بدأ العمل المناخي خوضَ مسار جديد يركز على التخلص التدريجي من الوقود الأحفوري، ومع هذا التحول سيزداد الطلب على الوظائف الخضراء التي تلائم سياسات المناخ والممارسات البيئية والاجتماعية وحوكمة الشركات، لكن التحدي يتمثل في نقص المهارات اللازمة لمواكبة هذه التغييرات.
التحول الأخضر يخلق متطلبات عمل جديدة
يخلق التطور التكنولوجي والانتقال إلى الاقتصاد الأخضر تغيرات جوهرية في سوق العمل، وتزداد معها الحاجة إلى عمالة تمتلك مهارات خاصة بالشأن البيئي، أو ما يسمى بـ "المهارات الخضراء"، التي تشير عادةً إلى المعرفة والقدرات والقيم المطلوبة لمعالجة التحديات البيئية مثل فقدان التنوع البيولوجي واستنزاف الموارد والتلوث وتغير المناخ، وتبرز الحاجة إليها أكثر في قطاعات الزراعة والبناء والطاقة.
تتسم المهارات الخضراء بالاستدامة والقدرة على الصمود في أوقات عدم اليقين الاقتصادي، لأنها ترتبط بالعمل المناخي الذي يتطلب سلسلة كبيرة من الإجراءات على مدى عقود مقبلة. ومع تأكيد الهيئة الحكومية الدولية المعنية بتغير المناخ التابعة للأمم المتحدة ضرورة اتخاذ إجراءات سريعة خلال العقد الجاري للسيطرة على تغير المناخ، ستزداد الجهود المبذولة بشأن المناخ كثيراً لتخلق معها فرص عمل جديدة، إذ تتوقع منظمة العمل الدولية أن يخلق التحول إلى الاقتصاد الأخضر 24 مليون وظيفة جديدة عالمياً بحلول عام 2030، ما يعوّض إلى حد كبير أي فقدان للوظائف.
فجوة العرض والطلب
تشير الدراسات إلى أن الطلب على الوظائف الخضراء يفوق عدد المهارات المناسبة لهذه الوظائف، إذ عبّر نصف المشاركين في استطلاع أجراه مختبر دافوس التابع لمنتدى الاقتصاد العالمي عام 2021، عن شعورهم بعدم امتلاك المهارات اللازمة لإيجاد وظيفة لائقة خلال 5 – 10 سنوات مقبلة، وهي الفترة التي سيكون فيها لسياسات مواجهة تغير المناخ دور بارز في إعادة تشكيل سوق العمل.
وفي حين توصل تقرير المهارات الخضراء العالمية لعام 2023 الصادر عن لينكد إن، الذي حلل حسابات من 48 دولة، إلى أن عدد المواهب التي تتمتع بالمهارات اللازمة للمساعدة في معالجة أزمة المناخ زاد بنسبة 12% بين عامي 2022 – 2023، في المقابل، نما عدد الوظائف المنشورة خلال الفترة نفسها التي تتطلب مهارة خضراء واحدة على الأقل بسرعة مضاعفة تقريباً، لتصل إلى 22.4%.
وبما أن واحداً فقط من كل 8 أشخاص حالياً يمتلك مهارات ذات صلة بالحد من أزمة المناخ؛ فكانت فرصة حصول الباحثين عن عمل من ذوي المهارات الخضراء أكبر بنسبة الثلث تقريباً مقارنة بمتوسط القوى العاملة.
على الرغم من أن الدول النامية والمناطق المهمشة أكثر عرضة لتغير المناخ من الدول المتقدمة فإنها تفتقر إلى العمالة التي تمتلك المهارات اللازمة لشغل الوظائف الخضراء، إذ أظهر استطلاع أجرته منظمة بلان إنترناشيونال المعنية بحقوق الأطفال والشباب، شمل 2,229 شخصاً من 53 دولة تتراوح أعمارهم بين 15 و30 عاماً، أن نسبة من يشعرون بكفاءتهم لشغل الوظائف ذات الصلة بمواجهة التغير المناخي تقتصر على 29% فقط، على الرغم من أن 94% منهم مُعرَّضون بصورة مباشرة للمخاطر المناخية لا سيما تغير درجات الحرارة، ومعدلات هطل الأمطار.
ومن النتائج الرئيسية التي توصل إليها الاستطلاع أيضاً، كانت الفجوة بين الجنسين، إذ أفاد 25% من الفتيات بأنهن أقل إلماماً بالمهارات الموضوعة على قائمة الأولويات، مقارنةً بـ 35% من الذكور.
