هل يمكن حقاً تعزيز سلسلة التوريد الخيرية؟

7 دقائق
التوريد الخيري

كانت محورية الدور الذي تؤديه سلاسل التوريد في كل شيء من بين أبرز الاكتشافات المذهلة التي أسفرت عنها جائحة كوفيد-19. فبمجرد أن انهارت إحدى حلقات السلسلة، بدأنا فجأة باكتناز مناديل المرحاض، أو تحويل القمصان القطنية إلى أقنعة، أو دفع أبهظ الأثمان مقابل سيارة مستعملة. وقد أظهرت سلاسل توريد الأعمال الخيرية هشاشتها أيضاً، وهي السلاسل التي تشكل المسار من المُموِّل إلى متلقي التمويل، حيث سارعت المؤسسات والجهات المانحة الرئيسية الأخرى، وخاصة في الأشهر الأولى من الجائحة، لجمع الأموال بسرعة وبشكل مدروس لصالح المؤسسات الأهلية التي تخدم المجتمعات الأكثر تضرراً.

أما بالنسبة لقطاع العمل الخيري، فلم يكن الكشف المذهل هو الانهيار الصادم لسلسلة التوريد التي كانت تبدو عالية الأداء، بل التخلف وضعف التطوير في منتصف سلسلة التوريد هذه. حيث أن القطاع لم يُفكر في سلسلة التوريد الخاصة به بشكل منهجي، ويجب علينا أن نستغل هذه اللحظة لتركيز جهودنا عليها وتعزيزها.

لو كان من السهل نقل التمويل الخيري إلى الأشخاص والأماكن التي سيحقق فيها أفضل النتائج، مع إجراء الفحص النافي للجهالة والإشراف الكافي لضمان تحقيق التأثير في الوقت المناسب، لكنا قد قمنا بذلك بالفعل طوال الوقت. والخبر السار هو أن هذه المهمة ليست بالصعوبة التي تبدو عليها؛ حيث أننا نصيب الهدف في بعض الأحيان، ويمكننا أن نجعل سلسلة التوريد الخاصة بنا أكثر فعالية وكفاءة، مع التركيز على العدالة العرقية والاقتصادية، من خلال بناء القسم الأوسط غير المعتنى به منها.

تتمتع المؤسسات الخيرية الكبيرة بقدرات هائلة، لكنها غير مصممة لتكون رشيقة، كما أنها تتصرف بشكل غير مريح على نحو متزايد حين تتولى أداء سلطاتها. وبدافع من الإغلاق الاقتصادي في العام الماضي والاحتجاجات المطالبة بالعدالة العرقية، أصبح المموّلون يعيدون فحص عمليات منحهم للتمويل، ما يخلق فرصاً لصنف ناشئ من شركاء سلسلة التوريد الذين لا تقتصر أدوارهم على مجرد نقل الأموال. وفي مسرع الأعمال الخاص بمؤسسة مالتيبلاير (Multiplier)، ندعو هؤلاء الشركاء باسم "المُنشطين"، لأن لديهم نهجاً أكثر اندفاعاً وتركيزاً على التأثير مقارنةً بوسطاء الصفقات الخيرية التقليديين. فالمنشطون الخيريون يُنشؤون علاقات مستمرة مع كلا طرفي سلسلة التوريد، ما يوفر بنى تنظيمية هادفة للممولين لتوظيف الأموال الخيرية بذكاء وسرعة، ويساعد الحاصلين على المنح على بناء القدرات والبنى التحتية لاستخدام هذه الأموال بفعالية. فهم مثل محفزات التفاعلات الكيميائية، يطلقون شرارة بدء التحول، وهو في هذه الحالة تحول الأموال الممنوحة إلى محركات للتأثير الاجتماعي والبيئي. والمكان المثالي للمنشطين هو الجزء الأوسط من سلسلة التوريد الخيرية لتحويل المبالغ المالية الكبيرة إلى منح وقروض صغيرة، وخلق منافسة مفتوحة على الأموال بطريقة عادلة ومنصفة، وحشد الأموال لمناصرة القاعدة الشعبية، وإنشاء روابط أفضل بين الممولين والمجتمعات.

