نعلم جميعاً أن الشركات والحركات الاجتماعية تسعى دوماً إلى زعزعة الأنظمة من الخارج أو إحداث تغييرات جوهرية على السياسات بدءاً من القمة، ولكن على الرغم من أن هذه الأساليب نجحت سابقاً في كثير من الحالات، فكفاءتها اليوم تتضاءل يوماً بعد يوم لدرجة تدفعنا إلى إعادة النظر في فعاليتها مقارنة بالاستراتيجيات الجديدة التي تستفيد من الموجود من أجل تجاوز الخلل الوظيفي الذي يعوّق التغيير على غالبية المستويات.
نعترف صراحة أن تجلي هذه الفكرة كان مفاجئاً لنا؛ إذ يصعب على الجميع تجاهل جاذبية زعزعة الأنظمة وتغييرها من القمة إلى القاعدة، إلا أننا رأينا حقائق تثبت أن الواقع قد تغير، ولا يمكن إنكار ذلك.
بدأ الأمر عندما رأينا أن بعض المؤسسات التي انضمت مؤخراً إلى محفظتنا الاستثمارية كانت تركز على فهم البيئة المحيطة بالمشكلات التي تعمل على معالجتها (لا سيما تقييم البنية التحتية الحالية وقنوات التوزيع وإعادة استخدامها بطرق أخرى بغض النظر عن عيوبها)، إلى جانب أنها كانت تحقق نجاحاً أكبر في إحداث تغيير دائم. وعندما تمعنا في الأثر الناتج عن عمل ما يزيد على 30 من أكثر المؤسسات تأثيراً في محفظتنا الاستثمارية كانت البيانات واضحة وضوح الشمس؛ فالمؤسسات التي تركز على الاستفادة من البنية التحتية وأنظمة التوزيع الحالية كانت تحقق أثراً مباشراً أكبر بثلاث مرات تقريباً من التي تركز على الزعزعة باعتبارها الوسيلة الأساسية [في الواقع، كانت التكلفة لكل حياة وقع عليها التأثير المباشر للمؤسسات التي تعتمد على مبدأ "الاستفادة أولاً" (leverage-first) أقلّ من تكلفتها للمؤسسات التي حاولت زعزعة الأنظمة من الخارج].
اتضح لنا بما لا يدع مجالاً للشك أن التغيير من القمة إلى القاعدة بسياساته وبرامجه وآليات تمويله الجديدة كان غير ممكن في البيئة السامة والمستقطبة سياسياً السائدة التي تعوّق تنفيذ السياسات الاجتماعية الجديدة (فضلاً عن آليات التمويل اللازمة لسداد تكاليفها)، وينطبق الأمر ذاته على المؤسسات التي حاولت زعزعة الأنظمة من الخارج، فقد عجزت في أغلب الأحيان عن تحفيز الأنظمة على تبني التغيير أو تمويله مدة كافية لتثبيته.
بعبارة أبسط نقول إن عجز الحكومة عن إحداث تغيير عميق يستدعي من الجهات الممولة والمؤسسات التي تحظى بدعمها تبنّي عقلية مختلفة للتفكير في المشكلات وحلولها، ويتطلب إجراء مجموعة جديدة من التحليلات للتفكير في الحلول التي تعالج التفاوتات الضاربة جذورها في أعماق مجتمعاتنا؛ بدلاً من محاولة زعزعة الأنظمة والبنى التحتية والتبعيات المشتركة الحالية في القطاعات التي نركز عليها وإعادة بنائها من الصفر، يجب أن نستثمر أولاً في فهمها، وعلى هذا النحو سنتمكن من فهم موقع الابتكار أو الحل من النظام الأشمل، وفهم التبعيات المشتركة الحالية التي يجب التعامل معها والروابط والمسارات الرئيسة التي يجب إقامتها بين الكيانات.
البحث عن الفائدة في نظام العدالة الجنائية
في عام 2016 عقدنا اجتماعاً مع عدد من المحامين والمدعين العامين والمحليين والقضاة وضباط أمن المناطق ورؤساء الشرطة الأميركيين وتحدثنا إليهم كي نتمكن من فهم المجالات التي يمكن أن تحقق جهود المؤسسات العاملة بالقطاع أثراً دائماً فيها. ومع تعمقنا في فهم مراحل العمل المختلفة والجهات الفاعلة والتبعيات المختلفة وتخطيطها، عرفنا أن الجهود اللازمة من أجل تحويل السياسات المنهجية التي تحكم قرارات الاتهام، التي تسمى حركة "العدالة الجنائية الذكية" (smart on crime) تعتمد بدرجة أكبر مما ينبغي على القرارات السياسية والعوامل الخارجية التي لا علاقة لها بنظام العدالة الجنائية نفسه بل بمن يملك السلطة. وبالنتيجة كانت الجهود المبذولة تُمحى مرة تلو الأخرى على مدى الأعوام من دون ترك أي تغيير حقيقي في حياة الفئات الأضعف من المجتمع، ودفعنا ذلك إلى التركيز في استثماراتنا على ما يحقق تغييراً دائماً بغضّ النظر عن تغيير الإدارات؛ كان من الضروري التركيز على المؤسسات التي تعمل على ضمان عدم ارتكاب الناس جرائم تدخلهم إلى السجن مع التركيز على منع معاودة الإجرام بالنسبة للمحكومين السابقين أو الذين يشارفون على إنهاء أحكامهم في آن معاً.
