في الثاني من فبراير/شباط عام 2022، ضجت شبكات التواصل الاجتماعي بإعلان الاتحاد العالمي للحياة البرية في المملكة المتحدة (World Wildlife Federation-UK) عن حملة الرموز من أجل الطبيعة (Tokens for Nature)، وهي حملة لجمع التبرعات تقوم على بيع الرموز غير القابلة للاستبدال (NFTs) وتحويل عائداتها لدعم جهود حماية ثلاثة عشر نوعاً من أكثر الأنواع المهددة بالانقراض في العالم. خطط الاتحاد العالمي للحياة البرية بالمملكة المتحدة لإدارة الحملة على شبكة تعمل وفق تقنية بلوك تشين (blockchain) من الطبقة 2 والتي تُدعى بوليغون (Polygon)، والتي زعموا أنها نسخة "صديقة للبيئة" من منصة إيثيروم (Ethereum). إلا أن بوليغون بعيدة كل البعد عن صداقة البيئة: فشراء الرموز المشفرة لتبادل العملات الخاصة ببوليغون يعني الاعتماد على بنية تحتية تستهلك الطاقة بشراهة وهي البنية التي تحيط هذه العمليات وتدعمها. كانت ردود الفعل السلبية حادة للغاية لدرجة دفعت الاتحاد العالمي للحياة البرية بالمملكة المتحدة إلى إلغاء البرنامج في غضون 48 ساعة فقط من إطلاقه.
وتعد حملة رموز من أجل الطبيعة مثالاً واحداً من مجموعة متنامية من المشاريع أو الحملات المسماة "حملات من أجل الخير" والتي تسعى إلى الاستفادة من زخم الويب 3 (Web3)، وهو مصطلح شامل لمجموعة شاملة من النماذج والبروتوكولات والتقنيات اللامركزية - مثل بلوك تشين (blockchains)، و(DeFi) (التمويل اللامركزي)، والرموز غير القابلة للاستبدال (NFTs)، والعملات المشفرة، وغيرها - التي اجتذبت كلاً من المبتكرين والمحتالين. حيث إن مجرد ذكر الويب 3 كافٍ لرفع سعر السهم (أو خفضه، كما هو الحال في الآونة الأخيرة)، لذلك يتدافع الجميع من المشاهير إلى رؤساء البنوك المركزية من أجل صياغة استراتيجية. وتتطور هذه التقنية بسرعة كبيرة تجعل من الصعب استيعابها بالكامل، فمن الصعب معرفة ما إذا كان الويب 3 يزدهر أو يتوسع أو يكتسح كل شيء بما أنه يبقى رهيبا بالتقلبات وطبيعة كل مبادرة وتوقيتها. فالجميع يؤسس ويستخدم ويستغل نماذجه، غالباً من دون فهم واضح لإمكانياته وعيوبه، وبالتأكيد من دون مجموعة من معايير أو نماذج الحوكمة وتحمل المسؤولية.
وينضوي تطبيق إطار عمل للمشاريع والحملات التي تروم تحقيق "أهداف نبيلة" من خلال الويب 3 على تعقيداته الخاصة. حيث أن أي مشروع من المشاريع التي تروم تحقيق أهداف نبيلة داخل قطاعي التأثير الاجتماعي والتكنولوجي تنطلق من فكرة أن تطبيق الأداة الصحيحة على المشكلة الصحيحة سيحقق فوائد اجتماعية جمة. لقد اشتمل المتحول "س" في هذه المشاريع تاريخياً على أدوات مثل الذكاء الاصطناعي، أو البيانات، أو الواقع الافتراضي، أو الألعاب، أو وسائل التواصل الاجتماعي ومنصات الاتصالات، بالإضافة إلى عدة أمور أخرى. وفي أفضل الأحوال، يسمح إطار العمل "س من أجل الخير" بالتطوير الذي يقوده المجتمع للأدوات المناسبة التي تساعد في إحداث تأثير اجتماعي إيجابي في مجالات متنوعة مثل التخفيف من حدة الفقر أو حركات العدالة الاجتماعية. ومع ذلك، فإنه يؤدي في كثير من الأحيان إلى اتباع الحلول التقنية وفرض الأدوات على المجتمع، والتي لم يتم تصميمها مع هذه المجتمعات أو بواسطة هذه المجتمعات. وكما يقول مارك لاتونيرو، "المشكلة الأعمق تكمن في أنه لا يمكن اختزال أي مشكلة اجتماعية ضخمة في الحلول التي يقدمها أذكى خبراء تكنولوجيا الشركات ممن يتعاونون مع أرقى المؤسسات الدولية".
