كيف تسهم الأعمال الخيرية في دعم الزراعة البيئية؟

6 دقيقة
نظام غذائي مستدام

نحن نعرف بالفعل كيف نستثمر في أنظمة غذائية تحقق العدالة والاستدامة وتسهم في تعزيز القدرة على التكيف مع تغير المناخ. على الرغم من وضوح مخاطر الزراعة الصناعية وفوائد أنظمة الزراعة البيئية، فإن معظم الاستثمارات لا تزال تدعم الحفاظ على الوضع الراهن، الذي يتمثل في زيادة استخدام الأسمدة والمبيدات المستوردة واعتماد ممارسات الري الآلي، على الرغم من تكلفتها الباهظة وعوائدها المحدودة. يؤدي تجاهل استخدام الأسمدة الطبيعية الفعالة وإهمال الزراعة المتعددة المحاصيل وممارسات إدارة الموارد المائية، التي تمثّل طرقاً فعالة من حيث التكلفة لإنتاج محاصيل متنوعة، إلى عرقلة الحلول الإبداعية بسبب التفكير القصير المدى والاستثمارات القصيرة الأجل.

يؤدي التركيز على تعزيز الاقتصاد الغذائي العالمي وسلاسل القيمة التصديرية التي تعزز  بدورها الاعتماد على الوقود الأحفوري، إلى تجاهل الأسواق المحلية والأسواق التي يديرها القطاع العام. في الوقت نفسه، يؤدي التحول السريع نحو تقليص تنوع الأطعمة في أنظمتنا الغذائية، حيث تهيمن المحاصيل التي تزرع في أنظمة الزراعة الأحادية على الإنتاج الزراعي، إلى إلحاق الضرر بالبيئات الطبيعية والثقافات والصحة العامة، مع تهميش الأنظمة الغذائية المحلية المتنوعة التي يتجاهلها المستثمرون.

في إفريقيا، تُظهر الأطعمة المغذية التي يتناولها مئات الملايين من الناس، مثل الكاسافا والبطاطا الحلوة والدُّخن، إمكانات الزراعة البيئية على نطاق واسع. ولكن نظراً لاستمرار شركات الكيماويات الزراعية في تسويق تكنولوجياتها التي تملكها بفعالية للحكومات والمزارعين والمؤسسات التنموية بوصفها الحل الأمثل للمضي قدماً، فإن المستثمرين ووكالات الإغاثة والحكومات يواصلون الاستثمار في الأسمدة الكيماوية والمبيدات والبذور المحسّنة ودعمها، ويتجاهلون فرص الاستثمار في سلاسل القيمة والاحتياجات الائتمانية المرتبطة بالمحاصيل المتنوعة والمحلية والأصلية.

تقدم الزراعة البيئية نموذجاً استثمارياً بديلاً يمهّد الطريق نحو اقتصاد غذائي جديد يعتمد على معارف الأجداد، إذ يمكن أن يوجه العمل الخيري والحكومات والمستثمرين من القطاع الخاص نحو إنشاء الاقتصادات الدائرية المحلية وتعزيز استقرار ملكية الأراضي والحفاظ على التنوع البيولوجي الزراعي وصحة التربة.

نوفر هنا مجموعة من الفرص الاستثمارية في مجال الزراعة البيئية لإحداث تحول جذري في النظام الغذائي.

1. لا تركز على سلاسل القيمة التصديرية فقط

تركز استراتيجيات التنمية الزراعية غالباً على تحقيق هدف واحد نبيل، وهو تحسين دخل المزارعين. ولكن في كثير من الأحيان، تؤدي العواقب السلبية لهذا النمط من التفكير إلى تحفيز أصحاب المزارع الصغيرة على استخدام المواد الكيماوية المدعومة في حقولهم، وتشجع الزراعة العائلية التي تركز على التنوع البيولوجي على الدخول في سلاسل السلع التصديرية. على الرغم من أن ارتفاع تكاليف المواد والعقود غير المستقرة والأسعار المتقلّبة يمكن أن تعرّض المزارعين للخطر، فإن أصحاب المزارع الصغيرة الذين ينتجون أغذية متنوعة وصحية لتحقيق الأمن الغذائي يواجهون صعوبة في تسويق منتجاتهم ذات الجودة العالية في الأسواق المتاحة.

مع زيادة الوعي بأن معظم المستهلكين لا يزالون يعتمدون على المزارعين الذين ينتجون المحاصيل الأساسية، مثل البطاطا الحلوة والذرة والدخن وموز الجنة (plantains)، في الأسواق المحلية، فإن تلك الأسواق بدأت تحظى بالاهتمام مجدداً.

