بعد أسابيع قليلة من إعلان منظمة الصحة العالمية عن جائحة كوفيد-19، كتب إريك برافرمان (Eric Braverman) من مؤسسة شميدت فيوتشرز (Schmidt Futures) والدكتور هارفي فاينبيرغ (Harvey V. Fineberg) من مؤسسة بيتي مور (Betty Moore) مقالاً في صحيفة سان فرانسيسكو كرونيكل معربان فيه عن أسفهما لعجز العمل الخيري عن توحيد الجهود لمضاعفة تأثيره وتسريع وتيرة عمله. حيث كتبا في هذا المقال: "إن فرق كرة القدم من الصف الرابع التي تستخدم نظام شبكة الاتصال الشجرية تتواصل بفاعلية أكثر منا،
حتى أكبر المؤسسات الخيرية تكتشف ما يجري في سوق العمل الخيري عبر رسائل البريد الإلكتروني العشوائية أو عبر البحث عبر الإنترنت. وبدلاً من العمل على طريقة البازار الذي يحوي العديد من الأكشاك التي تعمل بشكل مستقل نحن بحاجة إلى عمل مبني على تبادل المعرفة والمعلومات".
أتاحت جائحة كوفيد-19 فرصة كبيرة لتغيير تلك الطريقة عبر إنشاء بنية تحتية للتنسيق بين الممولين وتسريع النشر الاستراتيجي للإمكانات لدعم جهود الإغاثة والاستشفاء. فقد التأمت ائتلافات عدة في السابق لتبادل المعرفة أو للاتفاق على استراتيجيات أو لحشد الموارد في سبيل أهداف محددة، لكن لم تؤسس نظاماً مستداماً يضم الممولين إن كانوا مؤسسات أو أفراداً وذلك لتنظيم عملهم على نطاق واسع لخدمة الصالح العام في أثناء الأزمات أو خارجها. ونتيجة لذلك يضطر المانحون إلى إضاعة الوقت في تحديد الفرص وأداء الأعمال المطلوبة من نقطة البداية.
مشروع كوفيد-19 فيلانثروبي كومنز
في أبريل/نيسان عام 2020، تعاملت مؤسسة شميدت فيوتشرز (Schmidt Futures) مع كوفيد-19 كفرصة، حيث نظمت أكثر من 200 شخص أغلبهم من العاملين في المؤسسات الخيرية لمواكبة هذا التحدي. وتم تشكيل ثماني مجموعات لتلبية إحدى الحاجات الناتجة عن الجائحة، بما في ذلك مجموعة عمل مختصة في التكنولوجيا من مؤسسات وسيطة كبرى التي سعت إلى بناء بنية تحتية عبر الإنترنت تمكن المانحين من تبادل المعلومات حول فرص معينة تمت دراستها، والتعلم من أصحاب المصالح الآخرين، والتنسيق لتمويل الاحتياجات الفورية أو حتى الاستثمار المشترك. وإدراكاً لإمكانية تلك الأداة عبر الإنترنت للعمل كمنصة تعاون مستدامة بين الممولين إن كانوا مؤسسات أو أفراد والتي تعد تطوراً رائداً للقطاع، قدمت مؤسسة غوردن وبيتي مور (Gordon and Betty Moore) تمويلاً تجريبياً لتطوير هذا المشروع التجريبي وتنفيذه، المعروف باسم كوفيد-19 فيلانثروبي كومنز (COVID-19 Philanthropy Commons)، الذي تم إطلاقه في سبتمبر/أيلول 2020.