ما يزال القطاع الاجتماعي يتصارع مع جهود "من أجل الخير" في سياق اعتماد أدوات ومنصات تقنية، ولم يتم الاتفاق سوى على إجابات قليلة. ولنا أن نتساءل: لم ينبغي للقطاع الاجتماعي الاهتمام بالويب 3 الآن في حين أنه قد يكون مجرد موجة عابرة أخرى، أو أنه بدأ مثل هذه البداية المشكوك بأمرها؟ هذا سؤال وجيه.
إذا استرشدنا بتاريخ الويب على مدار الثلاثين عاماً الماضية، سنجد أن الويب 3 حقيقة لا مراء فيها. فقد ظل المطورون يعملون مع مفاهيم بلوك تشين منذ أن قام صاحب الاسم المستعار "ساتوشي ناكاموتو" بتقديم عملة البيتكوين (Bitcoin) للعالم في عام 2008، علماً أن الفكرة تعود إلى تاريخ أقدم من ذلك. حتى مفهوم الرمز غير القابل للاستبدال (NFT)، الذي يبدو وكأنه ظهر العام الماضي فقط، تم إطلاقه لأول مرة في عام 2014. ولقد تم استثمار مليارات الدولارات في تطوير هذه الموجة التي يقدمّها أصحابها على أنها مستقبل البنية التحتية الرقمية. ولا يقتصر الأمر على ما يُدعى باقتصاد صناع المحتوى، بل يشتمل أيضاً على الاقتصادات الكلية والمسارات التي تعمل عليها أيضاً، من خلال عمل البنوك العالمية وشركات البرمجيات والإمبراطوريات الإعلامية ومئات الآلاف من مطوري البرمجيات. لذلك، من المنطقي أن نخلص إلى أن: الويب 3 باقِ وسيستمر.
لكن أي حدود جديدة للابتكار لا تسلم من إخفاقات فوضوية. تتراوح مجموعة تطبيقات الركائز الأساسية للويب 3 من تلك التي تنفذها الدول إلى تلك التي يطلقها أفراد بشكل عفوي، كما تتنوع الدوافع وراء هذه المشاريع وجودة حوكمتها. وبعض هذه التقنيات والمنصات التي تشكل عالم الويب 3 ستفشل بالتأكيد، أو أقلّها ستفشل في الوفاء بالوعود الهائلة التي قدمتها.
وكما كان الحال مع وسائل التواصل الاجتماعي وأدوات "الاتصال" الخاصة بالجيل الثاني من الإنترنت (Web 2.0)، يتم تقديم الجيل الثالث من الإنترنت (Web 3) كوسيلة لانتزاع سلطة التحكم من قبضة المصالح السياسية الفاسدة أو الخبيثة التي تملكها الشركات المهيمنة على قطاع التكنولوجيا. بيد أن الجيل الثالث من الإنترنت لا يملك قدرات سحرية في ذاته. فمجرد توجيهه نحو الاقتصادات المعرضة للخطر من خلال تطبيق إطار "من أجل الخير" يعادل ما يسميه الناشط الإعلامي أوليفر جوتل "إمبريالية بلوك تشين". فالمشاكل التي يُعاني منها العالم الواقعي والإنترنت الأصلي والويب 2.0 يُعاني منها الويب 3 أيضاً، وهذه المشاكل تنتقل بسرعة تبادلات العملات المشفرة التجارية، ما يخلق (ويُسجل) أوجه تفاوت مُضرة في السلطة.
نصل من كل ما تقدم إلى السؤال الذي يهمنا وهو التالي: كيف نبني عالماً يستخدم الويب 3 حيث لا تكون جهود أي مؤسسة من أجل تحقيق "الخير" في العالم جهوداً منفصلة، وإنما روحاً جامعة لكل ما يتم بناؤه وتوزيعه واستخدامه؟ بينما نحن في مرحلة من تطور الويب 3 حيث قد يصبح الاستغلال وعدم المساواة متأصلين ومتصلبين، نعتقد أنه لا يزال لدينا فرصة لتشكيله بشكل مفيد من أجل تحقيق الرخاء المشترك والعدالة. أفضل طريقة للتعامل مع هذا هو التمهل، وأخذ الوقت الكافي للفحص، ثم بناء أنظمة الحماية والخصوصية والمساواة المدروسة والاستباقية كجزء من الدعامات.
