لماذا يجب قياس التقدم في العمل الخيري بالأرقام؟ في يوم ما من أواخر التسعينيات كانت السماء صافية في أعالي جبال الهيمالايا، الهواء منعش، لكنني كنت أحس بدفء شمس الصباح على وجهي، كانت الحافة الشمالية لجبل إيفرست تتلألأ في الأفق، وعلى مسافة بعيدة قرية في موقع مثالي بحيث تبدو جزءاً أساسياً من المناظر الطبيعية. كان كل ما حولي جميلاً، وأنا وصديقي بيل نقف على الرمال خارج سيارتنا اللاند كروزر، ويصرخ كل منا في وجه الآخر.
أسس بيل مؤسسة بناءً على فكرة رائعة وهي كيف يمكن للناس في هذه الجبال العالية الازدهار وفق شروطهم في مواجهة الحداثة. أمضينا الجزء الأفضل من رحلتنا التي امتدت 3 أسابيع ونحن نجوب المنطقة، فتعرفت إلى كبار أعضاء الفريق وأعجبت بهم، وشاهدت عملهم في مجموعة من القرى المختلفة. تجولنا خلف حيوانات القطاس في الوديان الخفية المذهلة، وشربنا الكثير من الشاي بالزبدة وتحدثنا حتى الليل إلى شيوخ القرية وصادفنا نمراً ثلجياً يصطاد عند قاعدة جدار جبلي يبلغ ارتفاعه ميلاً ووقفنا برهبة عند النظر إلى الجداريات القديمة في الأديرة النائية. لقد كانت واحدة من أفضل الرحلات في حياتي.
وفي اليوم الأخير توقفنا لنستمتع بضوء الشمس والمناظر الطبيعية كنت مبتهجاً وقد عرف بيل ذلك، التفت إلي وسألني: "ما رأيك؟ هل ستموّل مؤسستنا؟".
فوجئت بسؤاله، وقلت له: "لا أعرف يا بيل، فأنا لم أر أرقاماً ملموسة بعد".
من هنا بدأت تسوء الأمور. كانت لدي المعلومات النوعية وفهمت ظروف العمل وسمعت القصص والتقيت العديد من الأبطال، وأنا الآن بحاجة إلى معرفة المعلومات الكميّة بكل الأرقام التي توضح جودة التنفيذ والأمور التي تغيرت نتيجة لأنشطتهم. كان بيل منزعجاً فكيف لا أصدقه بعد أن أتاح لي رؤية العمل وزيارة هذه المواقع؟ ألم أكن أثق به؟
بلى بالطبع، لقد فهمت العمل وآمنت أنه ينطوي على إمكانات كبيرة، ولكن المشروع كان قد مضى عليه بضع سنوات بالفعل، ويجب أن يكون لدى بيل أرقام ملموسة حول التنفيذ والتأثير، لنفسه أولاً قبل كل شيء ولمؤسسته. لم يتقبل بيل سماع ذلك من شخص لم يؤسس شيئاً بيده، فلم يتمالك نفسه ولم أفعل ذلك أيضاً، وهكذا أُفسد يوم السماء الصافية الرائع هذا.
لم تتحسن الأمور في المحادثات اللاحقة، فقد عادت بالزمن إلى بداية الأعمال الخيرية المغامرة، حيث تجاوز طموح المؤسسات الخيرية العملاقة ما يمكنها تحقيقه، ولربما كان إحباط الجهات الفاعلة من الممولين وقتها كبيراً، وفي نهاية المطاف، شعر بيل بالغضب الشديد لدرجة أنه أرسل خطاباً إلى مجلس الإدارة لإنهاء علاقة التمويل. شعرت بالحرج وكان المجلس في حيرة من أمره غالباً.
يبدو الموقف برمته سخيفاً الآن، لكنه كان مؤلماً للغاية في حينه. لا يزال بيل حتى يومنا هذا واحداً من أكثر الأشخاص الذين عرفتهم إبداعاً والتزاماً (وبالطبع هذا ليس اسمه الحقيقي). لم تكن هذه رحلتنا الأولى معاً، وقد أصبح صديقاً ومرشداً إلى حد ما، أنا آخذ الصداقات على محمل الجد وتأكدت من ذلك تماماً حينما تدمرت صداقتنا.
في النهاية أصلحنا الأمور حتى إننا موّلناه، لكن انشغالي الشديد أنا ومؤسسة مولاغو (Mulago) بالمقاييس له جذوره في هذه الخصومة وفيما كشفت عنه. الدور الأهم للمقاييس والأرقام وفق ما أرى، هو تنمية علاقات وطيدة ومُرضية والحفاظ عليها، لا أحب ولا أقدّر أكثر من أولئك الذين أخذوا على عاتقهم تحسين العالم، إنه لمن دواعي سروري قضاء الوقت معهم، ولطالما كرهت فكرة أن دوري بوصفي ممولاً يحول دون إنشاء صداقات مع من نموّلهم (أو لا نموّلهم، في الحالة المطروحة). لكن الحقيقة هي أن الصداقة الصحية تتطلب واقعاً مشتركاً، ويعني هذا في حالة الرواد الاجتماعيين واقعاً مشتركاً فيما يخص العمل، الأمر الذي يتطلب معرفة نوعية و كمية. أنت بحاجة إلى رؤية العمل وفهم الأفكار والاستماع إلى القصص، ولكن تحقيق الواقع المشترك يتطلب مقاييس ترصد التنفيذ والتأثير.
