الرفاه الداخلي: ربط رفاه الأفراد بالتغيرات المجتمعية

الرفاه الداحلي
Shutterstock.com/UncleFredDesign
استمع الى المقالة الآن هذه الخدمة تجريبية
Play Audio Pause Audio

يمكن أن يؤدّي دعمُ الرفاه الداخلي لصانعي التغيير إلى تعزيزِ القدرةِ على الابتكارِ والتعاون، ويؤدّي في النهايةِ إلى حلولٍ أكثرَ فعاليةً للمشاكلِ الاجتماعيةِ والبيئية.

“هناك شحٌّ في المعرفةِ التي لدينا حولَ الإشاراتِ التحذيريةِ المُبكّرةِ للإرهاقِ الوظيفيِّ لدى العاملين في الخطوط الأمامية. لطالما كان السؤالُ هو كيف نحصلُ على [العاملين في الخطوط الأمامية]، وليس كيف نعتني بهم ونساعدُهم على التطوّر مع مرورِ الوقت؟ إذا كنتُ ممرضاً رواندياً يعمل في مجال رعايةِ مرضى السرطان [أو] مرضى نقص المناعةِ المكتسب في مكانٍ ذو مواردَ متواضعةٍ جداً، فما مقدارُ الموتِ الذي سَأحْتَمِلُ رؤيتَهُ قبلَ أن أفقدَ القدرةَ على الاعتناء بعائلَتي، أو الذهاب إلى العمل؟ أو إذا كنتُ عاملاً مجتمعياً في مجال الرعاية الصحية في هايتي، كم مقدارُ المجاعةِ الذي سأحتملُ رؤيتهُ دون أخذِ فترةٍ للراحة؟ لمْ نَقُم بدراسةِ هذا الأمرِ جيداً”

               – غاري غوتليب؛ المدير التنفيذي لمنظمة «شركاء في الصحة».

إنَّ العمالَ الإغاثيين والناشطينَ والرواد المجتمعيين ومزودي الرعاية الصحية والمعلمين وغيرهم من الأفراد الفاعلين الذين يُشكّلونَ نسيجَ الصحةِ والرعايةِ في مجتمعنا، يعيشونَ ويعملون في خضمِّ تحدياتٍ عظيمةٍ؛ لكن على الرغمِ من أنّ صنّاعَ التغييرِ هؤلاء يعملون على إيجاد الحلولِ وتحقيقِ التقدّمِ، فإنَّ العديدَ منهم يعانون من الاحتراق الوظيفي ويواجهون كمّاً هائلاً من التحدياتِ الشخصيةِ؛ مثل الاكتئاب والطلاق وخطر الإصابة المبكرة بالأمراض المزمنة. خلف الكواليس؛ يعاني العديدُ من وكلاءِ التغيير – على جميع المستويات التنظيمية ومختلف القطاعات في جميع أنحاء العالم، في الوقت نفسه؛ نحن بعيدونُ عن مواجهةِ التحدياتِ الاجتماعيةِ والبيئية في يومنا هذا؛ نحن بحاجةٍ لتحقيقِ المزيدِ من التعاونِ والمزيدِ من الابتكار. لذلك، فإن إيجادَ طرقٍ لمواجهةِ التحدياتِ الشخصيةِ التي يُواجِهها صانعو التغيير أمرٌ مهمٌّ ليسَ فقط لكونِهِ مهمّاً بحدِّ ذاتهِ، ولكن أيضاً لأنه يُمَكِّنُنا من إحداثِ تغييرٍ اجتماعيٍّ أكثرَ فعاليةً.

كان الحديثُ حولَ رفاهِ صنّاعِ التغييرِ محظوراً على نطاقٍ واسعٍ، ويحظى بالقليلِ من الاهتمامِ في التيّارِ العامِّ للتغييرِ الاجتماعي لفترةٍ طويلةٍ من الزمن؛ ويرجع ذلك جزئياً إلى ثقافةِ التضحيةِ بالنفسِ والشهادة؛ هناكَ توقّعٌ ضمنيٌّ أن الأشخاصَ العاملينَ في مجالِ التغييرِ الاجتماعي يضعونَ الآخرينَ أمامَ أنفُسِهِم- سواء كانوا يعملونَ على إنقاذِ حياةِ الآخرين بشكلٍ مباشرٍ، أو على الدعوةِ لحمايةِ المناخ؛ إلا أنَّ الاهتمامَ بالدورِ الذي يلعبُهُ الرفاهُ في قيادةِ التغييرِ الاجتماعي ليسَ بالأمرِ الجديد، فقد تَجَذّرَ في العديدِ من الحركاتِ والتقاليدِ مع مرورِ الزمن. إن التوجُّهَ نحوَ الاعتناءِ بحياتِنا الداخليةِ لتغذيةِ عملِنا في العالمِ، قد عزّزَ بالطبع بعضَ أقوى الحركاتِ في الأجيال السابقة، بالإضافةِ إلى تفكيرِ القادةِ العظماء؛ مثل غاندي وإيلا بهات وروزا باركس وديزموند توتو، فعلى سبيل المثال؛ إن تبنّي مبادئ مثل اللاعنف -وهو اتخاذُ تدابيرَ إيجابيةٍ لمقاومةِ الاضطهادِ أو تعزيزِ التغييرِ الاجتماعي مع الامتناعِ عن ارتكابِ العنف- يتطلّبُ وعياً ذاتياً عميقاً وانخراطاً ذاتياً وممارسةً متواصلة.