فوائد المنشطين: الإنصاف، والابتكار، والفاعلية

بشكل أساسي، يُمكن للمنشطين المساعدة على معالجة الوصول غير المُنصف للأموال؛ حيث أن الممولين لا يعرفون دوماً قادة القواعد الشعبية خارج شبكات معارفهم، وهؤلاء القادة لا يكونون على اطلاع دائم بفرص المنح المتاحة. وقد يقوم مموّلو المؤسسات والشركات الذين يبحثون عن أفكار جديدة بإصدار طلبات تقديم العروض (RFPs) التي تفتح الأبواب أمام الأفكار الجديدة، ولكن هؤلاء أيضاً يميلون إلى التوجه للمؤسسات التي يعرفها المموّلون بالفعل. وهذا بدوره يتمتع ببعض سمات الفاعلية؛ حيث يمكن أن يؤدي التعرف على المؤسسات وتقديم الدعم طويل الأمد إلى تضخيم التأثير. إلا أنه لا يستقدم المشاركين الجدد والأشخاص الذين لم يكن لهم مكان على طاولة الحوار عبر التاريخ، لذا يستمر الممولون في تفويت الحلول الجديدة وتكرار عملية الإقصاء.

إن المنشطين الأقرب إلى الميدان ولديهم شبكات معارف في المجتمعات التي يريد الممول الوصول إليها، يستطيعون التغلب على هذه الديناميكية من خلال إنشاء عمليات تنافسية بالفعل وإدارتها لصالح طلبات تقديم العروض. ولطالما عهدت المؤسسات بهذا العمل إلى مصادر خارجية ذات مناصب عليا، في بعض الأحيان إلى راعٍ مالي. (على سبيل المثال، تتعهد مؤسسة صندوق الاستثمار الجديد (New Venture Fund) مثل هذه المشاريع). ويُمكننا استخدام النهج ذاته لإيصال الأموال إلى المجتمعات.

يتمتع المنشط من موقعه الوسيط باتصال كافٍ مع كل من الممول والمنظمات الأهلية لبناء الثقة مع طرفي السلسلة. وهذا يسمح للمنشط باختيار عدد كبير من المنح الصغيرة وتوزيعها والإشراف عليها، مع وضع أهداف الممول في الاعتبار، بالإضافة إلى توفير المزيد من المرونة والقدرة على الوصول إلى مجموعة أكبر من متلقي المنح، بمن فيهم المجموعات الناشئة التي تفتقر إلى القدرة على استخدام المنح الكبيرة بفعالية. ويمكن للمفعّل الجيد إدارة مائة منحة كل منها بقيمة 10,000 دولار، بينما يقوم الممول بتقييم المفعّل حول كيفية إدارته لمبلغ المليون دولار بالكامل.

بينما توجد ديناميكيات القوة أيضاً بين المنشطين والمستفيدين من المنح، فإن المنشطين الفعالين ماهرون في إنشاء علاقات متبادلة وموثوقة مع المجتمعات والنشطاء، ويمكنهم إضفاء الشفافية على العملية لمنع ظهور المحسوبية أو تضارب المصالح.

ما هي المؤهلات التي تصنع المنشط الجيد؟

يكون المنشط أكثر أهلية للنجاح عندما يكون مؤسسة محايدة، مثل الدور الذي تلعبه سويسرا، ولا تتنافس على التمويل الذي توزعه. وهناك العديد من المؤسسات التي تستطيع تأدية هذا الدور وفقاً لهذا المعيار. ويمكن لأي مؤسسة غير ربحية لها تواجد في كل من عالم الممولين وعالم الحاصلين على التمويل وغير محكومة بالبيروقراطية المؤسسية أن تعمل كمنشط، كما يمكن لشركات الاستشارات الربحية لعب هذا الدور.

إن الرعاة الماليون على وجه الخصوص، مناسبون لتأدية دور المنشط، وخاصة أولئك الذين يقدمون دعم القدرات خارج إدارة المكاتب الخلفية أو يستخدمون نموذج مسرعات الأعمال. والعديد منهم يخدمون كلاً من نهايتي سلسلة التوريد بالفعل، كما يُمكن للمُسرع نقل التمويل مع تعزيز قدرة المستفيدين من المنح وصقل استراتيجية التأثير.