لم نصل أنا وبيل إلى واقع مشترك، وفي النهاية، كل ما أمكننا فعله هو أن نتشاحن. أرى أكثر من أي وقت مضى أن مهمتي بوصفي ممولاً هي الوصول إلى هذا الواقع المشترك، ويقع على عاتقي فعل ما يلزم لذلك. لم يعد بإمكاني التجول لأسابيع في جبال الهيمالايا بعد الآن (على الأقل ليس خلال العمل) إذ لدينا فريق صغير في مولاغو، وفي حين نعتقد أنه من الضروري زيارة موقع العمل والفريق، فإن لدينا أكثر من 60 مؤسسة محفظة و40 زميلاً من الرواد الاجتماعيين جاهزين لتقديم الدعم في أي وقت. بغض النظر عن مدى صعوبة عملنا وسفرنا، فنحن محظوظون إذا تمكّنا من قضاء 3 أيام في موقع العمل، فما بالك بثلاثة أسابيع؟ صارت الأرقام أهم من أي وقت مضى.
هناك سبب جوهري أكثر لحاجتنا إلى الأرقام: نحن بشر، قد يصعب علينا فهم الواقع في حد ذاته فما بالك بمشاركته؟ حدسنا لا يمكن الاعتماد عليه، ونحن عرضة لمجموعة متنوعة من التحيزات المعرفية. يُظهر المؤسسون على وجه الخصوص مستويات عالية من انحياز للتفاؤل (وإلا فإنهم لن يتولوا المهمة الشاقة المتمثلة في إنشاء المؤسسة). كما أن هناك الانحياز التأكيدي وهو ميل الفرد إلى إيلاء اهتمام أكبر للمسائل التي تؤكد أفكاره، والاستدلال المدفوع الذي يعني ميل المرء إلى إقناع نفسه بنتيجة محددة مسبّقاً. تؤدي هذه التحيزات الثلاثة وحدها إلى مبالغة كبيرة في تقدير التأثير، وهي لا تمثل إلا الجزء الظاهر من الحال الذي تكتنفه الفوضى. الخصائص الإنسانية هي التي تقود الإنسان إلى تشويه الحقيقة، في حين أن الأرقام تساعده على تحقيق أقصى استفادة من نواياه الحسنة، وقد كانت الجهود المبذولة لتوسيع نطاق التقييم الصارم في القطاع الاجتماعي مهمة بما يكفي لاستحقاق جائزة نوبل.
إذا كنت تحاول إنقاذ العالم، فأنت بحاجة إلى استخدام الأرقام، وهي مقاييس يجري اختيارها بعناية وتُجمع على نحو موثوق. ولست بحاجة إلى الكثير من الأرقام، فقط ما يكفي منها لتعرف بدقة كلاً مما يلي:
- التنفيذ: ما أنجزته.
- السلوك: ما فعله الأفراد بطريقة مختلفة نتيجة لذلك.
- التأثير: التغيير الملموس الذي حدث نتيجة لهذا السلوك.
إن لم تكن لديك معرفة بهذه النقاط الثلاث، فأنت لا تعي وجهتك لأنك لا تعرف ما الذي أنجزته، ولا تمتلك المعلومات التي تحتاج إليها لتحسين ما تفعله.
يأخذنا هذا إلى حركة "العمل الخيري القائم على الثقة" (trust-based philanthropy)، التي تمثل، من بين أمور أخرى، رد فعل على متطلبات إعداد التقارير الجائرة وغير البنّاءة. لا أنكر أن بعض الإجراءات التي تنم عن رعونة أو جهل أو كليهما معاً تثير غضبي، ومع ذلك، فإن هذا السخط المبرر يتحول في كثير من الأحيان إلى عداء غريب ورجعي تجاه لغة الأرقام، وألاحظ ذلك جداً؛ ففي إحدى فعاليات العمل الخيري القائم على الثقة في الجمعية العامة للأمم المتحدة، صرخ شخص ما قائلاً: "لا للمقاييس" وسط تصفيق عام؛ وفي مكالمة هاتفية، أخبرني أحد القادة المؤثرين بأنه يجب ألا يُتوقع من المؤسسات المحلية قياس التأثير، وأنه يجب عليها استبدال بالأرقام مقاطع الفيديو والقصص؛ ويخبرني "مشروع العمل الخيري القائم على الثقة" (Trust-based Philanthropy Project) بأن علينا عدم استخدام "المصطلحات التي قد تنفر بعض المؤسسات أو تستبعدها، ومنها المصطلحات الغريبة مثل "قابلية التوسع" و"نظرية التغيير"، وبالطبع "المقاييس القابلة للقياس الكمي"، وهو ما أعتقد أنه سيؤدي إلى اعتبار لغة الأرقام غير مألوفة ويحول دون استخدامها.
