سأقدّم اعترافاً هنا وقد يكون مرتبطاً بمشكلة أعانيها، وهي أنني قلّما يبهرني شيء! قد يظنّ البعض أن هذا أمر عادي، لكنه أمر مؤلم أحياناً وغير صحّي، وأعتقد أنه مرتبط بداء البحث عن الكمال والسعي لإضافة عنصر الإبهار في كثير من الأعمال. المشكلة أنه في عالم الابتكار حيث أعمل وأعيش، تحتاج في كثير من الأحيان إلى الظهور بنماذج أولية رديئة، بل يقولون إنه إذا لم تُشعرك النسخة الأولى من منتجك بالحرج فقد تأخرت كثيراً في الإطلاق. على كل حال، وجدتُ أن الفريق الذي أعمل معه يساعدني في تجاوز المشكلة التي لدي، فأحرصُ دائماً على أن يكون منهم مَن هو على نقيضي في هذا الجانب.
المهم، ثمة مواقف وأماكن قليلة ولربما بعض الأشخاص وبعض السطور قد أبهرتني وأعطتني ذلك الشعور الذي لا يوصف والذي يواكبه اندفاع كبير لهرمون الدوبامين. من هذه المواقف القليلة التي أبهرتني موقف اليوم الختامي في برنامج ديوان الابتكار.
برنامج ديوان الابتكار هو أحد البرامج التي أطلقتها مؤسسة محمد بن سلمان "مسك"، ليكون محرك صناعة المبتكرين الاجتماعيين في المملكة العربية السعودية من خلال تحفيز الشباب على المشاركة وتقديم الحلول الإبداعية والمبتكرة للتحديات والمشكلات التي تواجه المجتمع. قد يبدو الوصف المختصر بسيطاً لكن العبرة بالتفاصيل.
تبدأ رحلة الديوان من خلال البحث عن تحدّيات مجتمعية في مجالات مختلفة: الصحة، التعليم، المشاركة المجتمعية، البيئة، وغيرها. ويتم هنا إشراك فئات المجتمع المختلفة وخصوصاً الشباب لمشاركة التحديات التي يرونها حولهم، ثم يراجع فريق البرنامج هذه التحديات مع خبراء متخصصين في كل مجال، حتى يخرجوا بقائمة تضم أهم التحديات وأكثرها شيوعاً، ثم يُدرس كل واحد منها ويُعطى شرح وافٍ وبيانات ومعلومات عن المشكلة أو التحدي، مع توضيح المبادرات والمحاولات العالمية والمحلية التي تمت لمعالجة هذا التحدي نفسه، فنحن لا نريد إعادة اختراع العجلة، بل نريد حلولاً ابتكارية مؤثرة، حتى لو كانت تحسيناً وتطويراً على حلول سابقة.
بعد ذلك يُفتح الباب أمام المشاركين الشباب للمشاركة في حلول لهذه التحديات، ومن الأمور التي أعجبتني أنه قد لا يكون لديك حل، لكن لديك مهارة تعتقد أنها ستكون مفيدة في صناعة الحل، فأنت مرحّب بك، ستكون أنت وأمثالك أعضاءً في فريق متكامل ومتنوّع جاهز لإيجاد الحل الأفضل للمشكلة التي ستختارونها.
تكون المشاركات بالآلاف وتجري فلترتها بناءً على معايير معينة، لاختيار الأفضل منها. تنتقل الأفكار المُختارة إلى مرحلة المعسكر الافتراضي، وهناك تبدأ رحلة صناعة روّاد الابتكار الاجتماعيين من خلال جلسات مكثفة هدفها تزويدهم بالمهارات والمنهجيات والعقليات التي يحتاج إليها روّاد الابتكار. يُدرَّب المشاركون على التفكير التصميمي ويتم العمل على زرع عقليات المبتكرين لديهم مثل التمحور حول الإنسان، والتجريب المستمر، وتقبّل الفشل، والتفاؤل، وتقبّل الغموض، والتعلّم المستمر، والعمل الجماعي، والتجرّد والبحث عن الأدلة والبيانات، وغيرها. ويتخلل المعسكر جلسات للإلهام مع روّاد أعمال قد صنعوا الأثر وقادوا التغيير، جلسات تثير الهمّة والحماس في نفوس المشاركين.
مع نهاية المعسكر الافتراضي تُعاد دراسة الأفكار وتُقيّم من قبل لجنة مستقلة وتُجرى مقابلات شخصية مع الفرق المشاركة، بهدف التعرّف على المشاركين بشكل أفضل ودراسة شخصياتهم ودرجة فهمهم للمشكلة والحل الذي يقترحونه، ومحاولة قياس مدى رغبتهم ودرجة التزامهم في تحويل هذا الحل المقترح إلى واقع. هذه المقابلات تساعدنا في اكتشاف روّاد الأعمال الاجتماعيين الذين ينبغي أن نستثمر فيهم أكثر وأكثر. من أهم الأمور برأيي هو اكتشاف تلك المواهب وتلك الشخصيات التي ينبغي أن نستثمر فيها، الأشخاص أهم بكثير من الأفكار والحلول، فمتى ما وجدت الشخص الذي لديه الحماس والهمّة والالتزام والفِكْر والقِيَم فتشبّث به، لأنه قد يكون مشروع نهضة ومحرّكَ أثر في المستقبل.