ثلاثة تحديات
هناك ثلاثة تحديات مترابطة متجذرة في الويب 3 يجب على أي مؤيد للتأثير الاجتماعي الإيجابي حلها.
1. التكنولوجيا اللامركزية لا تعني عدم تركيز السلطة لقد أصبح الويب 3 مرادفاً للويب اللامركزي، وأحد نقاط بيع تقنيات الويب 3 هي اللامركزية أو الملكية المشتركة للبنية التحتية للويب. ولكن في الواقع، غالباً ما تكون الملكية مُركزة بيد أولئك الذين يمتلكون الموارد بالفعل ولصالحهم، أي الأغنياء (حتى لو كانت ثروتهم تقتصر على العملات المشفرة) والشركات.
كما يوضح مثال سوق الرموز غير القابلة للاستبدال أوبن سي (OpenSea)، يتم توزيع المخاطر بسهولة على المستخدمين، حتى مع بقاء المكاسب مركزة إلى حد كبير لصالح أصحاب المنصات وأقلية صغيرة من المشاركين. وحتى فيتاليك بوتيرين، أحد مؤسسي إيثيروم، أصدر تحذيرات حول تركيز السلطة في اقتصادات الويب 3 التي تعتمد على الرموز، قائلاً إن "حيتان" العملات المشفرة يمكن أن يكونوا أصحاب سلطة كبيرة في هذه الاقتصادات. تصبح الأنظمة نابذة بطبيعتها ما لم يتم مشاركة الملكية وتوزيعها من قبل الأغلبية، لا سيما من قبل أولئك الذين هم الأكثر عرضة للاستغلال في الغالب.
ولهذا السبب، فإن البنى التنظيمية للسلطة المتساوية يجب أن تكون مصممة بشكل فعال ضمن أنظمة الويب 3.
2. تقوم نسبة كبيرة من أصحاب السلطة الحاليين بالفعل ببناء نماذج أعمالهم الخاصة بالويب 3 على الاستغلال والاستخراج. في الوقت الحاضر، تعمل نماذج الأعمال هذه على تعدين الطاقة والموارد الأخرى على حساب مناخنا وبيئتنا والمجتمعات الفقيرة طاقياً، وفي بعض الحالات تعمل بنشاط على إنعاش مشاريع طاقية تستنزف البيئة أو تضرها. وهم يفعلون ذلك دون معالجة هذه المخاوف في نموذج أعمالهم الأساسي (أو حتى عن طريق منح تعويضات، وهو بديل أقل استحساناً ولكنه لا يزال أفضل من لا شيء).
تهدف هذه النماذج إلى تجنب تحمل المسؤولية أمام مستخدمي المنصة أو المجتمعات الهشة سواء من الناحية الاقتصادية أو البيئية. لكنهم مع ذلك يطلبون ثقتنا؟
3. كسب ثقة المجتمع يتطلب ما هو أكثر من اللامركزية. غالباً ما يدّعي أولئك الذين يعتمدون على التقنيات الموزعة أنها حل لغياب الثقة، وأن هذه "الثقة" متأصلة في الأنظمة. علاوة على تهافت هذا الادعاء.
يتطلب بناء الثقة الإنصات والتواصل الصادق من بين إجراءات أخرى. وكما تقول مولي وايت:
كيف سيتم استخدام هذه التكنولوجيا لمضايقة الأشخاص وإساءة معاملتهم؟ "هو [سؤال] لا يتم طرحه في كثير من الأحيان، لا سيما بالنظر إلى أن التركيبة السكانية للأشخاص الأكثر عرضة لسوء المعاملة والمضايقة غير ممثلة بما يكفي في القطاع".
أو كما تصف سيديت هاري الأمر:
مبتكرو التكنولوجيا الانتهازيون، الذين لا يفوتون أبداً فرصة لارتكاب الخطأ نفسه عدة مرات، قاموا ببناء أدوات ... تتخلص من قوائم وحسابات تويتر (Twitter) الخاصة بالمستخدمين الخارجيين وتجدولها. وباستخدام مقالات ومنتجات مثل هذه، يمكن للمرء "تنويع" وجمع "الخبرات الجديدة" بدلاً من توظيف كتاب من أصحاب البشرة السمراء أو تغطية تجارب أصحاب البشرة السوداء في ذات السياق. وبالتالي تصبح الرسالة: "عليك أن تكون واعياً لما يفعله أصحاب البشرة السمراء لكنك في غنى عن الحديث إليهم".