هذا تنازل ليس بهين. قد يكون استخدام الأرقام معقداً، لكنه ليس فيزياء الكم، وأي شخص يتمتع بالقدر الكافي من الذكاء لينشئ مؤسسة ويبلي بلاءً حسناً، يستطيع، بل يجب عليه أن يتقن هذه المفاهيم، ومن ذلك الاستخدام الضروري والمثمر للمقاييس القابلة للقياس الكمي. نحن ندرك أنه يجب على المؤسسات إتقان الأساليب المحاسبية المعقدة لتتبع كيفية استخدام الأموال، لكننا نفشل بطريقة أو بأخرى في توسيع تلك التوقعات المعقولة لتشمل الأساليب الكمية لتتبع التنفيذ والتأثير. كما قال لي مؤسس من أصدقائي وهو من كينيا، بعد الفورة التي أثارتها عبارة "لا للمقاييس": "هل يعتقدون أننا أغبى من أن نستخدم المقاييس؟".
يمثل التركيز على الأرقام أهمية بالغة إذا كنا جادين في خلق جيل جديد من القادة الفعّالين الذين لا ينحدرون من البلدان الغنية. لغة الأرقام أقرب ما تكون إلى لغة عالمية، وعلى هذا النحو فهي تسهم في تكافؤ الفرص بين الجهات الفاعلة والممولين، وهذا ما فعلته لغة الأرقام في زامبيا وولاية كاليفورنيا حيث تهتم المؤسسات هناك بجهود الفرد لا بأصله، وبالتفكير السليم لا بالكاريزما. علينا أن نعمل على جعل أساليب التتبع الفعالة في المتناول أكثر، ولمّا كنا ممولين، فإن علينا التأكد من أن لدى القادة الموارد التي يحتاجون إليها لإتقان هذه الأساليب. لكن التقليل من أهمية الأرقام سيكون بمثابة العودة إلى الوراء.
كانت مؤسسة مولاغو تؤدي معظم ما يوصف بأنه عمل خيري "قائم على الثقة" قبل وقت طويل من ظهوره: على مدار عقدين من الزمن، قدمنا تمويلاً غيّر مقيد وطويل الأجل، وبدلاً من طلب المقترحات، نلتزم بما يجب علينا فعله لفهم نموذج المؤسسة واستراتيجيتها وأسلوبها في التنفيذ. ومن المشجع أن نرى النهج الذي دافعنا عنه لسنوات وقد أصبح جزءاً من التيار السائد، لذلك يحيرني أن بعض أنصار العمل الخيري القائم على الثقة يتحدثون كما لو أن متطلبات إعداد التقارير في حد ذاتها خاطئة بطبيعتها. تقول إحدى المؤسسات المؤثرة إنها لا تزال تطلب من المؤسسات التي تموّلها تقارير مرحلية ولكنها لم تعد تملي ما ينبغي أن تتضمنه، وهو ما يعني أنه لا مشكلة لديها إذا كانت المؤسسات المموَّلة لا ترغب في مناقشة عن التأثير. يبدو لي ذلك أشبه بتقصير في أداء الواجب فبوصفنا ممولين، تقع على عاتقنا مسؤولية ضمان التغيير الحقيقي نحو الأفضل في حياة أولئك الذين نحاول جميعاً خدمتهم، ومهمتنا هي ضمان أن الطريق الذي تكتنفه النوايا الحسنة سيقود إلى حياة أفضل وضمان أن العيوب البشرية التي يمكن التنبؤ بها لا تؤدي إلى تشويه ما أُنجز وما لم ينجَز بعد. لا أحد معصوم من الخطأ، وأولئك الذين حرموا من تكافؤ الفرص في الحياة يستحقون أن يعتني الممولون بهم.
إذا كان الممولون أذكياء بشأن ما يجب أن يطلبوه، واجتهدت الجهات الفاعلة في جمع المعلومات اللازمة، فلن يكون هناك الكثير من الاختلاف بين ما تريده جهة وما لدى الجهة الأخرى بالفعل.
ما زلت حزيناً على ذلك اليوم الذي أُفسد في جبال الهيمالايا، لكن ليس على ما قادني إليه، إنني أقدّر القصص والأفكار والأشخاص والأماكن التي تشكل جزءاً من هذا العمل، لكن لا يمكن فهمها وتقديرها بالكامل دون أرقام. العمل ليس ممتعاً دون الثقة، لكن الثقة تأتي من الواقع المشترك الذي لا يمكن الوصول إليه إلا عندما ترسّخ الأرقام القصص، وتؤدي القصص إلى ارتفاع الأرقام.