كيف يمكن للمنطقة العربية الاستفادة من التجارب العالمية لتبني الإبداع المعرفي؟

5 دقائق
الإبداع المعرفي
shutterstock.com/9dream studio

يمكن مواجهة التقلبات الاقتصادية وزيادة الاستفادة من العنصر البشري من خلال المعرفة؛ إذ باتت ركيزة النجاح الاقتصادي متمثلة بالخبراء والباحثين، والمصممين والمبرمجين، أو عمّال المعرفة (knowledge worker) كما أسماهم الكاتب الاقتصادي النمساوي بيتر داركر (Peter Drucker) في كتابه معالم الغد (The Landmarks of Tomorrow) عام 1959.

التحديات التي تواجه العالم في القرن الحادي والعشرين، تدفعه لتقدير الإبداع المعرفي الذي يولد أفكار جديدة تمثل أساس التقدم في اقتصاد اليوم، فتزداد الحاجة للاهتمام بالتطورات العلمية والتكنولوجية وتطوير أنظمة الاتصالات العالمية والاستثمار في البحث والتطوير، والموارد البشرية المبدعة والمتميزة من أجل خلق الميزة التنافسية والقيمة المضافة.

لماذا نحتاج إلى الإبداع المعرفي؟

يساعد التركيز على الإبداع في الحفاظ على مرونة الأعمال وقدرتها على إنتاج حلول مبتكرة لمجموعة واسعة من المشاكل، سواء كان ذلك ينطوي على تغيير استراتيجية العمل، أو ابتكار تكنولوجيا جديدة، أو تغيير ممارسات الأعمال من أجل البقاء على صلة، كما يضمن استمرارية عمل المؤسسات في حالات عدم اليقين الاقتصادي.

تُعد الأعمال أكثر ابتكاراً، عندما تكون قادرة على إدراك طلب العملاء وابتكار حلول إبداعية لتلبية الطلب على أفضل وجه، ما يحافظ على قدرة الأعمال على المنافسة في سوق سريع التغير؛ فالشركات التي تركز على الإبداع مثل غوغل تصبح رائدة في مجالها لأنها تستكشف دائماً الحلول والأفكار الجديدة.

تخلق الصناعات الإبداعية أيضاً وظائف على نطاق واسع؛ فينتج عن الإبداع صناعات متكاملة مثل الطاقة الطبية الحيوية والبديلة. وتتطلب العديد من الوظائف استجابة للطلب المتزايد على الابتكارات في هذه الصناعات الجديدة وسريعة النمو، فلولا الإبداع الذي خلق هذه الصناعات، لما وجدت هذه الوظائف اليوم.

دمج الإبداع في اقتصاد المعرفة

أصبح الاهتمام بالعلم ركيزة أساسية في المنظومة العالمية الجديدة القائمة على المعرفة، وأصبح نتاج العمل الإنساني وتراكم الإبداع العلمي والتكنولوجي متمثلاً في المعرفة، وبحسب دراسة الباحثتين الجزائريتين وسيلة السبتي ولطيفة السبتي بعنوان: تجارب رائدة في مجال الابداع المعرفي والاندماج في اقتصاد المعرفة، عززت العولمة التوجه نحو اقتصاد المعرفة، وبالتالي باتت تركز المؤسسات على تعزيز معارف ومهارات الموارد البشرية، وتطوير البنية التحتية من تكنولوجيا المعلومات والاتصال، وأنشطة البحث والتطوير لقيادة الابداع العلمي.

تفرض تنمية الاقتصاد المبني على المعرفة مجموعة من التغيرات في طبيعة تنظيم السوق في ظل اقتصاد متنوع من أجل الدفع بالقوة التنافسية، وتعد فنلندا وكوريا الجنوبية من التجارب الملهمة في توظيف الإبداع والبحث العلمي والتطور التكنولوجي لتعزيز الاقتصاد المعرفي.

تجربة فنلندا

تُظهر تجربة فنلندا أن بلداً صغيراً يتمتع باقتصاد يعتمد على الموارد الطبيعية يمكنه أن يصبح رائداً في مجال الابتكار والاقتصاد المعرفي في وقت قصير؛ ففي الفترة من منتصف التسعينات إلى بداية القرن الحادي والعشرين؛ تحوّلت لاقتصاد أكثر تخصصاً بمجال تكنولوجيا المعلومات والاتصالات.