مثلاً، عملنا على دعم مؤسسات أدفانس بيس (Advance Peace) وديترويت جستس سنتر (Detroit Justice Center) وإسي جستس (Essie Justice) وببلك رايتس بروجكت (Public Rights Project) وغيرها الكثير من المؤسسات التي أوقعت أثراً هائلاً في حياة الأفراد على الرغم من أن التغييرات الجذرية في سياسات العدالة الجنائية على مستويَي حكومات الولايات والحكومة الفيدرالية أدت إلى زيادة كبيرة في أحكام السجن الصادرة. وبدلاً من محاولة تحويل نظام العدالة الجنائية نفسه، عملت المؤسسات التي استثمرنا فيها ضمن النظام بهدف تقليص أعداد المحكومين بالسجن (أو الحدّ من معاودة الإجرام التي تؤدي إلى عودة المحكومين السابقين إليه) عن طريق زيادة الإجراءات التدخلية المطبقة قبل صدور الأحكام، وتقديم دعم كبير لمن يشارفون على الإفراج عنهم لمنحهم أساساً متيناً لحياتهم المستقبلية خارج هذه الأنظمة المؤسسية.
كما لاحظنا أنه بإمكاننا إنجاز الكثير عن طريق العمل ضمن نظام العدالة الجنائية من أجل مساعدته على خدمة المحتجزين في السجن بصورة أفضل. مثلاً، يفتقر عدد من هيئات العدالة الجنائية المسؤولة عن إصدار الأحكام القضائية وإخلاء السبيل تحت المراقبة وإخلاء السبيل المشروط إلى الموارد اللازمة لتنفيذ مهامها، وفي كثير من الحالات لا يكون استمرار احتجاز بعض المسجونين المؤهلين لإخلاء السبيل المشروط نتيجة لرغبة هذه الهيئات في بقائهم، بل نتيجة لافتقارها إلى البيانات والأدوات التي تحتاج إليها لأداء مسؤولياتها التشريعية ببساطة. مثلاً، يستدعي حساب مدة حكم أحد الأفراد إجراء مقارنة بين قوانين الأحكام المشددة وتعديلاتها على مدى عقود من الزمن ومواءمتها مع سجلات المحاكم والمقاطعات، وبالتالي لا يدرك كثير من المحكومين أنهم مؤهلون للحصول على إخلاء سبيل مبكر أو يدركون ذلك ولكن لا يستطيعون إثباته. خذ مثلاً مؤسسة رسيديفيز (Recidiviz) التي استثمرنا فيها عام 2020، إذ تعمل مع 10 ولايات حتى الآن لتزويد هيئات العدالة الجنائية بالبيانات اللازمة لتحديد المحكومين المؤهلين لإخلاء السبيل المبكر وإخراجهم من السجن، رحبت هذه الهيئات بالمساعدة وكانت النتائج مذهلة: حتى اليوم ساعدت مؤسسة رسيديفيز في إخلاء سبيل 65 ألف محكوم مؤهل بموجب القانون ولكنهم كانوا محجوبين، ولولا هذه الجهود لبقوا جميعهم محتجزين. تمكنت المؤسسة من تحقيق هذا الأثر المباشر من دون زعزعة نظام العدالة الجنائية، لم يكن عليها سوى تقديم البيانات اللازمة لتنفذ الهيئات الحالية صلاحياتها.
في نظام التعليم
نرى الأمر ذاته في المؤسسات المركزة على التحصيل العلمي، خذ مثلاً مؤسسة كينفولفد (Kinvolved) التي أصبحت اليوم جزءاً من مؤسسة باورسكول (PowerSchool)؛ لم تحاول أن تزعزع نظام التعليم العام أو إحداث تغييرات جذرية في المناهج الدراسية من أجل تحسين النتائج بل ركزت على الحدّ من تغيّب الطلاب المستمر الذي أوقف تحصيلهم العلمي بالكامل، فعلى كلّ لن يستفيد الطلاب من أي منهاج محسّن إذا لم يحضروا إلى المدرسة في المقام الأول. تمثل الحل الذي قدمته مؤسسة كينفولفد في العمل مع المدارس الحالية لتقديم معلومات فورية لأولياء الأمور والأوصياء والمدرسة نفسها عن الطلاب المتغيبين كي يتم اتخاذ الإجراءات التدخلية الفورية، وتمثلت النتيجة المباشرة لهذا الإجراء في ارتفاع معدلات حضور الطلاب اليومي بنسبة 10% وسطياً وتراجع معدلات تغيّبهم المستمر بنسبة 8% في المدارس الشريكة، ما غيّر اتجاه مسار التحصيل العلمي الطويل الأمد لمئات آلاف الطلاب من دون رجعة.