كمثالٍ آخر؛ على مدى العقودِ القليلةِ الماضية؛ أكّدَ بعضُ القادة والجماعات ضمن الحركةِ التي تنادي بحقوقِ المرأةِ على أهميّةِ الرفاهِ الداخلي، ففي عام 1988، بَيّنتِ الكاتبةُ والناشطةُ أودري لورد نظريةَ النشاطِ الاجتماعي التي يتم تَبَنِّيها بشكلٍ متزايدٍ؛ والتي أعطتِ الأولويّةَ للرعايةِ الذاتيةِ باعتبارِها حيويّةً لنجاحِ الحركة، واصفةً الرعايةَ الذاتيةَ بأنها “الحفاظُ على الذات، وهذا عملٌ من أعمالِ النضال”، فالاعترافُ بأن العديدَ من النساءِ المشاركاتِ في الحركةِ قد عانَينَ من الصدمةِ، ويتعرَّضنَ لمزيدٍ من الصدماتِ في إطارِ جُهودهنَّ لدفعِ التقدم، بدأَ بالانخراط في الاجتماعات الرئيسية لحقوق المرأة؛ مثل المؤتمر الدولي للمرأة والصحة لعام 2003. في غضون ذلك؛ بدأت منظماتٌ مثل CREA و AWID و Urgent Action Fund بالاعتراف بمبادرات دعم رفاه المرأة ودعمها، وفي وقتٍ لاحقٍ؛ طَوَّرت حركةُ حقوقِ المرأةِ بعضاً من أوائلِ الأدلةِ للرعايةِ الذاتيةِ وموادَ أخرى للناشطين، بالإضافة إلى ممارساتٍ تركّزُ على الصحة الداخلية للناشطين.

هذا الأمر يتبعُ بشكلٍ جزئيٍّ لجهودٍ مثل هذه؛ حيث أصبحت مشكلة الرفاه أكثر وضوحاً في حقل التغيير الاجتماعي على مدى العقود الماضية؛ مما حفّزَ البحثَ للحصولِ على نظرةٍ وفهمٍ أكثرَ شمولاً. وَجَدَت دراسةٌ قامت بها منظمةُ «يونيت» عام 2018 والتي مَثَّلَت مُوظَّفي الجمعيات الخيرية والمنظمات غير الربحية في المملكة المتحدة، أن 42% من موظفي قطاع التغيير الاجتماعي يشعرون أن عملهم يُشَكّلُ تحدياً أمامَ صحتهم العقلية، كما وجدت دراسةٌ قام بها مشروعُ الرعاية المجتمعية عام 2016، أن 57% من المستجيبين والعاملين الاجتماعيين في إنجلترا ينزعون للإفراط في تناول الطعام لتخفيف المشاعر السلبية (أو ما يُدعى الأكل العاطفي) كآليةٍ للتأقلمِ مع التوترِ وضغوطِ العمل، بينما يستخدم 35% منهم الكحول، وبالإضافةِ إلى ذلك؛ 63% من المستجيبين يعانون من صعوبات في النوم، وقال 56% أنهم مرهقون عاطفياً، كما قال 75% أنهم قلقون بشأن الاحتراق الوظيفي؛ تم التوصُّلُ إلى هذه النتائج بين الأفراد العاملين في القطاع وأصحاب الأدوار القيادية، أما في سياقِ الأعمال الإنسانية، فإن 19.4% من محامي حقوق الإنسان الذين أكملوا دراسةً تمَّت عام 2015، وتناولتِ الصحةَ العقلية والرفاه استَوفوا المعاييرَ التي تشيرُ إلى إصابتهم باضطراب ما بعد الصدمة (PTSD)، بينما 18.8% منهم استوفوا معاييرَ اضطراب ما بعد الصدمة الفرعي، و14.7% منهم استوفوا شروطَ الإصابة بالاكتئاب؛ تَظهَرُ صورٌ مشابهةٌ من قطاعات تغيير اجتماعي فرعية أخرى عالمياً؛ متضمنةً الحركة بالغةَ الأهميةِ التي تدعى «حياة أصحاب البشرة السوداء مهمة Black Lives Matter».