يُمكن للمؤسسات المجتمعية أن تكون مُفعِلة أيضاً، خاصة بالنسبة للممولين الذين يركزون على منطقة جغرافية محددة. حيث يتمتع مسؤولو برامجها بعلاقات مع قادة القواعد الشعبية وهم على معرفة بالمشاريع المبتكرة في مجتمعاتهم والتي تعد ضرورية لإيصال مبالغ الأموال الصغيرة نسبياً بفاعلية إلى مؤسسات متعددة. وغالباً ما تتعاقد حكومات المدن والمقاطعات مع المؤسسات المجتمعية لصرف المنح وإدارتها، إلا أن المؤسسات الخاصة الكبيرة لا تستفيد من قدرات المؤسسات المجتمعية بهذه الطريقة في كثير من الأحيان.

عمل المنشطين

مشروع كاتش توغيذر (Catch Together) هو أحد مشاريع مؤسسة مالتيبلاير (Multiplier) والذي أعرفه جيداً من خلال عملي في توجيه الشراكات الاستراتيجية، وهذا المشروع يقدم مثالاً حياً عن كيف يمكن للعمل مع المنشط أن يعزز تأثير المشروع وفعاليته. فلدعم مصايد الأسماك المستدامة وممارسات الصيد، يقوم مشروع كاتش توغيذر بإنشاء بنوك تصاريح يملكها أفراد من المجتمع وإطلاقها، والتي تشتري حقوقاً في نسبة مئوية من مصايد الأسماك وتؤجر تلك الحصة للأعمال التجارية السمكية المحلية الصغيرة بأسعار معقولة. لقد أثرت التداعيات الاقتصادية للجائحة على مجتمعات الصيد المحلية بشدة عندما توقفت المطاعم المغلقة عن شراء الأسماك، ولم يعد صغار الصيادين يتمكنون من بيع أسماكهم إلا في أماكن محدودة. ويعتقد أحد ممولي كاتش توغيذر، وهو داعم رئيسي لمبادرات المأكولات البحرية المستدامة، أن المكاسب التي حققها المشروع في تحسين الآفاق الاقتصادية والبيئية طويلة الأجل لمصايد الأسماك في أميركا الشمالية قد تختفي. فالمؤسسة المالكة لم تكن قادرة على نقل الأموال إلى المجتمعات الساحلية بالسرعة الكافية لإيقاف انحدارها الاقتصادي، ولكنها استجابت بدلاً عن ذلك من خلال مشروع كاتش توغيذر؛

حيث قدم الممول منحة طارئة بقيمة 5.8 مليون دولار، وعملت مالتيبلاير بسرعة مع الممول وفريق كاتش توغيذر لصياغة برنامج إغاثة لمجتمعات الصيد في جميع أنحاء الولايات المتحدة والذي اتسع ليتجاوز برنامج قروض كاتش توغيذر لبنوك التصاريح. دعّم برنامج الإغاثة بنوك التصاريح لشراء المأكولات البحرية المحلية الطازجة، والتي تبرعت بها البنوك بعد ذلك مباشرة لمخازن الطعام وغيرها من جهود الإغاثة من الجوع على المستوى الإقليمي، أو تمت معالجتها على شكل منتجات للمأكولات البحرية يُمكن بيعها في المتاجر للتبرع بها. وقدمت مالتيبلاير 50 منحة جزئية لبنوك التصاريح التي دعمت نحو 10,000 صياد ووفرت حوالي 1.5 مليون وجبة على مدار ثمانية أشهر، معظمها في صيف وخريف عام 2020. ولم يكتف هذا الجهد بإطعام العائلات المحلية على المدى القصير فحسب، بل فتح أيضاً قنوات جديدة لمبيعات المأكولات البحرية المستدامة في المستقبل. وقد نجحت هذه الجهود لأن مؤسسة مالتيبلاير فهمت أهداف الممول واحتياجات مصايد الأسماك، ولأن قادة مشروع كاتش توغيذر لديهم علاقات عميقة في المجتمعات المتضررة.

