كيف تنظم المجتمعات مصحالها المشتركة وتواجه خيباتها؟

تنظيم المجتمع
shutterstock.com/Photobank.kiev.ua
استمع الى المقالة الآن هذه الخدمة تجريبية
Play Audio Pause Audio

أضحى عمل الخير مهنة في أيامنا هذه، حيث يعمل 13 مليون شخص في المؤسسات غير الربحية في الولايات المتحدة وحدها. كما يعمل الملايين في الهيئات الحكومية والشركات الربحية في سبيل تحقيق عالمٍ أفضل. يحتاج أولئك العاملون (أي نحن) إلى الكثير من النُهج لمواجهة حالة التعقيد التي يشهدها العالم.

وهذا ما دفعني إلى كتابة كتاب “مجموعة الأدوات: استراتيجيات لصياغة التأثير الاجتماعي”. أبحثُ في كتاب “مجموعة الأدوات” 9 استراتيجيات مختلفة للوصول إلى عالم أفضل، من النمذجة الرياضية إلى سرد الروايات إلى التفكير التصميمي إلى علم الأنظمة المعقدة.

وأخذتُ هذا المقتطف من الفصل الخاص بإحدى استراتيجياتي المفضلة، وهي تنظيم المجتمع. توحي عبارة “تنظيم المجتمع” بحد ذاتها بمفارقة. “المجتمع” هو أكثر الموضوعات الذي تلقي عليه الطبيعة البشرية بظلالها ولا يمكن لأي وصف أن يحيط بمعانيه، فهو نسيج معقد من خيوط المكان واللغة والتاريخ. وكلمة “تنظيم” تشير إلى شبكات متينة وتسلسلات هرمية صارمة وتصف محاولة فرض النظام على الفوضى.

وتشير عبارة “تنظيم المجتمع” إلى المعنيين كليهما في أفضل الحالات على الرغم من التناقض الضمني. فتنظيم المجتمع ما هو إلا فن تنظيم المصالح المشتركة وخيبات الأمل والتطلعات لمجموعة من البشر. وذلك ليس بالمهمة البسيطة وبخاصة في عالم تغير فيه التكنولوجيا الطريقة التي نتواصل بها على نحو سريع. ويواجه تنظيم المجتمع مجموعة من المعضلات الصعبة في الوقت الذي يتم فيه طباعة كتاب “مجموعة الأدوات“. ويبحث هذا المقتطف في أربع من تلك المعضلات.

تحتاج أدواتنا الاستراتيجية جميعها إلى التجديد، فقد أصبحت بالية من كثرة الاستخدام. وفي ظل عالم متغير، نحتاج إلى أدوات متعددة في متناول اليد. فعالمنا المعقد يتطلب ذلك، وهو عالم رائع ويستحق منا ذلك. جاكوب هارولد

أربع معضلات تواجه تنظيم المجتمع في القرن الحادي والعشرين

بدأت عملية تنظيم المجتمع منذ فجر التاريخ، حيث تطورت منذ آلاف السنين لتلائم خصائص العصور المتعاقبة. ولا بد أن يستمر تطور التنظيم نظراً لخصوصية القرن الحادي والعشرين الفريدة. سنتحدث أدناه عن أربع معضلات (أو ضغوط) تواجه تنظيم المجتمع في عصر تتنامى فيه أهمية العمل الجماعي.

التكنولوجيا

يشير التنظيم أساساً إلى التواصل البشري، وقد تغيرت طبيعة التواصل البشري مع تطور طبيعة مجتمعاتنا. حيث تتيح لنا التكنولوجيا التواصل عبر مسافات شاسعة وبسرعة كبيرة وتكلفة زهيدة.

يمكننا الاستفادة من جميع أنواع الاتصالات التي أتاحتها التكنولوجيا، البسيطة منها وذات الإمكانات الكبيرة. وعلينا أن ندرك أننا يمكن أن نبني علاقات إنسانية حقيقية عبر الشاشة. لكن لا يمكننا أن نعيش تجربة إنسانية غنية عبر الشاشة كما لو كنا في نفس الغرفة، نتقاسم المكان نفسه والهواء نفسه. لا يوجد حل بسيط لهذه المعضلة، وعلينا الاعتراف بها على الأقل لكي نعرف كيف نتعامل معها.

