ما حدث في رواندا يبعث رسالة عميقة حول القدرة على التحمل والتحول، فبعد خروجها من أتون إبادة جماعية مدمرة أودت بحياة أكثر من مليون نسمة، شقت رواندا طريقاً للتعافي مفعماً بالأمل والقدرة على التحمل وتحقيق الإنجازات. في سياق هذه الحقبة التاريخية، تأخذ خطوات رواندا في مجال الرعاية الصحية للأم والطفل منحى مهماً تُظهر فيه قوة التجديد. إذ حققت في الأعوام العشرة الماضية تقدماً ملحوظاً في خفض معدلات وفيات الأمهات عند الوضع بنسبة 42%، حيث خفضتها من 487 إلى 203 حالات لكل 100,000 ولادة طفل حي. كما وصلت نسبة النساء اللاتي يلدن أطفالهن في مرافق الرعاية الصحية إلى 93%. كان تعليم القابلات وتدريبهن أحد العوامل الرئيسية لتحقيق هذا الإنجاز.
يفرض اقترابنا من الموعد النهائي لتحقيق أهداف التنمية المستدامة (SDGs) في عام 2030 ضرورة تقييم التقدم العالمي في مجال الرعاية الصحية للأم والطفل، وذلك لاكتساب الرؤى حول تحسين النتائج الصحية في المجتمعات المحلية. تبرز رواندا مثالاً للنجاح في هذا الصدد، إذ حققت تقدماً ملحوظاً في خفض معدلات وفيات الأمهات والأطفال. وفي المقابل، ما تزال الولايات المتحدة تعاني صعوبات في تحسين النتائج في هذا المجال. يتعمق هذا المقال في إنجازات رواندا ويستكشف المبادئ والممارسات التي تسهم في تقدم رواندا.
النجاح في مجال الرعاية الصحية للأم والطفل على الرغم من ظروف الجائحة
أظهرت رواندا تقدماً ملحوظاً في إنقاذ حياة الأمهات والأطفال. بالإضافة إلى نجاحها في خفض معدلات وفيات الأمهات، نجحت رواندا في خفض معدلات وفيات الأطفال دون سن الخامسة بنسبة 50%، إذ انخفضت من 152 حالة وفاة لكل 1,000 مولود إلى 76 حالة وفقاً لتقرير رواندا الطبي الحيوي للفترة من يوليو/تموز 2013 إلى يونيو/حزيران 2018. تجسد هذه الإنجازات النهج الاستراتيجي الذي تتبعه رواندا في التعامل مع الرعاية الصحية للأم والطفل.
تراجعت إنجازات الرعاية الصحية للأم والطفل خلال جائحة كوفيد-19 في العديد من البلدان لأسباب عدة، منها وفاة العاملين في مجال الرعاية الصحية، وتحويل المختصين إلى العمل على الاستجابة للجائحة، وخوف السكان من زيارة المرافق الصحية والإصابة بفيروس كوفيد-19 هناك.
كان الأمر مختلفاً في رواندا، فقد استطاعت السيطرة على انتشار الفيروس بفعالية بفضل تدابير الاستجابة الاستباقية المتنوعة للجائحة والنُهج المبتكرة للمساعدة على الحفاظ على سلامة مقدمي الرعاية الصحية في أثناء رعايتهم للمرضى. وشمل ذلك مراقبة مرضى كوفيد-19 من خلال الروبوتات واستخدام الطائرات المسيرة لتوصيل الإمدادات، ما أدى إلى انخفاض معدلات الإصابة والوفيات. بلغ عدد الوفيات 1.1% فقط من إجمالي الحالات المؤكدة التي بلغ عددها 133,194 حالة.
للأسف، ليس من السهل الحصول على متوسط معدلات الوفيات الناجمة عن كوفيد-19 على المستوى العالمي. ويمكن أن تُعزى الإنجازات المستدامة في مجال الرعاية الصحية للأم والطفل في رواندا إلى الاستجابة السريعة والاستباقية والفعالة لكوفيد-19 التي ضمنت حصول المرضى على خدمات الرعاية الصحية اللازمة وسط الجائحة.
