يبدأ إحداث الفرق من النطاق المحلي، عندما يتبرع الفرد لمشاريع محلية بهدف تحسين اقتصاد منطقته. فالأموال التي يتبرع بها لجمعية خيرية ببلدته تساعد في رفع المستوى المعيشي للأشخاص المحيطين، لذا تتزايد أهمية تنظيم السكان المحليين لمواجهة المشاكل التنموية.
عند العمل على برامج تنموية، يصطدم صانعو السياسات بالصراع بين مجموعات تسعى إلى حماية جودة المجتمع، وأخرى تعمل لاستغلال الموارد المحلية كوسيلة لتحقيق التنمية؛ ما دفع السكان المحليون للقيام بدور أكبر في تقديم الخدمات والتخطيط للاحتياجات المستقبلية، وتحديد خيارات التنمية الجديدة في مناطقهم.
الآثار الاقتصادية للمشاركة المجتمعية
في حين أن التبرع لأي مؤسسة خيرية مفيد؛ إلا أن تبرع الفرد لجمعية خيرية في منطقته، سيؤثر في محيطه مباشرةً؛ إذ يساعد التمويل الذاتي المستمر في خلق بيئة مواتية لتوفير فرص عمل دائمة، وتوصلت الباحثة المصرية إيناس محمد الجعفراوي من خلال دراسة بعنوان: أثر التبرعات على خلق بيئة مؤهلة لتوفير فرص عمل: دراسة تطبيقية على قرية تفهنا الأشراف النموذجية، إلى أن تحويل الوقف إلى استثمارات على المرافق الأساسية كالتعليم والصحة والبيئة والخدمات، أسهم في تحسن نوعية الحياة في القرية، وخلق مناخاً صالحاً لتحقيق أهداف عملية التنمية عن طريق رفع المستوى التعليمي والصحي والبيئي والخدمي وتوفير حياة كريمة للمجتمع.
تجربة القرية المصرية التنموية
تُعد التجربة التنموية لقرية تفهنا الأشراف، الواقعة في مركز ميت غمر بمحافظة الدقهلية المصرية، تجربة متكاملة متدرجة من الأسفل للأعلى، مع مراعاة التكامل والاستمرارية في توحد مجتمع القرية ومشاركته لحل جميع مشكلات مجتمعهم، متخذين اتجاه تنموي قائم على تغيير قيم المجتمع نحو التكامل الاجتماعي؛ إذ كانت القرية تعاني من عدة مشاكل أبرزها الفقر، وانخفاض مستوى المعيشة والوعي الصحي، وانتشار الأمية وهجرة المتعلمين من الريف إلى المدينة.
بدأت قرية تفهنا الأشراف نهضتها نهاية السبعينات وأوائل الثمانينات؛ عندما اجتمع الشباب المتعلم ورجال الأعمال من أبناء القرية لوضع رؤية مشتركة لإنجاز مشروع تنموي اقتصادي واجتماعي أساسه مشاركة فعّالة ووعي مجتمعي مرتفع. تبرع بعض رجال الأعمال بالقرية بكامل أرباح ثلاث مصانع لعلف الدواجن للمركز الإسلامي بالقرية، ما حفّز باقي أهالي القرية على التبرع سواء بالأموال أو قطعة ذهب أو رأس ماشية أو قطعة أرض أو حتى بالعمل البدني لبناء المؤسسات في القرية، وقُّدِر تمويل المشروعات والمؤسسات في البداية بملياري جنيه.
وظّف المركز الإسلامي التبرعات في كسر حلقة الفقر في القرية انطلاقاً من التعليم؛ فعمل على إقامة معاهد أزهرية وتوفير حافلات مجانية لنقل الطلاب من القرى المجاورة، مع إعطاء أولوية لإنشاء معهد ابتدائي أزهري للفتيات يسع ألفي طالبة، إضافةً إلى إنشاء عيادة إسلامية عام 1987، وكليات لتوفير تكاليف الدراسة خارج القرية، وغيرها من المشاريع التي أسهمت في تشغيل خريجي القرية بالمؤسسات المُقامة، وتشجيع أهالي القرية على إقامة مشروعات صغيرة، فضلاً عن تأمين مصادر مولدة للدخل على المديين المتوسط والطويل عبر تشغيل المشروعات التي تلبي احتياجات الطلاب النازحين للجامعة مثل السكن، والبقالات، والمطاعم والمطابع ومكتبات التصوير وغيرها.
وشملت الإنجازات التنموية في القرية، إقامة محطة للقطار بالتعاون مع جهود الدولة في مد الكهرباء للقرية وزيادة المحولات الكهربائية لتكفي القرية لخمسين سنة مقبلة، وكذلك إشهار جمعية صلاح الخيرية عام 2004 لتدريب وتشغيل العمالة على الحِرف، ورعاية الأيتام والفقراء بتوفير الملابس وزي المدارس ومتطلبات الزواج، وتوزيع مواشي على السيدات الأرامل بالقرية من أجل تأمين مصدر دخل ثابت لهن قابل للنمو.