شهدنا الكثير من الأمثلة على قوة وسائل التواصل الاجتماعي بوصفها آلية تنظيم. حيث اعتمدت حركات احتجاجية في بلدان عدة على وسائل التواصل الاجتماعي في تنظيمها. لكن ثمة دروس مستفادة وعِبر من هذا الحركات.

حيث تبين أن الكثير من التغييرات المتسارعة التي أثارتها هذه الحركات كانت عابرة، ونادراً ما حققت نتائج مستقرة. فمن السهل إيقاف تشغيل الإنترنت في منطقة جغرافية معينة. وقد تكون العواقب الاقتصادية لمثل هذا الإجراء كبيرة، لكنها في المقابل تخنق الحركات التي تعتمد على وسائل التواصل الاجتماعي. كما يمكن الحد من قدرة وسائل التواصل الاجتماعي كآلية شعبية عبر الرقابة والدعاية المنهجية المضادة.

ويمكن لحملات تنظيم المجتمع المدارة عبر التكنولوجيا أن تلحق الضرر بنفسها دون أي تدخل خارجي. فعلى سبيل المثال، غالباً ما يجد المواطنون الأسخياء أنفسهم غارقين في رسائل البريد الإلكتروني الخاصة بجمع التبرعات. حيث وصف المُنظم ماريو لوغاي الكم الهائل من رسائل البريد الإلكتروني بأنها “أكثر أشكال التواصل أنانية”. فهي ذات اتجاه واحد لا غير، من المركز (المرسِل) إلى المحيط (مجموعة المرسَل إليهم). والتحفيز القصير الأمد لكل رسالة يعمل على زيادة العوائد المالية،

لكن قصر النظر هذا يؤدي إلى الكثير من العواقب السلبية الطويلة المدى.

أولاً، يخلق علاقة استغلالية بين المؤسسة ومجتمعها. ففي حال كانت جميع رسائل البريد الإلكتروني طلبات لجمع التبرعات، فسيشعر المتبرعون أنه لا يُنظر إليهم إلا كأصحاب حساب مصرفي.

ثانياً، تتفاقم مساوئ هذه الآلية بسبب الأساليب الجديدة التي تستغل المشاعر الإنسانية والتحيزات المعرفية دون خجل. (مثل الأساليب التي تستعمل عبارات جذب على غرار “قد تفاجئك هذه الحيلة”؛ “إنها الفرصة الأخيرة! ينتهي العرض خلال 24 ساعة!”؛ و”خمسة أشياء يجب أن تعرفها عن”، وما إلى ذلك).

ولا شك في أن أساليب الاستهداف والتحليل المتطورة ذات فوائد على المدى القصير للكثير من المؤسسات. لكن تبعاتها على المدى البعيد تفضي إلى تقويض مفهوم العلاقة الهادفة بين المؤسسة وداعميها.

لذلك فهي عبرة في أكثر من جانب. فقد يشعر المتبرعون بالجفاء وأن علاقتهم هي علاقة تجارية بحتة. وتتسم هذه الأساليب بالقدرة على تقويض إحساس الداعم بالفاعلية الذي يُعد بالغ الأهمية لتنظيم المجتمع.

نحن نجازف عندما نُضعف الثقة بدلاً من أن ننمي المشاركة. ونظراً لاستخدام التكنولوجيا في التنظيم، علينا أن ننظر إلى أبعد من التعامل الوحيد ونركز على علاقات دائمة.

صناعة القرار

يمكن أن تؤدي الطريقة التي يضع فيها المنظم هيكلية صناعة القرار إلى نجاح الحملة أو المؤسسة أو إخفاقهما. فالقرارات الصائبة تنتج تأثيراً أكبر، وللقرارات السريعة أهميتها في بيئة العمل المتغيرة. لكن صناعة القرار في التنظيم المجتمعي تكون معقدة بطبيعتها لأنك تحاول تمكين الآخرين لتشكيل مجتمع أفضل بطريقة يعمل بها الجميع معاً لإنشاء هذا المجتمع.

دعونا نلقي نظرة على الطريقة التي اتخذت بها حركة أوكيوباي وول ستريت (Occupy Wall Street) قراراتها. كانت حركة أوكيوباي وول ستريت ديمقراطية بشكل أساسي في عملياتها. وبذلت جهداً مدروساً كي لا تطغى رؤية القادة الفرديين على أفكار العمل الجماعي والأهداف المشتركة ومرونة المجتمع. وكان لهذا القرار تبعات استراتيجية، لأن الجماهير ووسائل الإعلام التي لم تجد أبطالاً فرديين لمتابعة خطواتهم واجهت صعوبات كبيرة في فهم سردية حركة أوكيوباي وول ستريت.