وبدأ العمل ببناء البنية التحتية الرقمية، وبعد إجراء دراسة دقيقة اختارت الإدارة المشتركة لبرنامج كومنز شركة كابشيفت (CapShift) كمطور خلفي لموقع الويب وشريك لبناء موقع كوفيد-19 فيلانثروبي كومنز على وجه السرعة ليكون منصة تعمل مع المؤسسات الخيرية والمالية لتوجيه رأس المال إلى الاستثمارات ذات التأثير. وبحلول شهر سبتمبر/أيلول كان الموقع جاهزاً لإطلاق أولي مع ميزات أساسية، بما في ذلك صفحة تسجيل دخول مخصصة، ولوحة معلومات حيث يمكن للممولين عرض ملفات تعريف المؤسسات المحفوظة فيها، وخيار تصفية يسمح للمستخدمين بفرز فرص التمويل حسب الموضوع أو المنطقة الجغرافية. ويمكن للمستخدمين تصفح فرص التمويل كلها والحصول على معلومات عالية الدقة حول المؤسسة التي تسعى للحصول على التمويل والأنشطة التي تخطط القيام بها، وقسم حول التأثير المنشود. ويمكن للمستخدمين أيضاً معرفة عضو كومنز الذي قدم الفرصة ثم وصله مباشرة بالمؤسسة غير الربحية.
وعلى الرغم من سهولة استخدام المنصة، أدى عدم توافقها مع أنظمة إدارة المنح المتوفرة للمستخدمين إلى خلق عقبة أمام تسهيل عملية التقديم على الفرص. وعلاوة على ذلك، لم تكن هناك قدرة للمستخدمين على التفاعل فيما بينهم، ما حدَّ من فرص بناء منظومة لأعضاء كومنز.
ونظراً لمتطلبات التكلفة والوقت، قرر القادة المشتركون لمجموعات العمل عدم متابعة التحسينات التقنية الرئيسية لتحسين تجربة المستخدم أو الوظائف العامة للمنصة، لكنهم واصلوا محاولات مختلفة لتوفير تجربة تواصل أفضل بهدف زيادة التفاعل مع المنصة وبين مستخدمي كومنز. وشمل ذلك استضافة مكالمات جماعية شهرية حيث تعرض المؤسسة الخيرية استراتيجياتها ورؤاها بخصوص كوفيد-19 مع أعضاء آخرين في المشروع التجريبي، كما تعاقد القادة المشتركون مع مقاول مستقل للعمل كشريك توريد وتحديد فرص تمويل جاهزة ومقنعة لمواجهة كوفيد-19 لمستخدمي كومنز. حيث تولى موظف من ميلكين إنستيتيوتس سينتر فور استراتيجك فيلانثروبي (Milken Institute’s Center for Strategic Philanthropy) وظيفة مدير منظومة كومنز بدوام جزئي لتعزيز الروابط بين الممولين ذوي التفكير المماثل وتحديد فرص الاستثمار الفردية التي تتماشى مع الأولويات الخيرية للمستخدمين الأفراد. حيث أرسل رسائل بريد إلكتروني نصف شهرية ومخصصة لكل مستخدم من مستخدمي كومنز وإشارات على فرص التمويل المضافة حديثاً التي تتوافق مع اهتماماته الخيرية.
لم يغير أي من هذه الجهود سلوك الممولين بشكل جوهري أو أدى إلى تحسين استخدام منصة كومنز.
ما الدروس المستفادة من ذلك؟
من الناحية التقنية كان المشروع ناجحاً. حيث نمت كومنز لتصبح منصة مخصصة لتقاسم الفرص والتمويل المشترك والتي من الناحية النظرية على الأقل يمكن استخدامها لتقليل التعارض وزيادة السرعة والتنسيق داخل بيئة العمل الخيري. كما حققت كومنز نجاحاً حيث وفرت ما يقرب من 200 فرصة تمويل تتعلق بالجائحة وطورت تصنيفاً مخصصاً لمساعدة الأعضاء في العثور على الفرص التي تناسبهم.