الدروس المستفادة من رواندا
الثقة بالأطباء المحليين
يمكن أن يُعزى نجاح رواندا في تحسين نتائج الرعاية الصحية للأم والطفل إلى ثقة السكان بالأطباء المحليين. عززت رواندا العلاقات القوية بين مقدمي الرعاية الصحية والمجتمعات من خلال إعطاء الأولوية للمشاركة المجتمعية والاستفادة من هياكل الرعاية الصحية القائمة. تمكّن هذه الثقة النساء، ولا سيما اللاتي يعانين ظروفاً صعبة، من طلب الرعاية الصحية المناسبة والحصول عليها دون خوف أو تردد.
في المقابل، تواجه الولايات المتحدة تحديات في بناء الثقة، ما يؤدي إلى تفاوت نسب توفير الرعاية الطبية ونتائجها في المجتمعات المهمشة، وبخاصة مجتمعات الأميركيين ذوي البشرة السمراء. أدى التاريخ الطويل من التمييز العرقي وسوء معاملة المختصين الطبيين في الولايات المتحدة إلى انعدام الثقة بين العديد من الأميركيين ذوي البشرة السمراء ونظام الرعاية الصحية، ما دفعهم إلى الخوف من تلقي لقاح كوفيد-19 في أثناء الجائحة.
لتعزيز الثقة، أطلقت رواندا في عام 2007 إصلاحاً لنظامها الصحي المجتمعي الوطني الذي أنشأته عام 1995، والذي يُلزم عمال الصحة المجتمعية باجتياز ما لا يقل عن 6 سنوات من التعليم وأن تختارهم المجتمعات عبر انتخابات. يقدم ثلاثة من مقدمي الرعاية الصحة المجتمعية الخدمة في كل قرية، منهم اثنان مسؤولان عن صحة المجتمع والتغذية والوقاية من فيروس نقص المناعة البشرية/الإيدز، ومقدم رعاية واحد مسؤول عن صحة الأمهات يشرف على رعاية الرُضّع والأمهات قبل الولادة وبعدها.
ولدى كل قرية مقدم رعاية صحية مجتمعية مختص بالشؤون الاجتماعية يركز على تعزيز رفاهة الأفراد والمجتمع.
تجري عملية اختيار مقدمي الرعاية الصحية المجتمعية عموماً عن طريق مجتمعاتهم بناءً على عدة معايير، ومنها القبول الاجتماعي الذي يشكل عاملاً حاسماً في بناء الثقة، فهم جزء من المجتمعات التي يخدمونها.
النهج التشاركي لتحديد التحديات
يعتمد النهج الذي تتبعه رواندا في تحديد تحديات الرعاية الصحية للأم والطفل على المشاركة إلى حد كبير، ما يضمن وصول أصوات النساء والمجتمعات. ومن خلال الحوارات والمشاركة المجتمعية، تستطيع المرأة التعبير عن احتياجاتها واهتماماتها وتوقعاتها.
تتيح هذه العملية الشاملة تصميم الإجراءات التدخلية للرعاية الصحية بما يتناسب مع المتطلبات الخاصة بكل مجتمع، ما يؤدي في النهاية إلى تحسين نتائج الرعاية الصحية. على سبيل المثال، في ظل النهج التشاركي الذي تتبناه رواندا، يؤدي مقدمو الرعاية الصحية المجتمعية دوراً محورياً في تحديد التحديات الصحية ومعالجتها. إذ يختار المجتمع المحلي هؤلاء العاملين، ما يعزز الثقة ويمكّنهم من تقديم رعاية تراعي ثقافته.