وفي الوقت نفسه مثلت الحركة تجربة رائعة بطريقة جديدة لإدارة المجتمع. حيث اتُخذت القرارات في “جمعية عامة” ضمت جميع المشاركين. أثبتت حركة أوكيوباي وول ستريت أنه من الممكن اتخاذ القرارات والحفاظ على المجتمع بالإضافة إلى التأثير على العالم من حولها دون اللجوء إلى الهياكل الهرمية. لكن لم تمر تلك التجربة دون ثمن. كتب أحد منظمي حركة أوكيوباي وول ستريت جوناثان سموكر الآتي: “لم تكن الجمعيات العامة منتديات عملية لاتخاذ القرار الفعلي. وكانت مرهِقة للغاية ومن السهل انحرافها عن مسارها، لذا توقف العديد من منظمي حركة أوكيوباي وول ستريت الأكثر نشاطاً، بمن فيهم أنا، عن الانضمام إليها”.

أعتقد أنه سيتردد ذكر حركة أوكيوباي وول ستريت عبر التاريخ نظراً لأنها مثلت محطة محورية في السعي نحو تحقيق اقتصاد عادل. لكن تجربتها أثبتت أن الديمقراطية الخالصة يمكن أن تسفر عن مشاركة ضئيلة في ظل ظروف معينة. إذ نجحت هيكلية صناعة القرار على المدى القصير لكنها فشلت على المدى الطويل. يتعين على القادة جميعهم بمن فيهم منظمو المجتمع أن يوازنوا بين الكفاءة والمشاركة.

الحركات التي تأكل أولادها

لطالما وجهت الحركات الاجتماعية أشد أنواع نقدها اللاذع لنفسها. وغالباً ما تكون التفاصيل الأيديولوجية الدقيقة مصدراً لأسوأ المعارك الداخلية. سخرت فرقة مونتي بايثون (Monty Python) من هذه الظاهرة في فيلمها الساخر “ذا لايف أوف برايان” (The Life of Brian). حيث يقول في الفيلم زعيم مجموعة مناهضة للرومان: “اسمع، نحن نحمل كرهاً لأنفسنا أكثر مما نحمله للرومان”.

النقاش الداخلي حالة ضرورية وصحية لكن إلى حد معين. ومن الحقائق التاريخية الصادمة أن الذين يكرسون جهودهم لتغيير العالم يوجهون طاقة هائلة إلى الاقتتال الداخلي بدلاً من توجيهها لجهود التغيير.

ثمة طريقتان لتعديل طريقة تفكيرنا لتفادي هذه المعضلة.

أولاً، الاعتراف بأن تنوع وجهات النظر يزيد من قوة التحالف أو المؤسسة. وهي وجهة نظر مفيدة عملياً وليست من باب الأخلاقيات، لأنه من الأفضل استراتيجياً أن تحظى بمجموعة متنوعة من وجهات النظر المتحالفة معاً.

ثانياً، تفرض بعض المراحل عدم القدرة على استيعاب كل وجهات النظر، لكننا بحاجة إلى احترام إنسانية الذين نختلف معهم، ويجب أن تعكس الطريقة التي نتعامل بها مع الآخرين العالم الذي نتطلع إلى بنائه.

تقترح لوريتا روس نهجاً وثيق الصلة بالصراع الداخلي للحركات فتقول: “عندما يتصرف أحدهم تصرفاً مضراً، “ادعُه إلى الحوار” بدلاً من “انتقاده””. وترى روس بأنه من الأكثر فعالية أن نخلق مجالاً للحوارات غير العلنية التي توضح كيف يمكن أن يتسبب تصرف بعينه في الضرر بدلاً من الميل إلى الهجوم العلني على الشخصية. كما يمكن تطبيق الفكرة نفسها عند محاولة تغيير سلوك مجموعة تُعد هدفاً استراتيجياً للحركة. ففي حال لم يعجبك تصرف أحدهم، حاول إخباره على انفراد قبل مهاجمته في الأماكن العامة.