في النظام الصحي
لاحظنا أثراً مشابهاً للمؤسسات التي تركز على حصول الأفراد على حقهم من الامتيازات ولا سيما المخولين للحصول على الامتيازات الصحية ولكن الأنظمة "حجبتهم" عن النظام الصحي، ويبلغ عدد هؤلاء "المحجوبين" وفقاً للتقديرات نحو 15 مليون شخص. ولذا، تعمل مؤسسات كثيرة مثل بوزويل (Boswell) وفابريك هيلث (Fabric Health) وفرست تشير (First Chair) على البحث عن هؤلاء الأشخاص في أحيائهم والتواصل معهم حيث يعيشون لا في المكان الذي يفترض النظام أنهم يعيشون فيه، وتنطوي عملية التواصل على نشر الموظفين الاجتماعيين والمناصرين في مخازن الطعام ومحال الحلاقة والمغاسل وغيرها من المواقع ضمن الأحياء السكنية.
بالعمل على هذا النحو لم تعمل هذه المؤسسات على زعزعة النظام الصحي، فمؤسسات الخدمات الصحية ترغب في العثور على هؤلاء المستفيدين، وهي تتبع نظاماً يقدم الخدمات لهم بالفعل ولكنها لا تعرفهم، ولا تعمل هذه المؤسسات الناشئة على بناء أنظمة صحية جديدة بل تُقيم ببساطة الرابط الحيوي بين الناس ومؤسسات الخدمات الصحية المسؤولة عن تقديم الخدمات لهم. تكلفة رأس المال لهذا العمل ضئيلة جداً مقارنة بتكلفة إنشاء نظام جديد أو بناء منشآت جديدة، والأهم هو أن مخاطر تنفيذه لا تكاد تذكر.
الدروس المستفادة
الاعتماد على الشراكات الحكومية في عالم يتسم بالاستقطاب السياسي هو مجازفة في أحسن الأحوال، والأفضل بحسب الدرس الذي تعلمناه هو أن نعتمد على البرامج والبنى التحتية وآليات التمويل القائمة وإعادة استخدامها حسب الضرورة. وهذا التوجه ليس محصوراً بالولايات المتحدة الأميركية وحدها بل نراه في إفريقيا والهند أيضاً، إذ تعمل مؤسسات على الخطوط الأمامية لتقديم الخدمات للفئات المحرومة المحجوبة وزيادة تمثيلها ضمن الأنظمة القانونية الحالية وإقامة الأنشطة التي تضمن امتثال الحكومة لقوانينها الحالية، إلى جانب جهود أخرى تستهدف شتى المجالات [تشمل هذه المؤسسات إندوس آكشن (Indus Action) وبيرفوت لو (Barefoot Law) وفود فور إدجوكيشن (Food For Education) وأكاونتابيلتي كاونسل (Accountability Counsel) وغيرها]. تبرهن لنا معدلات نجاح هذه المؤسسات أن التوصل إلى الابتكار الناجح وتنفيذه يعتمدان كلياً على توزيعه بفعالية، فتوصيل الامتيازات والخدمات للمجتمعات الأكثر حاجة إليها لا يتحقق بصورة تلقائية. ومن الضروري البدء بالأنظمة القائمة و(أو) العمل على تحقيق إمكانية الوصول إلى الامتيازات والحقوق والتدابير التي تقدمها الحكومات بالفعل من أجل إيقاع أثر حقيقي، وإلا فلن يتغير شيء على الإطلاق.
لا يمكن إصلاح جميع المشكلات الاجتماعية المعقدة بالعمل ضمن الأنظمة القائمة بالطبع، بل ذلك غير ممكن بالنسبة لكثير منها. ولكن في عالم يستحيل تغيير سياساته من القمة إلى القاعدة، يجب التفكير في نهج آخر لا سيما بالنسبة للمؤسسات التي تسعى لإيقاع أثر مباشر فوري بما يتوفر لديها من الموارد، والمؤسسات التي تتعمق في بحثها أكثر ستعثر على المسارات الموجودة بالفعل، وهي وفقاً لتجربتنا الأخيرة التي ستحقق الأثر الأكبر بجزء ضئيل من التكلفة من دون إضاعة الكثير من الوقت. ستكون إمكانية الاستفادة من المسارات القائمة وإعادة استخدامها في عالم يضنّ علينا بسبل المساعدة إنجازاً ثورياً.
يمكنكم الاطلاع على النسخة الإنجليزية من المقال من خلال الرابط، علماً أنّ المقال المنشور باللغتين محمي بحقوق الملكية الدولية. إنّ نسخ نص المقال دون إذن سابق يُعرض صاحبه للملاحقة القانونية دولياً.