التواضع في وضع الحلول
يمكن أن يُعزى نجاح رواندا في مجال الرعاية الصحية للأم والطفل أيضاً إلى نهجها في وضع الحلول. إذ تتبنّى رواندا نهجاً خاصاً بسياقها ولا تلجأ إلى فرض نماذج خارجية. وتصوغ حلولاً محلية لمعالجة قضاياها بفعالية من خلال فهم التحديات الفريدة التي تواجهها النساء في مجتمعاتهن.
يؤكد هذا النهج أهمية الكفاءة الثقافية وتصميم الإجراءات التدخلية بما يتناسب مع الاحتياجات الخاصة بكل مجتمع. في المقابل، تعتمد الولايات المتحدة في كثير من الأحيان على مناهج موحدة لا تأخذ في الحسبان الفروق الدقيقة بين المجتمعات المتنوعة بدرجة كافية.
مقارنة الوضع في رواندا بالوضع في الولايات المتحدة
عند مقارنة نتائج الرعاية الصحية للأمهات، فإن وضع النساء الروانديات اللاتي يعانين ظروفاً صعبة أفضل حالاً من وضع نظيراتهن في الولايات المتحدة. فما تزال الولايات المتحدة تواجه عدة تحديات في الحد من الوفيات عند الولادة بين الفئات الضعيفة، وبخاصة السكان المهمشون.
وفقاً لمنظمة الصحة العالمية، انخفض معدل وفيات الأمهات في رواندا من 1,007 حالات وفاة لكل 100,000 ولادة طفل حي في عام 2000 إلى 259 حالة وفاة لكل 100,000 ولادة طفل في عام 2020، ما يمثل انخفاضاً بنسبة 74%. وفي الولايات المتحدة، ارتفعت نسبة وفيات الأمهات من 12 حالة وفاة لكل 100,000 ولادة طفل حي في عام 2000 إلى 21 حالة وفاة لكل 100,000 ولادة طفل حي في عام 2020، أي بزيادة قدرها 175%.
على الرغم من انخفاض عدد حالات الوفاة في الولايات المتحدة وارتفاعه في رواندا، تشهد رواندا تحسينات كبيرة عبر الجهود والمبادرات المبذولة في حين تواجه الولايات المتحدة صعوبة في تقليل نسبة الوفيات. يمكن أن يعزى التفاوت في نتائج الرعاية الصحية للأمهات بين رواندا والولايات المتحدة إلى عوامل مختلفة؛ أولاً، تطبيق رواندا نظاماً شاملاً للرعاية الصحية مع التركيز بشدة على الرعاية الصحية الأساسية والإجراءات التدخلية المجتمعية.
ويضمن هذا النهج حصول المرأة على الرعاية الأساسية قبل الولادة وبعدها. وعلى الرغم من توافر خدمات الرعاية الصحية في الولايات المتحدة، تؤدي الطبيعة المفككة لنظام الرعاية الصحية بالإضافة إلى التباين الاجتماعي وكذلك الاقتصادي إلى عدم المساواة في توفير الرعاية وتفاوت جودتها.
أضف إلى ذلك أن المرأة الرواندية تستفيد من شبكة قوية من العاملين في مجال الصحة المجتمعية الذين يؤدون دوراً محورياً في تحسين نتائج الرعاية الصحية للأم والطفل ودعم المرأة في أثناء الحمل والولادة. فهم يشكلون سلسلة متواصلة من الرعاية الصحية، تعزز الثقة وتسد الفجوة بين مقدمي الرعاية الصحية والمجتمعات المحلية. أما في الولايات المتحدة، وعلى الرغم من وجود عدة برامج لمقدمي الرعاية الصحية المجتمعية، فنطاق تغطيتها الصحية محدود، ما يؤدي إلى نقص في مشاركة المجتمع ودعمه لها. بالإضافة إلى ذلك، استثمرت رواندا في البنية التحتية للرعاية الصحية للأم بدرجة كبيرة، ما يضمن إمكانية توفير خدمات الرعاية الصحية الجيدة في جميع أنحاء البلاد.