على الرغم من كل الأمور الرائعة التي ذكرتها، فإن الجزء الذي أبهرني هو المعسكر الحضوري واليوم الختامي لديوان الابتكار. 70 فكرة فقط تنتقل إلى المعسكر الحضوري حيث يركّز المشاركون على اختبار أفكارهم وتجريبها مع أصحاب المشكلة، والتعديل والتحسين عليها عدة مرات. لو زرتم مكان المعسكر لوجدتموه يمتلئ صخَباً وحركة وحماساً، كأنكم في سوق يوم الجمعة، لكن دون بيع ولا شراء، على الأقل في هذه المرحلة. التقيتُهم هناك وحدّثتهم عن ضرورة التحقق من الافتراضات التي نضعها للحل من خلال التحدّث أكثر إلى أصحاب المشكلة وكيف علينا أن نتّبع الحقائق والبيانات والأدلة حتى وإن كانت مؤلمة، وألا نرتبط عاطفياً بالفكرة، بل بالمشكلة. أيضاً في المعسكر الحضوري كنت أحدّثهم عن صناعة القصة وأهمية السرد القصصي عند عرض أفكارهم الإبداعية على لجنة التحكيم والداعمين المحتملين. عندما كنت أتجوّل هناك كانت ثمّة كلمة لا تنفكُّ تسمعها في كل مكان؛ على المنصة وبين المقاعد والطاولات وفي أماكن الاستراحات. كلمة من أجلها عمِل الفريق القائم على الديوان لأشهر بل لسنوات، هي كلمة السر وسر الفوز والنجاح.
في ذلك المكان اطّلعت على أفكارٍ لتوظيف المتقاعدين، وإنقاذ النحل والنحّالين، ومواساة مرضى السرطان وتقويتهم، وتحسين سلوك الأطفال، ومساعدة المكفوفين، ورفع كفاءة الخريجين، ومساعدة الباحثين، وكرات للبذور، وفكرة لمساعدة مرضى اضطراب ثنائي القطب، وواحدة لتهيئة المصابين بمتلازمة داون للعمل، وغيرها الكثير، أما تلك الفكرة الأخيرة فقد أبكتني، ولها قصة لا تُحكى على الهواء ولا في الفضاء. من الأمور التي لاحظتها أن كل فريق عَمِل على مشكلة كان واحد أو أكثر من أعضائه يعاني بشكل أو بآخر من تلك المشكلة. بينما كنت أتجوّل بين الفرق التقيتُ الدكتورة أحلام وهي استشارية في الأورام السرطانية، كانت تعمل على حلّ لتقديم الدعم النفسي لمرضى السرطان، أخبرتني عن بعض القصص التي عاشتها مع المرضى وعن تلك المكالمة المختلفة عن كل المكالمات: "مرحباً.. فلان أو فلانة، صدرت نتائج التحاليل، نأسف لإخباركِ بأنكِ مصابة بمرض السرطان". أخبرتني عن الحالة النفسية للمرضى وعائلاتهم بعد سماع هذا الخبر، وعن الشعور بالصدمة والضياع بل لربّما الشعور بالموت، مع أن الأصل في مرضى السرطان أنهم سيمرّون في رحلة علاجية ويعودون بعدها إلى حياتهم الطبيعية، بحسب قولها.
نأتي إلى مرحلة تحكيم الأفكار في اليوم الختامي، تلك المرحلة المرهقة والمؤلمة، على غير العادة، فلطالما حكّمت في مسابقات وملتقيات، لكنها المرة الوحيدة التي أجد فيها عدداً من أعضاء لجنة التحكيم يخفون دموعهم وهم يستمعون إلى القصص التي يرويها المشاركون حول حلولهم، لطالما شعرتُ أن كثيراً من الذين أدرّبهم على صناعة القصة يروونها بطريقة أفضل مني. لقد أبهروني بأسلوبهم وقوة بُنية قصصهم وترابطها وجودة إلقائهم.
في الختام، فازت 5 فرق مميزة، كنت أبارك لها، وأهمس في أذن من لم يفز في تلك المسابقة أو في أي مسابقة: "القصة تكون أقوى وأجمل وأكثر إلهاماً وتأثيراً عندما تبدأ بجد واجتهاد ثم خيبة أمل لعدم الفوز، ثم نهوض من جديد، فتسطير فوز أغلى وأكبر، ثم تلقّي دعوة إلى المكان نفسه والمنصة نفسها لكن هذه المرة بصفتك "مُلهِماً" يحكي قصة الفوز الكبير أمام المشاركين".
بعد انتهاء ديوان الابتكار تبدأ رحلة جديدة للفرق الخمس الفائزة ومعها 10 فرق أخرى، تلك الرحلة الجديدة لا تقل أهمية عن الأولى، في هذه الرحلة تكون هناك فرصة للدخول في برنامج حاضنة مسك للمبادرات الشبابية، الذي يهدف إلى تحويل الحلول والأفكار التي خرجت من الديوان إلى مؤسسات مجتمعية ومساعدتها على النمو والتوسع والتسجيل بشكل رسمي وذلك من خلال رحلة تمتد إلى 14 أسبوعاً تجمع بين الإرشاد والتوجيه والدعم المادي.
الجميع في ديوان الابتكار يسعى لتحقيق تلك الكلمة وإحداث ذلك المعنى، الكل يسعى من أجل "الأثر". ولعلي أوجه دعوة من هنا لشبابنا وشاباتنا للمشاركة في ديوان الابتكار والبرامج المشابهة، فهناك فرصة كبيرة لصناعة الابتسامة وإحداث الأثر.