وبعد الحرب العالمية الثانية، لم تكن فنلندا بلداً صناعياً بالكامل، وكان الجزء الأكبر من السكان لا يزال يعمل في الزراعة والتعدين والحراجة، إلا أن الإنتاج الأولي أفسح الطريق للتنمية الصناعية، والتي بدورها أفضت إلى اقتصاد موجه نحو الخدمات والمعلومات، ونما الاقتصاد بسرعة في الثمانينيات بسبب العلاقات التجارية القوية مع كل من أوروبا الشرقية والغربية، لكن في أوائل التسعينيات؛ مرت فنلندا بركود حاد، تقلص معه الناتج المحلي الإجمالي 10% بين عامي 1990 و1993، وانهار القطاع المصرفي، وارتفعت مستويات الديون من 10% من الناتج المحلي الإجمالي في عام 1990 إلى 58% في عام 1994، وذلك بسبب  انهيار الاتحاد السوفيتي الذي أدى إلى تعطيل التجارة.

على الرغم من مرور الاقتصاد الفنلندي بأزمة مصرفية حادة أواخر الثمانينيات نتيجة تحرّر الأسواق المالية، والانهيار المؤلم في التسعينات؛ إلا أن فنلندا تعاملت مع هذه الأزمة بمرونة وركزت على الاستثمارات الموجهة نحو الابتكار بدلاً من الترويج للأنشطة التقليدية.

اعتمد نموذج الابتكار والبحث والتطوير في فنلندا على الربط بين الشركات والجامعات ومؤسسات البحث، وتوفير نظام تعليمي عادل ومتطور، والشراكات بين القطاعين العام والخاص، وكانت المساهمة الأهم للقطاع الخاص في الوصول لاقتصاد المعرفة من خلال تحفيز الصلات بين القطاعات والصناعات المختلفة، على سبيل المثال، قدم قطاع الصناعات الحراجية سوقاً تجريبية من أجل تطوير الصناعات الناشئة محلياً قبل بيعها للأسواق العالمية، وشجّعت تطورات صناعة المعلومات والاتصالات على وجود سوق جديدة وديناميكية للمشغّلين.

أصبح بناء المعرفة وتطويرها المحرك الرئيسي لخروج فنلندا من الأزمة الاقتصادية، حتى وصل حجم الإنفاق الإجمالي على البحث والتطوير في عام 2019 إلى 2.79% من الناتج المحلي الإجمالي للبلاد، وباتت في صدارة القوائم العالمية في التعليم والتنافسية الاقتصادية، والشفافية، والتقدم التكنولوجي، والابتكار، لينعكس هذا التقدم على سعادة شعبها؛ ففي عام 2022، جاءت على رأس قائمة الدول الأسعد في العالم للمرة الخامسة على التوالي، بحسب تقرير السعادة العالمي الصادر عن شبكة الأمم المتحدة لحلول التنمية المستدامة (UN Sustainable Development Solutions Network).

وأدركت فنلندا أن النجاح لفترة ليس دليلاً استمراريته في المستقبل، وأنها قد تواجه صعوبات في الحفاظ على تقدمها، ولمست الحاجة إلى المرونة والتجديد، وتعد شركة نوكيا المثال الفنلندي الأفضل لأهمية الابتكار؛ إذ بدأت الشركة عام 1865 في صناعة الورق ثم ركزت اهتمامها منذ 1992 على الهواتف المحمولة، وحققت نجاحاً باهراً اعتمد على توفير تكنولوجيات جديدة للمستهلكين، ما جعلها في صدارة عدد الأجهزة المباعة منذ 1998، واستفادت من السياسات التعليمية القائمة على الإبداع وحل المشكلات في التسعينيات، لكن الشركة وقعت في فخ الاعتماد على أمجاد الماضي، وبدأت حصتها في السوق تتراجع  مع نجاح شركات مثل آبل وبلاك بيري بتصميم هواتف لها ميزات أكثر حداثة.

وعربياً، فقد تنبهت دولة الإمارات إلى ضرورة مواكبة التغيرات العالمية والعمل على نظام جديد يعزز الإبداع والابتكار، وبدأت العمل على أطر وتشريعات تعزز هذا الاتجاه، ووضعت سياسات واستراتيجيات ذات الصلة ببناء مقومات الاقتصاد القائم على المعرفة، منها رؤية الإمارات 2021، الهادفة إلى غرس ثقافة ريادة الأعمال في الجامعات والمدارس، لتخريج أجيال تتمتع بروح الريادة والإبداع والمسؤولية والطموح، وتعزيز ريادة الأعمال من خلال تشجيع المشاريع الصغيرة والمتوسطة في القطاع الخاص، وركزت الأجندة الوطنية على زيادة متوسط دخل الفرد بالنسبة للناتج المحلي الإجمالي، وبحسب مؤشرات البنك الدولي، تبوأت الإمارات  المرتبة الثامنة من حيث نصيب الفرد من الدخل القومي الإجمالي  لعام 2020.