ماذا لو خصصنا القدر نفسه من الأموال التي نستثمرها في استراتيجيات التصدير الزراعي ودعم الأسمدة الكيماوية للاستثمار في المؤسسات التي تمثل مصالح المزارعين والمستهلكين والتي تتعاون مع الحكومات المحلية لتنشيط الأسواق الإقليمية المحلية؟

في المكسيك، يستثمر صندوق الزراعة البيئية في شبه جزيرة يوكاتان (FAPY بالإسبانية) في المشاريع والمؤسسات التي تقودها مجتمعات المايا والتي تعمل مع البلديات لدعم منتجات النظام الزراعي التقليدي المعروف باسم "ميلبا" (Milpa)، وهو نظام يعتمد على زراعة محاصيل متنوعة معاً، مثل الذرة والفاصولياء والقرع، إلى جانب تربية النحل لإنتاج العسل، ضمن سلاسل القيمة المحلية.

تخيل لو أن الحكومات استثمرت في دعم شبكات أصحاب المزارع الصغيرة الذين يلبون احتياجات الأسواق المحلية. على سبيل المثال، تركز سياسات المشتريات الغذائية التي تعتمدها الحكومة البرازيلية على شراء المنتجات الغذائية الأساسية من المزارع العائلية مع تبسيط متطلبات الشراء التي تسمح للمزارعين المنتسبين إلى شبكات مثل حركة العمال غير المالكين للأراضي (Landless Workers’ Movement) بتوفير الغذاء للأطفال في المدارس من محاصيلهم.

2. لا تركز على زيادة الغلة الزراعية فقط

تعتمد الاستثمارات الزراعية غالباً على مقياس واحد، وهو زيادة الغلة الزراعية من خلال استخدام المواد الكيماوية. تبدو هذه الفكرة منطقية عند النظر إلى المشكلة من منظور ضيق، وهو زيادة عدد سكان العالم بسرعة كبيرة وضرورة تحقيق الأمن الغذائي. على الرغم من ذلك، فإن نحو ثلث الأراضي الزراعية تقريباً تدهورت بسبب ممارسات الزراعة الصناعية، إذ أدى السعي لزيادة الغلة من خلال زيادة استخدام المواد الكيماوية إلى تدهور التربة واستنزاف مصادر المياه، ما يهدد الأجيال القادمة ويجعلهم أكثر عرضة للمجاعة وآثار تغير المناخ.

ماذا لو حصل المزارعون على تمويل ميسّر يعادل الاستثمارات الموجهة لتحسين الإنتاجية والغلة الزراعية واستراتيجيات تطوير المواد الكيماوية، مثل مبادرة مؤسسة ون إيكر فاند (One Acre Fund) من أجل استصلاح الأراضي ومصادر المياه المتدهورة؟  على سبيل المثال، تعمل مبادرة التربة الصحية من أجل المجتمعات الصحية (Healthy Soil Healthy Communities Initiative) ضمن التحالف من أجل السيادة الغذائية في إفريقيا (Alliance for Food Sovereignty in Africa) على تعزيز استخدام الأسمدة العضوية ومحسّنات التربة وتطويرها، ويشمل ذلك دعم الشركات لتوريد الأسمدة الحيوية العالية الجودة. وفي الهند، يدعم "صندوق بهارات للزراعة البيئية" (Bharat Agroecology Fund) مؤسسات نسائية، مثل جمعية تعزيز الإدارة التشاركية للنظم البيئية (SOPPECOM) لتعزيز حقوق الوصول إلى الموارد المائية وإدارة الموارد المستدامة من خلال جمعيات تديرها النساء اللواتي لا يملكن الأراضي في ولاية ماهاراشترا.

3. لا تركز على مشاريع حاضنات الأعمال فقط 

تمثّل الحاضنات والمسرّعات جزءاً مهماً وكبيراً في استراتيجيات التنمية الزراعية الحديثة. فمن خلال التدريب المكثف، تتلقى مجموعات صغيرة من رواد الأعمال دعماً فنياً وتمويلاً لمشاريع واعدة تركز غالباً على التصدير لأن التمويل قد يكون مرتبطاً بسداد القروض بالدولار أو اليورو. وتواجه هذه الاستراتيجية صعوبة في تطبيقها على نطاق واسع؛ إذ لا يزال 85% من أصحاب المزارع الصغيرة حول العالم يعانون صعوبة الحصول على التمويل الميسّر والدعم الفني.

ماذا لو كان حجم الاستثمارات في الحاضنات والمسرّعات مساوياً لحجم الاستثمارات في المؤسسات المالية المحلية المخصصة لتقديم قروض للمزارعين العاملين في مجال الزراعة البيئية؟

على سبيل المثال، يقدم صندوق التمويل الشعبي (FINAPOP) التعاوني  في البرازيل قروضاً للجمعيات التعاونية التي تهدف إلى دعم أصحاب المزارع الصغيرة، ومنها الجمعيات التعاونية النسائية، لدعم إنتاج المنتجات ذات القيمة المضافة مع تقديم المساعدة الفنية لدعم خطط الأعمال والتسويق. تأسس الصندوق في عام 2020 لمواجهة أزمة الأمن الغذائي الناجمة عن جائحة كوفيد-19، وقدم قروضاً بقيمة 13.7 مليون دولار أميركي لـ 25,000 أسرة تدير مشاريع زراعية بيئية صغيرة.