إن الاستغلال - خاصة لأولئك الذين تم تهميشهم على مر التاريخ - قد اتخذ أشكالاً عديدة على منصات الويب الموجودة، ومن الأمثلة على ذلك: المراقبة وخطابات الكراهية المتفلتة من قيود الرقابة، والتحرش والدعوات إلى العنف، والفشل في حماية الفئات الهشة من المستخدمين، ومحاولة إسكات منتقدي قطاع التكنولوجيا، واستخراج البيانات ومعالجتها دون موافقة واعية ولأهداف ربحية، والاستيلاء على منتج العمل والعمليات دون تعويض أو إسناد، بالإضافة إلى أمور أخرى. لماذا يتوجب علينا أن نثق تلقائياً باللذين استغلوا تاريخياً العمليات والمنتجات وآلام المجتمعات لمصالحهم الشخصية، خاصة لكون استغلاليي الويب 3 يُشبهون استغلاليي الويب 2 إلى حد كبير، أو هم نفسهم في بعض الحالات؟
إن العديد من مؤسسي الويب 3 لم يقوموا بالإجابة عن هذا السؤال. حيث لا توجد أنظمة لتحمل المسؤولية أو وسائل انتصاف (سواء على صعيد الأقران أو على صعيد مؤسسي) لأولئك الذين يُمكن استغلالهم على منصات الويب 3. وغالباً ما تتم محاولة معالجة عيوب تصميم النظام الأساسي وثغرات العملية من خلال العمليات التي تم تطويرها بعد وقوع الحدث، كما أن أولئك الذين يسعون إلى الإنصاف معتمدون بشكل كبير على استخدام العناوين الإعلانية العريضة، أو الخوف منها، لخلق الضغط. كل هذا بالإضافة إلى حقيقة أن الأنظمة الموزعة سمحت بتحويل المليارات لمجموعات الكراهية دون شفافية أو محاسبة.
ما الذي يمكن أن تفعله المجتمعات - خاصة تلك التي تتوجه إليها مبادرات ترفع شعاراً لها "من أجل الخير" - عندما تعرضها مبادرات الويب 3 للخطر أو تعود عليها بنتائج عكسية أو تخون ثقتها؟ لا شيء تقريباً عدا الإشارة إلى سجل المعاملات الرقمية الذي عرّضها للضرر على أمل تحقيق شكل من أشكال الإصلاح. فالتقنيات التي تعيد خلق أوجه التفاوت في السلطة التي عانت منها التقنيات السابقة ليست أنظمة موثوقة ومضمونة. وإن امتلاك سجلات لامركزية لهذه المشاكل لا يقدم حلاً سحرياً لها.
لا مجال للفشل السريع
إذا كان هناك شيء واحد يجب أن نتعلمه من انتشار الويب 2.0 السام الذي نكافح اليوم للتخلص منه، فهو أن رفع أي مشروع أو مبادرة لشعار "من أجل الخير" غالباً ما يكون، للمفارقة، استراتيجية سيئة بالنسبة للكوكب والكائنات الحية عليه. مثل الشطب المتسارع لشركات وسائل التواصل الاجتماعي في روسيا الذي هو الجهد الأخير من جهود التنظيمات الذاتية التي يحركها الإدراك المتأخر إلى حد خطر. ففي حالة الويب 2.0، كان مصطلح "القيام بعمل خيري اجتماعي" يُستخدم كغطاء لفعل "أي شيء مهما كان": أي شيء يجني مزيداً من المال، أو أي شيء يُحقق النمو الأسرع، أو أي شيء يُتفق على أنه أكبر من أن يتم تنظيمه.
في الوقت الحالي، الويب 3 مُهدد بخطر أن يسلك المسار ذاته. فنحن نشهد بالفعل مبادرات تأثير اجتماعي غامضة، بدءاً من معارض الرموز غير القابلة للاستبدال التي تشارك العائدات مع المؤسسات الخيرية إلى تحويل صناديق التمويل الاجتماعية على بلوك تشين إلى عملة للخير الاجتماعي المُسماة بدهاء سوشال غود (SocialGood) والتي تدعوك لمشاركة جزء من نفقاتك مع المؤسسات الخيرية. وسواء كانت محاولة لتوفير الشفافية في التدفقات المالية أو حماية بروتوكول الإنترنت أو مجرد جهد لأتمتة الإيثار، يبدو أن هناك اندفاعاً كبيراً لإثبات أن الويب 3 يسعى للصالح العام في جانب من جوانبه، ولا يتعلق فقط بتكديس أشكال جديدة من الثروة بطرق رقمية جديدة.