وعلى الرغم من ذلك، لم يرقَ مشروع كوفيد-19 فيلانثروبي كومنز في نهاية المطاف إلى مستوى طموحاته في بلورة إسهام الأعضاء بشكل فعال في الجهود لمواجهة كوفيد أو رفع مستوى التنسيق بين الممولين. ونعزو هذا الفشل إلى العقبات الاجتماعية إلى حد كبير. وعلى الرغم من سرعة عملية إطلاق كومنز، فإن المشروع لم يكن قادراً على الاستفادة من الشعور الجماعي بالأهداف والاهتمامات المشتركة، والذي كنا نأمل أن يساعده على أداء دوره بشكل أفضل. حيث يستدعي تقاسم فرص التمويل ارتباطاً حقيقياً بين المؤسسات الخيرية، فضلاً عن التفاعل المباشر والقدرة على شرح أسباب أهمية المشروع وكيف يمكن أن ينجح التمويل المشترك وما إلى ذلك. وبمرور الوقت قد تنجح منصة تجمع شركاء موثوقين في خلق الفعالية المنشودة عبر التفاعل المباشر، لكن جمع مجموعة متباينة من الممولين دون أساس متين وتوفير الفرص في وقت حساس وفي ظروف شديدة التقلب أعاق في النهاية نجاح كومنز. فمن دون وجود ارتباط وثيق بين المستخدمين لا يمكن لمنصة تكنولوجيا وحدها أن تفرض عليهم عملية تنسيق التمويل.
ونظراً للأداء المتواضع لفيلانثروبي كومنز، أُنهي المشروع دون وجود نية مستقبلية لتطويره. وبالرغم من مدة عمله القصيرة، قدم كومنز رؤى مفيدة حول أدوات تنسيق العمل الخيري الناجحة.
1. تعزيز المنظومة شرط أساسي للبنية التحتية للعمل الخيري المشترك
سلطت تجربة كومنز الضوء على الحواجز الثقافية في مجال العمل الخيري والتي تعيق آفاق التنسيق داخل هذا القطاع. واستنتجنا أن الممولين وبخاصة المؤسسات الوسيطة كانوا حريصين على الدفاع عن أفكارهم الخاصة بدلاً من منح ثقتهم للآخرين. وقلة منهم كانوا على استعداد للابتعاد عن أساليب عملهم المعتادة والاعتماد على المنصة للبحث عن الفرص. لكن إذا روج الجميع لعمله المموَل بدلاً من الاستماع إلى اقتراحات الآخرين وقبولها ولم تتم معالجة النزعة الفردية السائدة بقوة في قطاع العمل الخيري، فستكون البنية التحتية المشتركة بلا جدوى. كما أشار المموِّلون إلى الحاجة إلى وجود علاقات متينة للوثوق في طريقة عمل مستخدمي كومنز الآخرين لدراسة تقديم التمويل غير الربحي. ومن دون معرفة شخصية متينة، لم يرغب الممولون حتى بالتفكير في فرصة تمت دراستها من خلال قاعدة البيانات.
علاوة على ذلك، يميل الناس إلى الاعتقاد بأنهم قادرون على تقديم أكثر من طاقتهم أو على الأقل يرغبون في ذلك خلال الأزمات أو في بدايات التعاون، وكذلك يميل المانحون. وأوصى أعضاء مجموعات العمل بما اعتقدوا أنه أفضل سيناريو لتنسيق العمل الخيري في مواجهة كوفيد-19، لكن لم تنجح تلك التوصيات في خلق مشاركة حقيقية عند إطلاق المنصة. لذلك لا يكفي الاعتماد على نوايا المستخدمين لصياغة جهود تنسيق الأعمال الخيرية، فعمليات البحث والتطوير المناسبة يجب أن تكون أولوية، فالمستخدمون ليسوا مصممي منتجات. كما يجب أن تكون عملية اختبار افتراضات المستخدمين ونواياهم، أي أولوياتهم المفترضة ونقاط الضعف والحلول المقترحة، خطوة لا تنازل عنها في أي عملية تطوير منتج في المستقبل. فالمزيد من البحث والتحضير والتجريب سيجعل قطاع العمل الخيري أقرب إلى فهم الظروف اللازمة لتغيير السلوك؛ والأفضل أن يتم ذلك في الفترات الفاصلة بين الأزمات حتى تكون الجهات الفاعلة على استعداد للاستجابة في جميع الأوقات، بما في ذلك ظهور حالات طوارئ جديدة.