4. توقف عن التشكيك في الأنظمة الغذائية الأصلية

يتجاهل معظم استراتيجيات التنمية الزراعية الأنظمة الغذائية الأصلية بوصفها وسيلة لمواجهة أزمات الجوع الحالية، لكنّ تقليل الاستثمار في هذه الأنظمة قد تكون له عواقب سلبية، فهي تحافظ على تنوع المحاصيل المغذية التي باتت تختفي بسرعة ومن الصعب العثور عليها في المتاجر الكبرى، ما يعكس قدرتها على تحقيق التوازن بين الزراعة وحماية الطبيعة على مدار آلاف السنين. تتحدى هذه الأنظمة فكرة أن الزراعة الصناعية هي الحل الوحيد لمواجهة التحديات والمضي قدماً، وهو درس مهم في عالم يعاني كثافة سكانية وانتشار الأمراض المرتبطة بالغذاء.

ماذا لو استثمرنا في تمويل المشاريع والحملات المحلية التي تعمل على تنشيط الأنظمة الغذائية الأصلية بقدر ما نستثمر في الزراعة الصناعية العالمية؟ في شركة نياكازي أورغانيكس (Nyakazi Organics)في كينيا، يشتري الشباب الخضروات الإفريقية الأصلية (AIVs) المحلية والعضوية، وهي خضروات غنية بالعناصر الغذائية وتتميز بمذاقها المميز، من النساء المزارعات، ثم يجففونها ويعبئونها قبل بيعها في الأسواق المحلية. يشهد هذا العمل التجاري نجاحاً كبيراً بفضل عودة الاهتمام بالأنظمة الغذائية المحلية مع انتشار حملة "طعامي إفريقي" (My Food is African) في أنحاء القارة كافة.

تعزيز التعلم والتعاون لتوجيه الاستثمارات الصحية

هذا هو وقت التعلم. في السنوات الأخيرة، أنشأ تحالف الزراعة البيئية (Agroecology Coalition)، الذي يضم أكثر من 300 جهة حكومية واستثمارية، أداة تتبّع تمويل الزراعة البيئية وتقييمه (Agroecology Finance Assessment and Tracking Tool)، وذلك بهدف تقييم الاستثمارات وفقاً لمبادئ الزراعة البيئية، وهي إطار عمل بسيط يسمح للمستثمرين برؤية كيف يمكن أن تكون استثماراتهم أكثر تأثيراً في إنشاء أنظمة غذائية صحية.

تتطلب إعادة توجيه الاستثمارات نحو أنظمة غذائية صحية التركيز على مجموعة متنوعة من المقاييس والأساليب التي تشمل دعم الأسواق المحلية واستصلاح الأراضي المتدهورة وتوفير التمويل الميسّر ودعم المحاصيل الأصلية. قد يكون هذا المجال جديداً بالنسبة للعديد من المستثمرين، لكنه مليء بفرص السوق المُهملة، بالإضافة إلى المعارف والمهارات المحلية التي لم تحظَ بالتقدير الكافي. وإلى جانب ضرورة تعزيز التنوع البيولوجي ومواجهة آثار تغير المناخ، تصبح هذه الأساليب خطوة منطقية في المرحلة التالية.

على الرغم من أن الأعمال الخيرية قد تكون عاملاً محفزاً مفيداً، فإنها يجب أن تكون جزءاً من تدفق مالي متكامل. يعمل صندوق أغريكولوجي فاند (Agroecology Fund)، وهو آلية تمويل مشتركة، على تقديم المنح لدعم المؤسسات المعنية بالمزارعين والحركات التي تستثمر بطريقة عقلانية في حماية حقوق السكان الأصليين في الأراضي التي يزرعون فيها واستصلاح التربة وتشجيع استخدام البذور المحلية وإنتاج منتجات ذات قيمة مضافة للأسواق المحلية، والأهم من ذلك، العمل مع الحكومات لزيادة الاستثمار في الزراعة البيئية. يسعى العديد من المؤسسات الأعضاء لدينا إلى تعزيز المنح باستثمارات مؤثرة من أموالها، ما يؤدي إلى تحفيز  تقديم استثمارات إضافية من القطاعين الخاص والعام.

يمكن أن يؤدي التحول الطفيف في الاستثمارات نحو الابتكار في الزراعة البيئية إلى تحسين الأنظمة الغذائية الصحية والمتجددة والقادرة على مواجهة تغير المناخ. نحن بحاجة إلى غذاء صحي وحلول مناخية عادلة ومستدامة، فلنوجه استثماراتنا نحو تحقيق هذه الأهداف.

 

يمكنكم الاطلاع على النسخة الإنجليزية من المقال من خلال الرابط، علماً أنّ المقال المنشور باللغتين محمي بحقوق الملكية الدولية. إنّ نسخ نص المقال من دون إذن مسبق يُعرض صاحبه للملاحقة القانونية دولياً.              

المحتوى محمي