بالرغم من ذلك، فإن هذه المهمة لفعل الخير الاجتماعي - أثناء السعي لتوسيع حدود التشفير - تبدو وكأنها فكرة انتهازية لاحقة، تستخدم التأثير الاجتماعي أو الخير الاجتماعي (مهما كان تعريفه مبهماً) كسبب أو غطاء للقفز إلى الويب 3، بخبرة قليلة أو معدومة غالباً، في حين أنها غير موجهة، وتفتقر إلى المعلومات والمنطق العام والأخلاق والتعاطف. بعيداً عن زلة WWF-UK في استخدام التقنيات المستهلكة للطاقة، خذ على سبيل المثال العرض الذي قدمته تشاريتي ووتر (Charity Water) لتحويل تبرعك بالعملات المشفرة إلى عملات ورقية بشكل فوري ... ثم استخدامها لتمويل مشاريع المياه النظيفة، دون أي ذكر للطاقة المطلوبة لفعل ذلك، والتي تضر بالبيئة و غيرها... والبقية غنية عن الذكر.
من حملات العلاقات العامة التي تُشعرك بالانزعاج إلى حركة نقط بث المشردين المتنقلة (Homeless Hotspots) الشهيرة اللامبالية التي أطلقتها إس إكس إس دبليو إنتراكتيف (SXSW Interactive) عام 2012، فإن العديد من هذه المبادرات المبكرة استغلت بفظاظة آلام الآخرين واستخدمتها كـ"محتوى" وانتهى بها الأمر كعروض فقر إباحية على دفتر الحسابات الموزعة.
خذ على سبيل المثال مشروع فلويديز (Floydies)، وهو مشروع NFT الذي يُزعم أنه يعبر عن التضامن مع حركة "حياة السود مهمة". لكنها لم تكن سوى استغلال عنصري لصورة جورج فلويد لمصلحة المؤسسين الشخصية وتعظيم شأنهم. وفي آخر المطاف، قامت شركة أوبن سي بحذف الرموز غير القابلة للاستبدال.
أحد الأمثلة الأخرى هو موقع SaveTigray.net التابع لحملة تهدف إلى إنقاذ إقليم تيجراي بإثيوبيا، والذي يحتوي سلسلة من الصور بصيغة رموز غير قابلة للاستبدال تتناول الصراع الدائر والمجازر التي تُرتكب في إثيوبيا. خططت المجموعة التي تقف وراء هذا الجهد في الأصل لإنشاء رموز غير قابلة للاستبدال لفنون التجارة العادلة التي أنتجتها النساء الحرفيات في إقليم تيجراي، لكن ظروف الحرب أعاقت هذه الخطط ودفعت بهم إلى بيع صور الأشخاص الذين يعانون من محن تسببت بها الصراعات الدائرة. ومن الصعب تحديد ما إذا تم جمع أية أموال عن طريق هذه المبيعات لصالح المجتمع المعرض للخطر. ولكن بغض النظر عن ذلك، فإن الصورة الأساسية والرموز غير القابلة للاستبدال المبنية عليها تُرسخ النظام الأبوي وتؤدي إلى إضعاف السكان المحليين.
في مثال آخر أحدث، وضعت وكالة أسوشييتد برس (AP) صورة معبرة لقارب مطاطي يحمل مهاجرين عبر البحر الأبيض المتوسط في سوق الرموز غير القابلة للاستبدال الخاص بها، بهدف جمع الأموال لوكالتها الإخبارية غير الربحية. حيث أن البحر الأبيض المتوسط هو في الأساس مقبرة جماعية للمهاجرين من شرق وشمال إفريقيا والشرق الأوسط وما وراءهما. وقد صدر إعلان وكالة AP في نفس اليوم الذي شنت فيه روسيا هجوم عام 2022 على أوكرانيا - وهو غزو تسبب بتشريد ملايين اللاجئين كما هو متوقع - مما جعلها تواجه انتقادات بشأن الاستغلال والسعي لاكتساب الأرباح. مما جعل وكالة AP تُزيل الإعلان.