إن العمل في قطاع التغيير الاجتماعي صعبٌ في الحقيقة، وغالباً ما يكون مؤلماً؛ العاملون الصحيون الذين يقدمون الرعاية لمرضى السرطان أو فيروس نقص المناعة البشرية، يَشهَدونَ الموت باستمرار، بينما يواصلُ الناشطونَ البيئيون الذين يعملون على إبطاءِ فقدانِ الأنواع والأنظمة البيئية تَتَبُّعَ الإحباطِ الذي أصابهم؛ أضِف إلى ذلكَ حقيقةَ أن أعداداً كبيرةً من الأشخاص الذين ينضمون إلى القطاع الاجتماعي، قد عانوا سابقاً من صدمةٍ شخصيةٍ، ويختارون في كثيرٍ من الأحيان القيامَ بعملٍ مرتبطٍ بتجاربهم الشخصيةِ الصعبة، فليسَ من الغريب -على سبيل المثال- أن يعمل شخصٌ تعرّضَ للتنمُّرِ شخصياً في مؤسسةٍ تتعاملُ مع هذه المشكلة؛ مثلُ هذه العلاقات شائعةٌ أيضاً في منظمات مكافحة الفساد والمنظمات البيئية.

ساعد العمل الرائد لناشطين مثل هؤلاء المذكورين سابقاً، بالإضافة إلى الأبحاث الجديدة، على إرساء حجر الأساس للتحول الثقافي الذي نشهده اليوم، وبالنظر إلى السياق الثقافي الأوسع؛ نجد أن المناقشات والممارسات المتعلقة بالمشاكل مثل الذهنية والصحة العقلية قد أصبحت شائعةً؛ وخاصةً في الغرب، وفي مجال التغيير الاجتماعي؛ يدرك المزيد والمزيد من الناس أن الرفاهية قضيةٌ أساسيةٌ يحتاج المجالُ إلى معالجتها بشكلٍ مفتوحٍ وفهمها بشكلٍ أفضل.

إعطاء الإحصائيات جانباً بشرياً

مشروع الرفاه هو الناتج المشترك لكل من شبكات «أشوكا»، «إيسالين»، «إمباكت هاب»، «بورتيكوس»، مؤسسة «سكول»، «ساينيرجوس»؛ تم تأسيسه عام 2014 لتحفيز ثقافة الرفاه الداخلي لكل صناع التغيير. انبثقت فكرة المشروع من مقابلاتٍ صادقةٍ ومفعمةٍ بالمشاعر مع الأشخاص المنخرطين في التغيير الاجتماعي حول العالم؛ والذين يتشاركون نفس الصراعات الشخصية وحاجتهم للدعم، وقد منحتنا هذه المقابلات فهماً عميقاً لحالة هؤلاء الأشخاص، والتحديات التي يواجهونها، ونوع الدعم الذي سيشكّل فرقاً في حياتهم، ووجدنا أن الأشخاص حظوا بتحولاتٍ إيجابيةٍ عظيمةٍ في حياتهم عندما حصلوا على الدعم؛ مثل جلساتِ العلاج المستمرة أو ممارسات التأمل المنتظمة، ووجد الأفراد الذين تبنوا ممارسة التأمل، أنهم كانوا أكثر قدرةً على الاستماعِ إلى الآخرين بشكلٍ بَنّاء؛ مما ساعدهم على بناء علاقاتٍ صحيةٍ في المنزل والعمل.

بدأنا في النظر إلى المشكلة على مستوى العالم مُستَوحين من هذه المقابلات الأوّليةِ؛ عن طريقِ استكشاف الدعم المناسب لتحقيق الرفاه الداخلي لصانعي التغيير الفرديين، والبحث في العلاقة بين الرفاه الداخلي والتغيير الاجتماعي، وأثناء قيامنا بذلك؛ قمنا بدعوة المنظمات العالمية للبحث في مسألة الرفاه للمساعدة في طرح الموضوع على الملأ، وإيجاد طرقٍ لتحسينِ الدعم لتحقيق رفاهِ أعضاء فريقهم ومؤسساتهم.