وعموماً يمكن أن تقضي النرجسية المبنية على الاختلافات الصغيرة على هذه الحركات. فهي تشتت تركيز الذين يحاولون بناء عالم أفضل وتسبب لهم ألماً كبيراً. فلدينا أمور أهم من توجيه الإهانات، وإلغاء الآخرين، وحلبات الصراع. وعوضاً عن ذلك، علينا تعزيز أخلاقيات تحمل المسؤولية عن الحركة الاجتماعية التي يشكل التعلم والتسامح والتنوع ركائزها الأساسية.

القوة السياسية والاحترام الثقافي

من غير الواضح كيف ستنمو القوة السياسية في الجيل القادم من الحركات الاجتماعية في العقد الثالث من القرن الحادي والعشرين. غيرت الحركات الأخيرة مثل “حياة السود مهمة” في السردية ولكن تأثيرها ما زال متواضعاً في السياسة حتى الآن. فتغيير السردية هو بداية وليس غاية.

ونحن ببساطة لا نعرف ما هي التغييرات التي تنتظرنا. حيث شهدت الانتفاضات الشعبية ضد الاستبداد في جميع أنحاء العالم انتشاراً هائلاً وتأثيراً هادفاً. واستطاعت إجراء تغييرات مهمة على الصعيد السياسي. وفي أماكن أخرى كانت انتصاراتهم عابرة. يجب ألا نتوهم أن القوى الراسخة ستستسلم بسهولة.

وفي عصر الاستقطاب السياسي، أصبح التنظيم أيضاً متشابكاً مع السياسة الثقافية. فمن الصعب الآن التمييز بين التنظيم من أجل قضية والتنظيم من أجل حقوق العمال والتنظيم من أجل الانتخابات. وسرعان ما تولد هذه الضبابية الشكوك، حيث تنكر الروايات المزيفة “لمفتعلي الأزمات” و”المتظاهرين المأجورين” صحة التحديات التي نواجهها والجهود المبذولة لمعالجتها.

ما العمل إذاً؟ يحدث التغيير الدائم عندما تتمكن جماعة من أن تتمتع بقوة كافية لإزاحة العالم القديم عن عرشه. يمكننا بناء تلك القوة بمرور الوقت، وسأقترح ثلاث طرق.

أولاً، يمكن للتنظيم على المستوى المحلي أو ضمن مجتمعات محددة أن يخلق قاعدة سياسية ومجتمعية مستقرة، التي تُتيح المجال لإجراء تغييرات ملموسة (مهما كانت صغيرة) يمكن لصانعي التغيير أمثالنا البناء عليها. إذ يحقق العمل على المستوى المحلي الانتصارات ويعزز القوة ويخلق نوعاً من الزخم الثقافي الذي يمكنه ضمان استمراريته بمرور الوقت.

ثانياً، يمكن للتشجيع على سرد الروايات الجديدة أن يحول مسار النقاشات ويزرع بذور التغيير. فالانتصارات التي حققتها “أوكيوباي وول ستريت” و”حياة السود مهمة” في تغيير السردية بدأت للتو في الظهور. وقد شهدنا جيلاً جديداً من القادة الاستثنائيين مثل غريتا ثونبرغ وفانيسا ناكاتي وملالا يوسفزي. في الواقع، ثمة الملايين من الشخصيات الجديدة في سرديتنا المشتركة. يكتشف الناس كل يوم في احتجاجات الشوارع واجتماعات الأقبية شرارة هوية جديدة وهدف جديد. وعلى طريق المستقبل، سوف يبتكرون طرقاً جديدة لتنظيم التجربة البشرية.

ثالثاً، الحرص على أن يكون تنظيمنا مستنداً إلى أرقى السمات الإنسانية. نحن نغير أنفسنا على نحو أفضل عندما يحذونا الأمل، ونلتمس إمكانية تحقيق عالم أفضل، ونبدي أرقى الصفات النبيلة، ونلقي الضوء على الصلة بين الحياة اليومية والأنظمة الأوسع التي تؤثر فيها. وهذا هو الوقود الذي يغذي تنظيم المجتمع، سواء كان حركة اجتماعية واسعة أو مشروعاً مجتمعياً صغيراً.

يمكنكم الاطلاع على النسخة الإنجليزية من المقال من خلال الرابط، علماً أنّ المقال المنشور باللغتين محمي بحقوق الملكية الدولية. إنّ نسخ نص المقال دون إذن سابق يُعرض صاحبه للملاحقة القانونية دولياً.