العالم لا يمتلك الوقت لمثل هذه المشاريع. فنحن لا نمتلك الوقت لشبكة ويب متذبذبة ما بين التكنولوجيا من أجل الشر/ أو الحياد مقابل التكنولوجيا من أجل الخير. وهذا الأمر صحيح خصوصاً بينما نقف على شفا الانهيارات المجتمعية المتقاطعة الناجمة عن حالات الطوارئ المناخية، والنزوح، وعدم المساواة، والاستبداد ، وغياب الديمقراطية. فالصالح الاجتماعي ليس شيئاً "من الجيد امتلاكه" في أنظمة التكنولوجيا الحالية والمستقبلية.
تخيل نظام ويب جديد
كيف نستطيع أخيراً أن نفي بوعود الويب 1 والويب 2.0 بطريقة يضع فيها الفنانون والناشطون والمبتكرون والعاملون، الذي تم إهمالهم أو استغلالهم على مر التاريخ، المعايير الاجتماعية والثقافية والاقتصادية للويب 3؟ كيف نتمكن من تطبيق مبدأ "التفكير أولاً، ثم ابتكار الأشياء" بدلاً من مبدأ "تحرك بسرعة واكسر القواعد"؟
إذا كان الويب 3 يُقدم فرصة لإصلاح انهياراتنا، فهو يحتاج إلى نظام قيم مدمج ضمنه، لا نظاماً اختيارياً. هذا يعني أن الصالح الاجتماعي يجب أن يكون جزءاً مدمجاً ليس في روح الجماعة فحسب، بل أيضاً في البنية التصميمية ومجموعات القواعد لأي شبكة ويب جديدة أو نموذج تكنولوجي جديد. وهذا أمر جوهري وضروري على نحو خاص عندما نفكر بشأن تطبيقات التكنولوجيا الرقمية لأجل الصالح الاجتماعي، أو على صعيد أكثر أهمية، في عالم تكون فيه تقنيات الويب 3 جزءاً من الحياة اليومية، وفي كيفية تحويلنا لحاضرنا إلى مستقبل مبهج تتحقق فيع المساواة والعدالة وتتولد فيه الأفكار باستمرار.
هناك بالفعل بعض التساؤلات الجيدة والمشاريع التي تشير إلى أننا نتجه نحو التقدم. فعلى سبيل المثال، قامت مؤسسة ويتنس (WITNESS)، وهي مؤسسة تتمتع بالخبرة على مدار عقود من الزمن في التقاطع بين حقوق الإنسان والتكنولوجيا، بالشراكة مع مؤسسة فايل كوين (Filecoin) للويب اللامركزي للكشف عن طرائق تمكن الناشطين والأشخاص العاديين من استخدام دفاتر الحسابات اللامركزية لتوثيق انتهاكات حقوق الإنسان بشكل آمن وصادق في الحالات التي عرّضتهم فيها شبكة الويب المركزية للخطر. وعلى صعيد آخر، كان صانعو الثقافة مثل إنجريد لافلور، مؤسسة معهد استراتيجيات مستقبل الأفارقة (Afrofuture Strategies Institute)، يطبقون منظور التقنيات الموزعة على الأسئلة التي تدور حول الشمول والملكية والتحكم في المنصة من قبل المجتمعات في المناطق منخفضة الموارد. وبشكل مماثل، قام مشروع ديسكو (DisCO Project) بوضع بيان ديسكو (DisCO Manifesto) الخاص به لدعم التنمية العالمية للتعاونيات الموزعة و "تصميم نماذج أولية جديدة وأساسية للملكية، والحوكمة، وريادة الأعمال، وحساب القيمة، التي تهدف إلى مواجهة عدم المساواة الاقتصادية المتفشية". وهناك دلالات على أن مجتمع الويب 3 قد يبدي ردة فعل على عدم العدالة أسرع من سلفه الويب 2.0؛ حيث اكتُشف مؤخراً أن المندوب الأكثر تعبيراً عن نظام العنونة إي إن إس (ENS) بلاحقة .eth متعصب بشكل علني، وقد قوبل هذا الاكتشاف بنداءات حثيثة من مؤسسة (Dame.eth)، وهي كيان رائد في مجتمع إيثيروم، وغيرها لمعالجة هذه القيادة السامة عن طريق الإدارة المجتمعية الرشيدة.