2. مؤشرات مشجعة
على الرغم من أن الاهتمام المشترك في التكنولوجيا الميسرة للأعمال الخيرية لم يترجم إلى مشاركة نشطة للمشاركين في كومنز، فإن التجربة أفادت بشكل إيجابي عن جهود إحدى المؤسسات المشاركة في القيادة، وهي مؤسسة ذي أوبن ريسيرتش فاندرز غروب "أورفغ" (the Open Research Funders Group (ORFG)). حيث اتجهت أورفغ بقوة نحو إتاحة الفرص للأعضاء لمشاركة قصصهم، مستندة إلى معرفتها أن الحوار المباشر حول المهام والأولويات والتحديات أمر بالغ الأهمية لخلق شعور دائم بالانتماء إلى المنظومة. ومن خلال استثمار الوقت في بناء العلاقات المباشرة وروح العمل الجماعي، أصبح أعضاء أورفغ أكثر ميلاً إلى مناقشة بحوثهم المفتوحة والمساواة في تقديم المنح والعلوم المدنية. وهم يشاركون أكثر من السابق في حوارات صريحة ومباشرة والتي بدورها تؤسس للعمل الخيري المسند إلى الأدلة والفعال. مجموعة كهذه تزرع الثقة في أن هذا القطاع قادر على التنسيق على نحو أفضل طالما كان بناء التواصل الإنساني وخلق الروابط المتينة من أولوياته.
3. الضعف يولد الثقة، ما يمكّن من التعاون
يبقى التنسيق بين الممولين ضرورياً من أجل قطاع العمل الخيري وشركائه من المؤسسات غير الربحية التي يدعمها. ثمة حاجة ماسة إلى تعزيز علاقات تعاون جديدة ومتينة بين المؤسسات الخيرية والمانحين الأفراد، حيث يوجد عدد قليل من العمليات التي تنشئ الروابط بين هذا النوع من المجموعات. ولتسهيل بناء هذه العلاقات يمكن لمؤسسات دعم العمل الخيري أن تؤدي دوراً حاسماً في بناء الروابط والمسارات التي تقوي ثقة الممولين.
كما يمكن تعلم الكثير من جمعيات الممولين التي تشمل مجموعة متنوعة من الجهات الفاعلة الخيرية ومعلومات عنها، وتشير الروايات القادمة من ميدان العمل إلى أن المحاولات الإضافية لتحفيز التنسيق بين المانحين وتعزيزه مستمرة. وستكون الثقة العمود الفقري لنجاح تلك الجهود مستقبلاً.
من سمات العمل الخيري في كثير من الأحيان أن يكون محافظاً ومتجنباً للمخاطر وغير مبادر، ولكن الأزمات مثل الجائحة يمكن أن تدفع هذا القطاع إلى الابتكار والتجربة، وتحمل المخاطر على نحو أكبر. سعى مشروع فيلانثروبي كومنز إلى "الفشل السريع" عبر التعجل في طرح النموذج الأولي واختباره، والتحول عن الطرق التي لم تنجح، وتكرار الناجحة سعياً وراء تأثير أكبر. نأمل أن تقدم محاولة فيلانثروبي كومنز دروساً عملية تستفيد منها المحاولات القادمة لتحسين التنسيق في القطاع الخيري، وأن تمثل مصدر إلهام لمزيد من المخاطرة والابتكار في العمل الخيري بشكل عام.
يمكنكم الاطلاع على النسخة الإنجليزية من المقال من خلال الرابط، علماً أنّ المقال المنشور باللغتين محمي بحقوق الملكية الدولية. إنّ نسخ نص المقال دون إذن سابق يُعرض صاحبه للملاحقة القانونية دولياً