تساعد مثل هذه الخطط الدولة في الحصول على مراكز متقدمة ضمن مؤشرات سهولة ممارسة الأعمال، والتنافسية العالمية، والابتكار وريادة الأعمال والتنمية، والتركيز على البحث والتطوير، وبحسب تقرير التنافسية العالمي لعام 2020 الصادر عن المنتدى "الاقتصادي العالمي" (World Economic Forum) احتلت الإمارات المرتبة 25 عالمياً، وتقود الإمارات إجمالي الإنفاق على البحوث والتطوير في المنطقة بنسبة 1.3%.

تجربة كوريا الجنوبية

في الوقت الذي اعتمدت فيه فنلندا على الشراكات بين القطاعات المختلفة وتعزيز التعاون بين الشركات والجامعات ومؤسسات البحوث، وتطوير النظام التعليمي لدعم الابتكار والإبداع المعرفي، تبنت كوريا الجنوبية استراتيجية قائمة على التحول الرقمي وتحسين مستوى جودة البنية التحتية والمعلوماتية لتلائم احتياجات الاقتصاد المعرفي.

تحوّلت كوريا الجنوبية من دولة فقيرة الموارد إلى واحدة من أهم الاقتصاديات المعرفية عالمياً، ومن الدول الأسرع نمواً من ناحية متوسط دخل الفرد من الناتج المحلي الإجمالي، وبدأ التحول لاقتصاد المعرفة مطلع سبعينيات القرن الماضي، اتبعت فيه خلال تلك الفترة سياسات الاقتراض الخارجي لتمويل عمليات الاستثمار في رأس المال البشري، ونقل التكنولوجيا على نطاق واسع، والاتجاه نحو تكثيف الصناعات عالية التكنولوجيا، ما ساعد في زيادة الإنتاجية الكلية لعناصر الإنتاج.

عززت كوريا الجنوبية قدرات القطاع الصناعي لتكنولوجيا المعلومات والاتصالات، وباتت تضم أغلب مشغلي الصناعات المتقدمة مثل سامسونغ وإل جي، وركزت على رفع مستوى التعليم والاهتمام بمشاريع تكنولوجيا المعلومات والاتصالات ودعمها، إذ سجلت أعلى نسبة للمنازل المتصلة بالإنترنت عبر شبكات عريضة النطاق لتصل إلى 95%، وكانت واحدة من أوائل البلدان التي اعتمدت تكنولوجيات الجيل الثالث للحزمة العريضة المحمولة، إذ وصل عدد مشتركي هذه الخدمة إلى 35 مليون عام 2008، ما يعادل 71% من إجمالي عدد السكان.

ولمساعدة كوريا الجنوبية في مراجعة استراتيجية التنمية، اقترحت منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية والبنك الدولي إطاراً من أربعة محاور سيمكنها من الاستفادة بفاعلية من التقدم التكنولوجي والمخزون المتنامي للمعرفة:

  1. نظام اقتصادي ومؤسسي يوفر حوافز للاستخدام الفعّال للمعرفة الموجودة، من أجل بدء أنشطة جديدة أكثر كفاءة.
  2. مجتمع متعلم وريادي يمكنه إنشاء واستخدام معرفة جديدة.
  3. بنية أساسية ديناميكية للمعلومات يمكن أن تسهل الاتصال الفعّال ونشر المعلومات ومعالجتها.
  4. نظام ابتكار فعّال يضم الشركات ومراكز العلوم والبحوث، والجامعات، ومراكز الفكر والاستشاريين، والمنظمات الأخرى التي يمكنها الاستفادة من المخزون المعرفي وملائمته مع الاحتياجات المحلية؛ واستخدامه لخلق معرفة وتكنولوجيا جديدة.

إذاً، الإبداع المعرفي أصبح أكثر أهمية من أي وقت مضى، ويمكن للدول العربية الاستفادة من التجربتين الفنلندية والكورية لتُحقق تقدماً في هذا المجال؛ خصوصاً أن تقرير التنمية الإنسانية العربية الصادر عن برنامج الأمم المتحدة الإنمائي عام 2003 بعنوان: نحو إقامة مجتمع المعرفة، لفت إلى أن تراجع وضع المعرفة في المجتمعات العربية أحد أهم المعوقات الرئيسية للتنمية.

المحتوى محمي