بناء على خبرتنا الشخصية على مدى عقود من الزمن (في تطوير التقنيات، والاستشراف، والتغيير الاجتماعي، والحقوق، والتنمية العالمية)، نرى ضرورة اعتماد أربعة مبادئ أساسية لتكون ركائز أية مبادرة معتمدة على الويب 3، خاصة بالنسبة لأولئك الذين يطمحون إلى تحسين حالة الإنسان والكوكب بشكل مباشر أو غير مباشر، وهي:
- القَصْدية
- تحمل المسؤولية
- المعايير المتفق عليها
- إطار عمل مهني وأخلاقي
قد تبدو هذه المبادئ مثالية عندما تكون تريليونات الدولارات من حيث القيمة مُعرضة ليتم الاستيلاء عليها، وفرصة إعادة تعيين السلطة في العديد من الصناعات والقطاعات تكون مُغرية. ويُمكن ببساطة أن تنجرف الاعتراضات التي لا تقدم مقترحات مضادة في الثنائية الزائفة بين "التفاؤل والتشاؤم". لكننا لا نكترث لأمر المقترحات المضادة. فنحن نقترح نموذجاً جديداً كلياً، عقداً اجتماعياً جديداً يقر بأن تلك التريليونات من الدولارات في القيمة لا تعني شيئاً في مواجهة ما يحدث لكوكب الأرض وسكانه. لنتذكر أننا أيضاً نعيش على هذا الكوكب، ومنذ وقت طويل، لم يمتلك هؤلاء الذين لا يتمتعون بالسلطة رأياً في تحديد كيفية سير مثل هذه التحولات في النماذج.
هذا الحال يجب أن يتغير. فالمناقشة - أو بالأحرى المطالبة - بشيء مختلف يجب أن تبدأ هنا.
من باب السهولة، نحن نضع توصياتنا ودعواتنا لاتخاذ إجراءات بصيغة "افعل ولا تفعل" من أجل أولئك الذين يفكرون في إطلاق مبادرة معتمدة على الويب 3 للتأثير الاجتماعي، أو أنهم قد بدؤوا بها بالفعل.
لا تفعل:
- لا تتجاهل مشكلة استهلاك الطاقة الكامنة في الويب 3 أو تحاول تجنبها. إن التأثيرات السلبية للويب 3 ستصيب بشكل أكبر المجموعات السكانية الهشة سواء الآن أو في المستقبل. وإلى أن تتم معالجة هذه المشكلة الجوهرية بشكل جذري وحاسم، سيستمر الويب 3 في تصدير الأضرار البيئية إلى المستقبل ودفعنا نحن والأجيال المقبلة للاقتراب من كارثة مناخية لا يُمكن إيقافها.
- لا تنشئ تعويضات بشرية كوسيلة لتبرئة عملك من العوامل الخارجية السلبية التي يتسبب بها. إن التأثير الاجتماعي ليس إطار عمل متساهل يتم استخدامه لموازنة التأثيرات السلبية الأخرى التي تخلقها مشاريع الويب 3.
- لا توجد مخاطر مالية جديدة للفئات السكانية المعرضة للخطر بالفعل. إن دفع الفقراء، أو المهددين، أو الذين يعانون من صعوبة الوصول إلى الخدمات المصرفية، أو الفئات الضعيفة اقتصادياً إلى حالة أكبر من عدم اليقين عن طريق إدخال أدوات مالية مضاربة متقلبة إلي اقتصاداتهم قد يتسبب بأضرار أكثر من المنافع. لا يتمتع الأشخاص الذين يعيشون في خطر بامتياز هودل (HODL) للاحتفاظ بالمكاسب الموعودة، وهو مصطلح شائع بين مستثمري العملات المشفرة لشراء العملات والاحتفاظ بها.
- لا تفرض تقنيات جديدة على المجموعات السكانية التي تعاني بالفعل من تراجع تقني عبر التاريخ. إن الاستعمار التكنولوجي مكتظ بالأمثلة على عمليات طرح الابتكارات الجديدة في المجتمعات التي لا تستطيع تحمل تكاليف الحفاظ عليها على المدى الطويل. حيث تظهر نقاط الضعف الأمنية بسرعة حتى في أكثر مجموعات المستخدمين تقدماً.
- لا تستخدم التكنولوجيا لإبعاد "المتبرعين" عن واقع القضايا التي يدعمونها أو إقصائهم كلياً. قد يكون هذا هدف مبادرتك، لكنه احتمال كبير أن يكون نتيجة غير مقصودة إلا إذا كان المتبرع مطلعاً أيضاً على الحاجة أو الأزمة التي يأمل أن يسهم في تحسينها.