بينما ركَّزتِ الدراسات السابقة على بلدانٍ أو قطاعاتٍ فرعيةٍ أو أنواعٍ معينةٍ من الأدوارِ الوظيفية؛ أردنا أن نفهم ما إذا كانت المشكلة تبدو متشابهةً عالمياً، وتحقيقاً لهذه الغاية؛ أجرينا في عام 2017 دراسةَ «دلفي»؛ التي كانت شاملةً ومتعددةَ المراحلِ ومعتمدةً على الإنترنت، واستمرت على مدار ستةِ أشهر، شارك في الاستبيان أكثر من 250 شخصاً من صناع التغيير الذين تم ترشيحهم من مجتمعات مؤسسة فورد و «إمباكت هاب» في 55 دولة. أعرب غالبيةُ المستجيبين عن حاجةٍ مشتركةٍ لدعمِ الرفاه الداخلي، وتصوَّروا الرفاه الداخلي كمكونٍ أساسيٍّ لعملِ التغيير الاجتماعي الصحي والمستدام، كما أفاد جزءٌ كبيرٌ منهم عن شعورهم بالتوترِ والقلق والإجهاد والإرهاق والعزلة، وبينما شعر 75% من المستجيبين أن الاهتمام برفاههم “مهمٌّ جداً” لمعالجة هذه القضايا؛ ذكر 25% فقط أنهم يهتمون برفاههم “إلى حدٍّ كبير”. شَمَلتِ الأسبابُ الرئيسيةُ لعدمِ الاهتمامِ بالرفاه نقصَ المواردِ، ومجموعةً من المشاكلِ المتعلقةِ بالصحة؛ بما في ذلك التطبيبُ الذاتيُّ، وشعورُ الأفرادِ بأن عملهم لم يُنْجَز أبداً، أو أن الرعاية الذاتية كانت أمراً يُمكِنُ التساهل فيه.

وجدنا أنه من الصعب عموماً على المستجيبين فصل أنفسهم وحياتهم الشخصية عن عملهم، نظراً لكونهم مرتبطين ارتباطاً وثيقاً بأدوارهم، ولشعورهم بأن الإفراط في العمل لا يزال يُعتبر أمراً مشرفاً في هذا القطاع، كما اتّضحَ لدينا أن كلاً من المنظمات والقطاع بشكلٍ عام، يلعبون دوراً مهماً في تمكين ثقافةٍ إما أن تكونَ داعمةً أو متجاهلةً لرفاههم الداخلي.

اقرأ أيضاً: اقتصاد الرفاه: ما هو؟ وما هي الدول التي تطبقه؟

رعاية الرفاه الداخلي

أظهرت لنا المجموعة الأولية من المقابلات أن “العمل الداخلي” أحدث فرقاً كبيراً في حياة صانعي التغيير -يُشار له أيضاً بالعمل الشخصي أو الرعاية الذاتية أو البحث عن الذات، ويمكن أن يشمل العملُ الداخلي ممارساتٍ شخصيةً؛ مثل التأمل، أو كتابة اليوميات، والممارسات الروحية، والعلاج، والاستكشاف في اجتماعاتٍ وفعالياتٍ جماعيةٍ مستمرةٍ؛ إنه يشملُ زيادةَ الوعي بالذات، والشفاءَ من الصدمات الماضية، والانتقال نحو أنماطٍ معيشيةٍ أكثرَ صحةً.

لدراسة تطور الرفاه الداخلي من خلال العمل الداخلي، بالإضافة إلى آثاره؛ أطلقنا برنامج التطوير الداخلي (IDP) الذي استمرّ لمدةِ 18 شهراً، بدأت المرحلة الأولى عام 2015، وضمت ثلاثَ مجموعاتٍ من 20 شخصاً من قادة التغيير الاجتماعي من 45 دولةٍ مختلفةٍ، بينما أظهرت دراسة دلفي أن جميع صانعي التغيير يتشاركون تحدياتٍ متشابهةً، اخترنا العمل مع أولئك الذين يتولون أدواراً قياديةً في دراستنا البحثية؛ مما جعل تَتَبُّعَ التحولاتِ عبر المستويات الفردية والتنظيمية والقطاعية والمجتمعية أمراً أسهل. تقدمَ المشاركون من أربعِ شبكاتٍ مختلفةٍ -«أشوكا»، مؤسسة «شواب»، مؤسسة «سكول»، «ساينيرجوس»- وكان من بينهم رياديّونَ ونشطاء اجتماعيون، وقادةٌ غير ربحيّين؛ على غرارِ المشاركين في دلفي، وأشار المشاركون في IDP إلى أن العمل من أجل التغيير الاجتماعي قد أثّرَ بشكلٍ كبيرٍ على صحتهم الجسدية والعاطفية والروحية و/أو العقلية، بالإضافة إلى علاقاتهم مع أنفسهم وعائلاتهم وأصدقائهم و/أو زملائهم.

قدم البرنامج دعماً شاملاً لكلِّ مشاركٍ؛ بما في ذلك الفعاليات التي تضم مجموعةً متنوعةً من أساليب العمل الداخلي، والعملَ المخصصَ مع ممارسي الرفاه ذوي الخبرة، والتفاعلَ مع المشاركين الآخرين، ووحدات تعلّمٍ بفتراتٍ تتراوح من أربعةِ إلى ثمانيةِ أسابيع؛ والتي تدور حول مواضيعَ مثل اليقظة الذهنية والعلاقات، كما تَضمَّنَ البرنامجُ متابعةً وتوجيهاتٍ من عميد البرنامج. مع تَكَشُّفِ تجاربهم؛ أجرى فريقٌ من سبعةِ باحثين بحثاً نوعياً طويلَ الأمد – تضمَّنَ استبياناتٍ وملاحظاتٍ ومقابلاتٍ مع زملاء الأشخاص المشاركين – على مدى ثلاثِ سنواتٍ، لمعرفةِ ما حدث عندما سعى صانعو التغيير بنشاطٍ إلى تحقيق الرفاه، وكيف أثَّرَت هذه الجهودُ على حياتهم ومشاركتهم ومشاركة منظماتهم في التغيير الاجتماعي.