أحد الأمثلة الأخرى من ملف مؤسسة مالتيبلاير هي مؤسسة ألتر إيكو (Alter Eco Foundation)، إذ يوفر البرنامج الخيري لمؤسسة ألتر إيكو للأطعمة الموارد لمساعدة مزارعي الكاكاو على تحسين حياتهم من خلال الانتقال إلى أساليب الزراعة الحراجية الديناميكية. أجرت مؤسسة مالتيبلاير الأبحاث حول هذا المجال لتوسيع معرفة المؤسسة بما يتجاوز المجموعة الفرعية الصغيرة من تعاونيات زراعة الكاكاو التي كانت مألوفة لها، ثم عملت مع مؤسسة ألتر إيكو لإجراء عملية اختيار مفتوحة للمنح الصغيرة نسبياً. كما عملت مالتيبلاير مع المدير الإداري للمؤسسة لبناء معايير قبول الاقتراحات، ما يضمن أن يكون لأعضاء تعاونيات المزرعة رأي في العمليات التعاونية، وأن يكون للمنح تأثير اقتصادي وبيئي على حد سواء.

وبالمثل، تخدم مؤسسة موزاييك مومينتوم (Mosaic Momentum) ، وهي مجموعة تعاونية من المؤسسات الأهلية والمؤسسات غير الحكومية وقادة المؤسسات، احتياجات كل من الممول والمجتمع عبر برنامج موزاييك كونكت (Mosaic Connect). تعمل هذه المؤسسة المنشطة مع الممولين لإصدار منح صغيرة لبناء القدرات لعدد كبير من المشاريع التي تدعم تأمين الهواء والمياه النظيفة، والمناخ الآمن، والمجتمعات الصحية والعادلة، والأنظمة الطبيعية المزدهرة. وفي عام 2020، قامت هذه المؤسسة بفحص مئات الطلبات للحصول على التمويل وأصدرت بفاعلية منحاً بقيمة كلية تبلغ 3 ملايين دولار إلى 91 متقدماً مشتركاً يتعاونون على تنفيذ 21 مشروعاً في 27 ولاية.

الإمكانيات التحويلية لسلسلة التوريد الأكثر متانة

إن الأمثلة المذكورة أعلاه ليست سوى لمحة عن كيف يستطيع الممولون الكبار دعم مجموعة واسعة من الحلول التي يقودها المجتمع بفاعلية مع الحرص على تحقيق الإنصاف في أثناء سير العملية. لإشاعة هذه النجاحات، يجب علينا تعزيز القسم الأوسط من سلسلة التوريد. فهناك العديد من المؤسسات التي يمكن أن تعمل كمنشطات، إلا أنها لا يمكنها أن تتحقق بشكل كامل في الأزمات فقط، كما رأينا. حيث يحتاج المنشطون المحتملون إلى رأس المال البشري والتكنولوجيا المناسبين للعمل كشركاء يتمتعون بالمرونة في منتصف سلسلة التوريد ليتمتعوا بالقدرة على التكيف، والوقاية من الكوارث، والمرونة العامة.

ولتطوير هذه القدرة، يجب على القطاع أن يدعم المزيد من المؤسسات مثل سوشال إمباكت كومونز (Social Impact Commons)، التي توفر موارد مشتركة ودعماً لبناء القدرات للرعاة الماليين والمؤسسات التي تدير مهام أو كيانات متعددة تتبع لمنشأة غير ربحية واحدة.

يعطي المنشطون الفعالون الأولوية للتأثير الأسرع والأكثر وثوقية مع تعزيز مبادئ العدالة والإنصاف والتنوع ودمجها في ثقافتهم الداخلية وعمليات صناعة القرار الخاصة بهم، خاصة عند السعي إلى دعم المشاريع ذات المهام المحددة أو الموجهة مجتمعياً.

إن الكفاح من أجل تحقيق عالم عادل ومنصف وصالح للعيش يحدث الآن، وهذا يعني أن الوقت قد آن لتعزيز سلسلة التوريد للأعمال الخيرية. ويجب أن ننظر إلى سلاسل التوريد التجارية، بما فيها من معوقات وموارد خاطئة التوجيه ونقاط ضعف أخرى، كحكاية توعوية تحذيرية. فالقطاع غير الربحي قادر على أن يكون أفضل من ذلك، بل إن هذا واجب علينا.

يمكنكم الاطلاع على النسخة الإنجليزية من المقال من خلال الرابط، علماً أنّ المقال المنشور باللغتين محمي بحقوق الملكية الدولية. إنّ نسخ نص المقال دون إذن سابق يُعرض صاحبه للملاحقة القانونية دولياً.

المحتوى محمي