- لا تدعم المحتوى الذي يستبيح الفقر، حتى لو كان منضوياً تحت اسم الرموز غير القابلة للاستبدال. هذا أمر جوهري خاصة عندما يتم الاستيلاء على صور المعاناة أو الضعف دون موافقة صريحة ومستنيرة من المبتكر أو الأشخاص الذين تم تصويرهم.
افعل:
- استفد من أطر العمل وشبكات التأثير الاجتماعي الحالية التي صممها الناشطون والدعاة الذين يتمتعون بخبرة حياتية حول الأضرار التي يعالجونها.
- طالب بالشفافية الموعودة من قبل التقنيات ومناصريها؛ عليك بالتدقيق والتدقيق والتدقيق. وعليك بالتحقق والتحقق والتحقق.
- طالب بالخصوصية والأمان - والموافقة المؤكدة والمستنيرة - لأفراد المجتمع الذين تهدف التقنية إلى دعمهم.
- اختبر ما إذا كانت ميزات الثبات والتقنيات "الذكية" ميزات مرغوبة في سياق المجتمعات التي تحاول مساعدتها.
- انتقد المشاريع المؤذية أو "المغسولة اجتماعياً" في الاجتماعات والمؤتمرات والندوات وعلى منصاتك.
- ادعم ناشطي حقوق الإنسان حول العالم، الذين يبحثون عن طرائق لزيادة فوائد الدفاتر الموزعة في سبيل تحقيق الخصوصية والحماية والتوثيق/الإسناد.
- استمع للفئات التي تعرضت للتهميش عبر التاريخ وتدعو للتغيير، وصمم من أجلهم ومعهم - أو تنحى جانباً لتفسح المجال لهم.
- استثمر في مختبرات صناعة العالم (laboratories of worldmaking)، وهو مفهوم حدده أوليفييه جوتل في محادثته مع إيفجيني موروزوف من مبادرة ذا كريبتو سيلابس ( The Crypto-Syllabus). فإن مجمل قضايانا المجتمعية العالمية تتطلب أن نفكر فيما سيحتاجه الأمر للتحول نحو الرخاء المشترك والعدالة والمساواة. ونحن حتى الآن، ما زلنا لا نمتلك الحلول والعمليات ومجتمعات الممارسة اللازمة. وكما يقول جوتيل في المقابلة نفسها، "علينا نتبنى التجربة والاختبار كإقرار لافتقارنا إلى الإجابات في الوقت الحالي". قم بإعداد هذا التحقيق الأكبر أو دعمه أو المشاركة فيه.
- استمر بالتعلم والاستكشاف وطرح الأسئلة. فقد وصلنا إلى مرحلة حيث لم يعد بإمكاننا تجاهل الآليات الأساسية لتقنيات الدفاتر الموزعة / حيز البلوك تشين. فهذه المبادئ يجب تعليمها وتعلمها كي نتمكن من ردع موجة كيانات الويب 2.0 الكبرى التي تستفيد من الوضع الراهن.
اطبع هذه الإرشادات وألصقها لدى منصة تعدين العملات المشفرة الأقرب إليك. وإذا اتبعت هذه الإرشادات أثناء التفكير في استراتيجيتك، قد تجد نفسك تحقق تأثيراً إيجابياً حقيقياً، بدلاً من أن ينتهي بك الأمر مشروعاً رقمياً ميتاً آخر على الطريق نحو الويب 3.
نعتقد أنه من الممكن الانتقال من العروض الجانبية تحت مسمى "من أجل الخير" إلى إحداث تأثير اجتماعي إيجابي في صلب الويب 3؛ ليس التحرر الاقتصادي فحسب، ولكن أيضاً العدالة العرقية والنوعية، والمساواة، والشمول، والمشاركة. وهذا مطلب كبير، وقد يتعارض مع معظم ما تعلمناه حول آلية عمل الكثير من التقنيات في العالم الحقيقي. إلا أنه سبب إضافي ليكون هذا المطلب يستحق أن يفرض بشكل واضح وصريح.
يمكنكم الاطلاع على النسخة الإنجليزية من المقال من خلال الرابط، علماً أنّ المقال المنشور باللغتين محمي بحقوق الملكية الدولية. إنّ نسخ نص المقال دون إذن سابق يُعرض صاحبه للملاحقة القانونية دولياً.