نتيجة مماثلة سلطت عليها الضوء منصة لينكد إن في تقريرها عن الفجوة الخضراء بين الجنسين لعام 2023، في حين أن امرأة واحدة فقط من بين كل 10 نساء تمتلك ما لا يقل عن مهارة خضراء واحدة، تبلغ هذه النسبة بين الرجال 1 من كل 6، وخلال السنوات السبع الماضية اتسعت الفجوة بنسبة 25%، لنجدها أيضاً في الأدوار القيادية، فهناك تمثيل ناقص للنساء اللاتي يؤسسن شركات تركز على قضايا المناخ، أو اللاتي يشغلن مناصب تنفيذية في مثل هذه الشركات. التحدي الحقيقي أمامنا هو التأكد من جعل عملية الانتقال شاملة، ليس للنساء فقط، بل لجميع الأشخاص.
يجري التركيز غالباً على الجانب التقني من المهارات الخضراء مثل الكيمياء لتصنيع البطاريات وتصميم التغليف أو الجانب الإداري مثل حساب معدل انبعاث الكربون لأن الشركات يجب أن تكون مسؤولة عن انبعاثات النطاق 3 الخاصة بها، لكن في المقابل يجري تجاهل القدرات البشرية الأساسية التي تعتمد على مجموعة من المعارف والمواقف التي تسهل اتخاذ القرارات المستدامة بيئياً مثل حل المشكلات والتفكير النقدي الذي يساعد على تقييم فعالية المبادرات البيئية وتعزيز تأثيرها، أو مهارات التواصل التي تسهم في توسيع قاعدة أصحاب المصلحة والأفراد الداعمين للقضايا البيئية.
تتطلب المهارات الخضراء أجراً مرتفعاً ومستوى عالياً من التعليم والتدريب والخبرتين المهنية والعلمية، لأنها تنطوي على مهام تحليلية غير روتينية، وبحسب دراسة أعدّها معهد غرانثام للأبحاث التابع لكلية لندن للاقتصاد، فإن الوظائف في المجالات المنخفضة الكربون تحتاج إلى مهارات تكنولوجية وإدارية أعلى من الوظائف الأخرى، وأن أجور الوظائف المنخفضة الكربون لم تكن الأفضل، في حين أصبح التداخل الجغرافي بين الوظائف المنخفضة والمرتفعة الكربون محدوداً.
كيف ننمي المهارات الخضراء؟
لا يمكن تلبية الطلب المتزايد على الوظائف الخضراء إلا من خلال إعادة تشكيل المهارات، فأصحاب العمل والموظفون بحاجة إلى المعرفة والقدرات التي تساعدهم إما لحماية البيئة أو الحفاظ على الموارد أو إزالة الكربون.
تحتاج ردم فجوة المهارات الوظيفية الخضراء إلى نهج متعدد الأوجه، يتضمن تطوير البرامج التعليمية وتوسيعها والتدريب المهني الذي يركز على المهارات والتكنولوجيات الخضراء، والتعاون مع أصحاب المصلحة، ودعم السياسات لتزويد الأفراد بالمعرفة والخبرة اللازمتين لبناء مستقبل مستدام، والربط بين استراتيجية تنمية المهارات والسياسات البيئية.
وشهدت المنطقة العربية عدة مشروعات قامت بها الحكومة أو الشركات، لتمكين الشباب من المهارات الخضراء؛ ففي عام 2022 أطلقت الإمارات برنامج "القيادات الشابة لدعم التنمية المستدامة"، الذي يهدف إلى تزويد الشباب بالمعارف اللازمة، وتمكينهم من الإسهام في خطط التنمية المستدامة. وتقدم الهيئة الاتحادية للموارد البشرية الحكومية برامج تدريبية متخصصة بتوعية الموظفين بشأن مهارات الاستدامة وتشجيعهم على المشاركة في جهود الدولة للتحول إلى الاقتصاد الأخضر، وتنظم جمارك دبي فعاليات ومسابقات للموظفين في الابتكار والاستدامة تحت شعار "نبتكر معاً لمستقبل مستدام".
وفي السعودية، يتعاون المركز الوطني لأبحاث وتطوير الزراعة المستدامة "استدامة" مع الجهات التعليمية لتدريب الطلاب على المهارات ذات الصلة بالعمل البيئي وتوعيتهم بقيم العمل المستدام، وربط ما يدرسونه ببيئة العمل على أرض الواقع.
وفي مصر، أُطلقت مجالس المهارات القطاعية لمواءمة العرض مع الطلب في سوق العمل عبر التخطيط لفرص التعليم والتدريب المهني للاستجابة إلى الوظائف الخضراء الجديدة وجعل المهن القائمة صديقة للبيئة.
الاستثمارات وحدها لا تخلق طاقة نظيفة أو منتجات صديقة للبيئة، الأهم من ذلك هو بناء قاعدة المهارات اللازمة لخلق المواهب الخضراء، التي من دونها لا يمكن تطوير صناعات جديدة وجعل المنازل والمباني التجارية أكثر كفاءة في استخدام الطاقة.