في البداية؛ عبّرَ المشاركون في IDP عن شعورهم بالذنب بسبب اعتنائهم بأنفسهم؛ لكنهم أصبحوا يرون أن العمل الداخلي ضروريٌّ لصحتهم وعملهم وصحةِ وعملِ الآخرين على المدى الطويل؛ لقد تعلَّموا فهمَ وقبولَ جوانبَ من أنفسهم، وعلاقاتهم الشخصية أو المهنية، وعملهم وحياتهم التي تجاهلوها أو أنكروها. وَصَّفَ المشاركون اختبارَهم لزيادةٍ في الوعي والحضور والتخلُّصِ من الحكم القاسي على الذات؛ مما أدى إلى اختلاف طرقهم في الوجود والمشاركة في كلٍّ من البيئتين الشخصية والعملية، وشَمَلَ ذلكَ زيادةَ الوعي بالفرقِ بين ذاتِهم الحقيقيةِ وهويتهم في العالم، والتخلصَ من التصَوُّرِ المُتَوقَّعِ للقوة، وأن يُصبحوا أكثرَ انفتاحاً وعاطفيةً مع الآخرين، والتعرُّفَ على النقدِ الذاتيِّ المجحفِ، والتعاملَ بلطفٍ مع أنفُسهم والآخرين، وزيادةَ الوضوحِ والشفافيةِ حول ما يُريدونَه ويحتاجونَه مقابلَ ما يَظُنُّونَ أنَّ الزملاءَ والأقرانَ والممولين يَتوَقَّعونَ منهُم إنجازَهُ.

التغيير الاجتماعي من الداخل إلى الخارج

كما وصفنا في قلب بحثنا -وهو أول استكشافٍ واسعِ النطاقِ لهذا الموضوع؛ والذي نأملُ أن يُشجِّعَ المزيدَ من البحث- كان السؤالُ عن كيفيةِ تأثير الرفاه الداخلي لصانعي التغيير على كيفية حدوث التغيير الاجتماعي، وكانت نتائجنا مثيرةً: مع الأخذ في الاعتبار أن عملية الرفاه الداخلي عمليةٌ مستمرةٌ ومعقدةٌ وقيدُ التَطَوُّرِ؛ أظهرَ المشاركون عموماً أن التحولات الفرديةَ نحو الرفاه، أثَّرت بشكلٍ إيجابيٍّ على رفاهِ مُنظَّماتِهم وانخراطِهم في المجال. لقد بدأنا أيضاً في ملاحظةِ التحولات على المستوى المجتمعي، بعبارةٍ أخرى؛ يُظهر بحثُنا وجودَ علاقةٍ واضحةٍ بين الرفاه الداخلي لصانعي التغيير، والطريقةِ التي يَحدُثُ بها التغييرُ الاجتماعي.

فيما يلي نلقي نظرةً فاحصةً على تأثير الرفاه على أربع مستوياتٍ مختلفةٍ؛ بدءاً من الفرد ووصولاً إلى المجتمع، وبعض الطرقِ التي يتواصلون بها.

1) النتائج على مستوى الفرد: الذات، الهوية، الدور

اختبرَ المشاركون تحولاتٍ مذهلةً في الطريقة التي ينظرون بها للأمور كنتيجةٍ لعملهم الداخلي؛ وقد تضمنت:

  • اكتشاف هويةٍ أكثرَ اكتمالاً: قام العمل في الغالب باستهلاك حياة المشاركين، فحتى عندما كانوا حاضرين جسدياً مع العائلة والأصدقاء، كانوا غالباً ما ينشغلون بأشياءَ أخرى مثل قوائمِ المهام والأفكارِ المتعلقةَ بالعمل؛ وبالتالي لم يكونوا متوفرين عقلياً وعاطفياً. من خلال التركيز على الرفاه، والانخراط في المشاكل الأساسية التي شَكّلت هذه الديناميكية، كانوا قادرين على “التوقف عن العمل”، والشعورِ أن العمل لا يُحَدِّدُ من يكونون، واستعادةَ هويةٍ أكثرَ اكتمالاً بطريقةٍ أثْرَتْ عملَهم وحياتَهم.
  • التحرُّرُ من الخوف من الفشل: جميعنا يسمع من حينٍ لآخرٍ صوتَ نقدٍ ذاتيٍّ داخليٍّ؛ عبَّرَ المشاركون أن معاينةَ هذا النقدِ الذاتي، عبر تدوين المذكرات أو غيرها من الوسائل، والنظرَ إلى منبعه، قد ساعدهم على إعادةِ صياغةِ خوفهم من الفشل. إن فهمَ المعايير المجحفة التي فرضوها على أنفسهم، قلّل من حاجتهم إلى تبني هويةٍ بطوليةٍ بشكلٍ دائم، ولم تقضِ هذه العملية على الانزعاج أو الألم الناتج عن الفشل؛ لكنها خَفَّفَتهُ. شعر المشاركون بالارتياح عندما كفّوا عن تَصوُّرِ الفشل كشيءٍ كان عليهم معاقبةُ أنفُسِهم من أجلهِ، وأعرَبوا عن تمتُّعِهم بالمزيد من الشجاعة والعزم على الرغم من احتمال الفشل.
  • التمتع بالمزيد من المرونة والحفاظ على الاتّزان: يقوم العمل الداخلي بتعزيز الوعي والذكاء العاطفي، نتيجةً لذلك؛ وجد المشاركون أنفسهم قادرين على الاستجابة للمواقف الصعبة من منظورٍ أكثر اتزاناً وإيجابية.

تضمنت الفوائد الأخرى على الصعيد الفردي، القدرة على الاستماع إلى الزملاء والأقران، والتواصل معهم بشكلٍ أعمق وأكثر فعاليةً، والشعور بمزيدٍ من البهجة، والاعترافَ بقدرات الآخرين، وتشجيعهم على حل المشاكل بدلاً من افتراض أنهم وحدهم من يستطيع القيام بمهمة معينة.

2) النتائج على المستوى التنظيمي: الثقة، التكامل، الاتصال

مع استمرار البرنامج؛ بدأ المشاركون في تغيير كيفية تفاعلهم مع الزملاء والأقران؛ كانوا يرغبون في أن يكونوا حاضرين بالكامل، ينصتون بفعالية، ويشاركون في الابتكار. كشف بحثنا أن دعم العمل الداخلي لصانعي التغيير، غرسَ قيماً وقدراتٍ تنظيميةً مهمةً إلى جانب الأخرى التقليدية؛ مثل توليد الأفكار، وجمع التبرعات، والقياس، كما عززت القدرات مثل التعاطفِ والرحمةِ والامتنانِ، المزيدَ من الترابطِ والعلاقات الوطيدةِ بطرقٍ قَيِّمةٍ.

  • التحوّل نحوَ توَجُّهٍ ينادي بالثقة والتعاطف ويضع الإنسان أولاً: حوّلَ المشاركون منظورهم القيادي نحو بناء الثقة في الزملاء، والاعتراف بالقيمة التي يضيفها كل شخصٍ للعمل، وتمكينِ الأشخاصِ للقيام بالمهام من منطلقِ حِكمَتِهم وخبرتِهم الخاصة؛ أصبحَ عملُهم أكثرَ اعتماداً على التعاون والدعم بدلاً من التحكم والتحقق. أصبحَ المشاركون أكثر راحةً في التعبير بشفافيةٍ عندما لا يمتلكون إجابةً، أو يحتاجون إلى شيءٍ ما، أو عندما لا يشعرون بالقوة؛ كان لهذا الأمر آثارٌ مضاعفةٌ في جميع أنحاء الفريق، وشَجَّعَ الآخرينَ على فعل الشيء نفسه، كما خلق روابطَ أعمقَ في كلِّ مكان؛ حتى في اللحظات الصعبة، تَحوَّلَ المشاركون من عقليّةِ “أنا فقط أستطيع إصلاح المشكلة” إلى عقليةٍ تَعتَبِرُ بناءَ العلاقاتِ الخطوةَ الأولى نحو حلِّ مشكلةٍ ما.
  • دمج الرفاه في جميع أنحاء المنظمة: وصف المشاركون دمج الرفاه في منظماتهم عبر إظهار الاهتمام وبناء اتصالات شخصية تتجاوز التفاعل المجرد على مستوى العمل، وبدؤوا في مَنحِ التواصلِ البشريِّ الأولويةَ حتى في البيئاتِ ذات الإيقاع السريع؛ من خلال أفعالٍ بسيطةٍ مثل السؤال “كيف حالك”؛ وهذا مَكَّنَ الموظفين من أن يكونوا أكثر انفتاحاً وصراحةً حول حاجاتهم، لأنهم شعروا أنهم ذوو قيمةٍ تتجاوزُ قُدُراتهم العملية. نتيجةً لذلك؛ بدلاً من شعور الفِرَق بالضغط للإفراط في العمل واستنزاف الطاقة إلى الصفر؛ كان هناك نهجٌ أكثرُ إيجابيةً ودعماً وفعاليةً في العمل؛ مما دعم الأفراد والمهمة على حدّ سواء.

