التقليدي مع تجاربهم الشخصية كما لو كانت حقائق ثابتة. وهي ببساطة ليست كذلك. وبالنسبة إلى كثير من الناس هي مجرد أكاذيب. وفي حال أراد قطاع العمل الخيري المنظم أن يكون فعالاً ومؤثراً حقاً فعليه أن يؤدي دوراً حيوياً في المساعدة على تفكيك أنظمة القمع المتشابكة من خلال قول الحقيقة والمصالحة والإصلاح.

تلك بعض التغييرات الجذرية التي يجب أن نجريها في عملنا الخيري في السنوات القادمة إذا أردنا تحقيق مستقبل قائم على رعاية الآخرين والتعدد العرقي وعدم الإقصاء، وهو المستقبل الذي نريده لأنفسنا ومجتمعاتنا. ولا توجد طرق مختصرة أو حلول سريعة لبناء هذا المستقبل. فالطريقة الوحيدة لحل المشكلة مواجهتها. يداً بيد.

يمكنكم الاطلاع على النسخة الإنجليزية من المقال من خلال الرابط، علماً أنّ المقال المنشور باللغتين محمي بحقوق الملكية الدولية. إنّ نسخ نص المقال دون إذن سابق يُعرض صاحبه للملاحقة القانونية دولياً.

المحتوى محمي