رحلة التنمية التي مرت بها قرية تفهنا الأشراف، تؤكد أنه يصعب الخروج من دوائر الفقر، إلا من خلال الاستثمار في التعليم والصحة وبرامج الحماية الاجتماعية إلى جانب بناء إطار مؤسسي عادل قائم على الشفافية يعمل على تفعيل الفقراء في اتخاذ القرارات المتعلقة بصناعة غد أفضل. وهو ما يتطابق مع دراسات البنك الدولي المهتمة بقضايا الفقر، والتي تؤكد وجود علاقة تبادلية بين القضاء على الفقر وتوفير التعليم الأساسي للجميع.
رسم خطط المستقبل بمساعدة السكان
تُكرس المجتمعات الذكية الوقت والموارد لتثقيف مواطنيها وإشراكهم مع المؤسسات والشركات في فهم التحديات وتحديد الحلول والتخطيط لمستقبل أفضل، على سبيل المثال، ينمو سكان مدينة الشاطئ المشمس (Sunshine Coast) في شرق أستراليا، بمعدل 8 آلاف نسمة سنوياً وسيستمر هذا المسار حتى عام 2041، ما دفع مجلس المدينة لوضع استراتيجية 2019- 2041 كإطار عمل واضح للتكيف مع التغيير والحفاظ على اتساق المجتمع داخل المدينة، وركزت الاستراتيجية على تمكين الأفراد من عيش أنماط حياة صحية، وخلق أماكن ومساحات مجتمعية شاملة ونابضة بالحياة، يسهل الوصول إليها وتفي باحتياجات الناس من جميع الأعمار والقدرات والخلفيات، فضلاً عن رعاية الأساليب الإبداعية والمبتكرة لبناء مجتمع قوي.
من خلال مجموعات التركيز، ومنتديات أصحاب المصلحة، والدراسات الاستقصائية عبر الإنترنت، ووسائل التواصل الاجتماعي؛ شارك نحو 1600 من أفراد المدينة وأصحاب المصلحة بأصواتهم وأفكارهم لخلق رؤية مشتركة حول استراتيجية المستقبل.
تتمثل المشاركة المجتمعية للمواطنين في أن يقدموا دوراً ذا مغزى في المداولات والمناقشات وصنع القرار وتنفيذ المشاريع أو البرامج التي تؤثر في حياتهم. وعليه، يحتاج القادة التنظيميون والحكوميون إلى توسيع إطار مسؤولياتهم ليكونوا بمثابة مُيسِر وداعم ومتعاون لتمكين المواطنين من المشاركة في حل القضايا بطريقة أكثر فاعلية.
تغيير طريقة معالجة التحديات وإدارة الأزمات، يساعد في استثمار المشاركة المجتمعية لتحقيق عدة فوائد، ومنها:
- زيادة احتمالية قبول المشاريع أو الحلول على نطاق واسع: يُظهر المواطنون المشاركون في التنمية التزاماً كبيراً للمساعدة في تحقيق المشاريع.
- خلق المزيد من الحلول الفعّالة: يخلق الاعتماد على المعرفة المحلية حلولاً عملية.
- تحسين معرفة المواطنين ومهاراتهم في حل المشكلات: تعمُق المشاركين بالمعرفة حول القضايا التي تواجههم، يُوسِع رؤيتهم ويساعدهم في اتخاذ القرار السليم.
- إنشاء شبكات محلية لأفراد المجتمع: كلما زاد عدد الأشخاص المدركين والراغبين في العمل على هدف ما؛ زاد احتمال نجاح المجتمع في تحقيق أهدافه.
- خلق العديد من الفرص لمناقشة المخاوف: تسمح النقاشات المستمرة للأفراد بالتعبير عن مخاوفهم قبل تفاقم المشاكل أو خروجها عن السيطرة.
- زيادة الثقة في مؤسسات المجتمع والحوكمة: يُحسن العمل الجماعي من التواصل والفهم. ويساعد تحديد ما يمكن للحكومة ومواطني المجتمع المحلي والقادة والمؤسسات القيام به وما لا يمكنهم فعله، في تقليل الصراع مستقبلاً.
إذن، تنظيم السكان المحليين للمساعدة في تشكيل التنمية المحلية يجعل النتائج أكثر كفاءة ونجاح، فالأمر لا يتعلق بالمفهوم المثالي والعاطفي للتضامن، وإنما بالفعل المُركز الذي يخلق أثراً مستداماً.
هذا المقال نُشر بناءً على أبحاث من منصة "ساهم".