اتخذت عملية دمج الرفاه في مؤسساتهم أشكالاً عديدةً؛ منها:

  • السعي للتوفيق بين كيفية عمل المنظمة داخلياً والعمل الذي تقوم به في العالم.
  • تقييم تأثير العمل الجديد على رفاه المنظمة والطاقم.
  • نشر الوعي وممارسات تحقيق الرفاه الأخرى ودمجها في الاجتماعات وورش العمل والعروض التقديمية.
  • تأكيد التركيز على القياس أو توجيه النوايا حول القياس.
  • البحث الفعال عن فرص تحقيق رفاه الموظفين والزملاء والأقران.

وتضمنت الطرق الأخرى التي اتّبَعها المشاركون لتطبيعِ الرفاه في منظمتهم، أو إعطائهِ الأولويةَ، معالجةَ أهميةِ خلقِ ثقافةِ الرفاه على مستوى مجلس الإدارة، وإيجادَ الفرص لمشاركة الوعي وممارساتِ تحقيقِ الرفاه، وإنشاءَ مشاريعٍ أو منظماتٍ جديدةٍ تتبنى قيم الرفاه وممارساته، ومساواةَ الفعاليةِ مع الحفاظِ على مفهوم الرفاه، بغضِّ النظر عن متطلَّبات العمل.

3) النتائج على مستوى القطاع: الانفتاح، التعاون، الابتكار

إعادةُ صياغةِ ما يعنيهِ أن تكونَ قائداً وَجَّهَ وأغنى مشاركة المشاركين الشخصية وعملَ منظماتِهم، كما أنه وضَّحَ كيفيةَ مشاركتِهم ومنظماتُهم ضمن قطاع التغيير الاجتماعي ومع القطاعات الأخرى. ظهرَ تحوُّلان شائعان؛ هما:

  • غرسُ الانفتاح: على عكسِ التفكيرِ الجامد الساكن حول تفعيل التغيير من خلال مسار عملٍ معيَّن؛ خرج المشاركون من التجربة أكثرَ انفتاحاً على تقديرِ أو حتّى تَبَنّي الأساليبِ التي قد يتّخِذُها الآخرون، وعبَّروا أيضاً عن قدرتهم على إدراكِ أنّ تعلّمَ واستكشافَ الأفكارِ الجديدةِ لأنفُسهم ليس وحدَهُ مُهِمَّاً؛ ولكن أيضاً من الضروري مشاركةُ هذه الدروس مع أفرادٍ آخرين -على المستوى التنظيمي، أو ضمن قطاع التغيير الاجتماعي وخارجه. وجدَ المشاركون أنفُسهم يزرعونَ مُتعةَ التعلم، ويثِقون في عمليةِ التعلمِ المشترك، والعمل المشترك، والمشاركة.
  • العمل بشكل تعاوني أكثر: ينتفعُ الدافعُ نحو التعاون من الوعيِ والقصد؛ عبَّرَ المشاركون أن العمل الداخلي ساعدَهم على التعرّف على اعتدادِهم بأنفسهم، ومن خلال هذا الوعي؛ تمكنوا من تطويرِ قدرةٍ أكبر على التعاون والتعاضد، لقد اكتسبوا فهماً وتقديراً أفضل لآراءِ وأفكارِ الآخرين، وبدؤوا بالنظر إلى الشركاء على أنهم أشخاصٌ ذوو رؤىً معقدةٍ وقيّمةٍ تجبُ مراعاتها. على الرغم من الشعور بإحساسٍ كبيرٍ بالمُلكيةِ ومَركَزيةِ مهمّةِ عملهم؛ اكتشفَ هؤلاءِ المشاركون كيف يمكنُ للتعاون أن يَدعمَ جهودَهم ويضخِّمَها، وأن يوصِلَ عملَهم إلى ما هو أكثرُ ممّا يمكنهم الوصول إليه بمفردِهم؛ كلُّ ذلكَ مع السماحِ لهم بالحفاظِ على هويةٍ “أكثر اكتمالاً”، والسعي لحياةٍ مليئةٍ مستقلَّةٍ عن عملهم.

خلقت هذه الأفكار فرصةً للقادةِ لِتَصوُّرِ العمل بشكلٍ مختلفٍ في مجال التغيير الاجتماعي، فالتعاون بالنسبة للعديد -مثل الرفاهية- هو شيءٌ قاموا بالتطلُّعِ إليه في الماضي؛ لكنّهم أهملوا تقديرَهُ أو التعاملَ معه بطريقةٍ هادفةٍ. بالنسبة للبعض؛ كان التعاونُ داخلَ المنظمات هو الاكتشافَ الشخصي الجديد، أما بالنسبة للآخرين، فقد كان يدورُ حول التعاون بين الأقران أو عبر المنظمات، أو مع المانحين، وبالنسبة للكثيرين؛ كان الاكتشاف الجديد مزيجاً بين عدةِ أنواعٍ من التعاونات.