توفر المراكز الصحية ودور انتظار الولادة الرعاية السابقة للولادة وتسهل عمليات الولادة الآمنة، وبخاصة في المناطق النائية والريفية. تقدم هذه المراكز الصحية خدمات رعاية شاملة للأمهات الحوامل على وشك الولادة، ما يضمن حصولهن على الرعاية الطبية اللازمة وتوفير أماكن إقامة آمنة لهن في الأيام التي تسبق موعد الولادة. هذه المرافق ليست مجهزة لتقديم الرعاية الطبية فحسب، بل لتقديم الدعم العاطفي والنفسي للأمهات أيضاً.
في المقابل، تواجه الولايات المتحدة عدة صعوبات في توفير الوصول العادل إلى مرافق الرعاية الصحية، وبخاصة في المناطق النائية والمحرومة. يؤدي هذا النقص في توفير الرعاية الصحية للأم إلى تفاقم التفاوت في نتائجها. كما نستطيع أن نعزي نجاح رواندا إلى نهجها الاستباقي في تقديم الرعاية الصحية الذي يركز بشدة على التدابير الوقائية، والكشف المبكر، والإدارة السريعة للمضاعفات. إذ نفذت رواندا برامج لتحسين خدمات تنظيم الأسرة، وتشجيع زيارات رعاية ما قبل الولادة وبعدها، وتوفير القابلات الماهرات.
أسهمت هذه المبادرات في تحقيق انخفاض كبير في معدلات وفيات الأمهات والأطفال. وعلى الرغم من وجود برامج مماثلة في الولايات المتحدة، يحد التفاوت في تغطية الرعاية الصحية، والعوامل الاجتماعية والاقتصادية، والتمييز العرقي، وغيرها من العقبات التي يفرضها نظام الرعاية الصحية من تأثير هذه البرامج وفعاليتها.
يشكل التقدم الملحوظ الذي حققته رواندا في مجال الرعاية الصحية للأم والطفل مثالاً يحتذى به للمجتمع الدولي. فمن خلال إعطاء الأولوية للثقة في الأطباء المحليين، وتبنّي نهج تشاركي، وتطوير حلول خاصة بسياق محدد، تمكنت رواندا من تحسين نتائج الرعاية الصحية بدرجة كبيرة، وبخاصة بالنسبة إلى الفئات السكانية الضعيفة.
من الممكن أن يقدم نجاح رواندا أفكاراً ذات قيمة للدول الأخرى، بما فيها الولايات المتحدة، لتحسين الجهود المبذولة في سبيل رعاية الرعاية الصحية للأم والطفل. ولمعالجة التفاوت في نتائج الرعاية الصحية للأم، يجب على الولايات المتحدة إعطاء الأولوية للمشاركة المجتمعية، والاستثمار في الرعاية الصحية الأساسية الشاملة، وتعزيز دور العاملين في مجال الصحة المجتمعية، وضمان الوصول العادل إلى خدمات الرعاية الصحية الجيدة.
ومن خلال تبنّي نهج شامل وحساس للثقافات المتعددة، يمكن للولايات المتحدة أن تحقق تقدماً كبيراً في الحد من معدلات وفيات الأمهات والأطفال وتحسين النتائج الصحية لجميع النساء، وبخاصة اللاتي يعشن ظروفاً صعبة. وكما أوضحنا في هذه السلسلة، من خلال ممارسة التعلم المتبادل بين دول العالم، يمكننا تحقيق الأهداف الصحية المدرجة في أهداف التنمية المستدامة وضمان مستقبل أكثر صحة للنساء والأطفال في جميع أنحاء العالم.
يمكنكم الاطلاع على النسخة الإنجليزية من المقال من خلال الرابط، علماً أنّ المقال المنشور باللغتين محمي بحقوق الملكية الدولية. إنّ نسخ نص المقال من دون إذن مسبق يُعرض صاحبه للملاحقة القانونية دولياً.