4) النتائج على المستوى المجتمعي: المقياس العميق، الجسور الجديدة، التأثير الجمعي

 على مدى السنوات الثلاث المقبلة؛ يهدفُ مشروعُ الرفاه إلى الحصول على صورةٍ أكثرَ وضوحاً لتأثير الرفاه على المجتمع، وحتى الآن؛ رأينا المشاركين يتفاعلون بشكلٍ أعمق مع المجتمعات وأعضاء المجتمع، ويعملون بشكلٍ تعاونيٍّ أكثر عبر الخلايا، ويرمّمونَ أو يبنون الجسورَ التي تؤدي إلى نتائجَ أكثر فعاليةً وشموليةً؛ نأملُ أن نتمكَّنَ من بناءِ هذه الصورةِ من خلال التعمُّقِ في هذه الدراسة وتوسيعِ نطاق البحث.

اقرأ أيضاً: العدالة والشمول: تعزيز مفاهيم الرفاه التنظيمي

بناء ثقافة نشر الرفاه بشكلٍ تعاونيٍّ

أثناء بدايات بحثنا؛ تواصلَ معنا قادةٌ من 85 منظمةٍ عالميةٍ وإقليميةٍ معروفةٍ للتعبير عن اهتمامهم بفهم الرفاه والتعامل معه بشكلٍ أفضل، ورداً على ذلك؛ أنشأنا في عام 2016 مُجتَمَعيْن تعليمِيَّين لاستكشاف الطرق التي يمكن لهذه المؤسسات من خلالها وضعُ دعائمِ الرفاهِ الداخلي، واجتمعت هذه المجتمعات عدّةَ مراتٍ شخصياً، وعدةَ مراتٍ بشكل افتراضي، واتخذت خطواتٍ مهمةً لدعم كلٍّ من موظَّفيها ودوائرِ تأثيرهم الأوسع، على سبيل المثال:

  • بدأت المؤسسات الرئيسية؛ مثل مؤسسة «سكول»، وبرنامج «بيلد» التابع لمؤسسة فورد، وأعضاءٌ من جمعية «بيغ بانغ» الخيرية التعاونية، في دعمِ رفاه موظفيها ومتلقّي المنح، فعلى سبيل المثال؛ أنشأت مؤسسة «بيري» بروتوكولاتٍ لرعايةِ الصحة العقلية لموظفيها، بالإضافة إلى تأسيسِ مجموعةِ مِنَحٍ لمُتَلقّي المِنَح الحاليين للاستثمارِ في رفاه موَظَّفيهم خصّيصاً.
  • بدأت المنظماتُ الوسيطة العالمية والإقليمية الرئيسية؛ مثل «أشوكا» و «ايكوينغ غرين» ومؤسسة «شواب»، في دمج ممارسات الرفاه الداخلي داخل سير العمل. على سبيل المثال؛ كَرَّسَت مؤسسةُ «شواب» اليومَ الأولَ من اجتماعاتِها الخاصّةِ بزملائها في ريادة الأعمال الاجتماعية التي تستمرُّ لمدةِ يومين، لاستكشاف الرفاه الداخلي، وصنَّفَت «أشوكا» الرفاهَ كإحدى أولويّاتِها العشرِ الأساسية، وإحدى مبادراتها هي توفيرُ برامج الرفاهِ في بلدانٍ مثل الهند والمكسيك وكندا.
  • من بين الشبكات الإقليمية والمحلية الأخرى؛ قامت «امباكت هاب» في فيينا، بدمج الرفاه في برنامج التطوير الرئيسي الخاص بها؛ يُوفِّرُ البرنامجُ للمنظمات التي يحتضنها مزايا مثل الوصول إلى مدربي الرفاه الشخصي أو المنظمي، وإقامةِ ورشِ عملِ التوعية حول أهمية الرفاه، ومعايير تتبع الجهود المؤسساتية لخلق ثقافة الرفاه.

وفَّرَت المنظمات في هذه المجتمعات المُتَعلِّمةِ برامجَ الرفاه لعشرات الآلاف من صانعي التغيير والمؤسسات حول العالم، كما تعزِّزُ التعليقاتُ والأصداءُ التي يتلقُّونها قيمةَ هذه البرامج، فمثلاً؛ سمعت مؤسسة «شواب» من زملائها أن جلسات تعزيز الرفاه التي أقامتها، كانت الأكثر عمقاً، وذات المغزى الأكبر بين أية جلسات أخرى على مدار 20 عاماً من وجود ا%