قد يبدو الجمع بين كلمتَيْ "رأس المال" و"الاجتماعي" مسألة غريبة، فالأول مفهوم اقتصادي يمثل المواد والأدوات اللازمة لإنشاء الأعمال أو المشاريع الاستثمارية، والثاني مصطلح واسع وغير ملموس، ينطوي على المعتقدات والقيم والعواطف. لكن في العصر الحديث المدفوع بالفردية والمصلحة الذاتية، قلّ تقدير قيمة العوامل الاجتماعية وأولوياتها، وترسخت لدى بعض الأشخاص عقلية التنافس الحاد الخالي من أي اعتبار لمصالح الآخرين. فظهر رأس المال الاجتماعي كرد فعل على رأس المال الذي يركز على مراكمة الأرباح فوق الأرباح الأخرى.
ويضع رأس المال الاجتماعي المشاكل الاجتماعية والبيئية وتحقيق الصالح العام، وخلق الثقة والاحترام المتبادل، وتحسين وظائف الفئات الاجتماعية والمؤسسات بقلب أولويايه.
ما تعريف رأس المال الاجتماعي؟
تُعرِّف منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية رأس المال الاجتماعي على أنه "شبكات مع قواعد وقيم وتفاهمات مشتركة تسهّل التعاون داخل المجموعات أو فيما بينها"، وبذلك، يمثل مورداً حيوياً للمجتمعات والمؤسسات ويمكّنها من العمل بفعالية عبر الاستفادة من شبكة العلاقات القائمة على الثقة والتعاون والمشاركة.
رأس المال الاجتماعي مفهوم جديد نسبياً، لكنه لا يمثل أفكاراً جديدة. وإنما يعكس طريقة مختلفة للتفكير في أهمية التواصل الاجتماعي والتعاون من أجل المنفعة المتبادلة، وكان عالم الاجتماع الفرنسي بيير بورديو (Pierre Bourdieu)، أول من عرّف نظرية رأس المال الاجتماعي في عام 1985. وسعى لفهم كيفية حفاظ الطبقات العليا على مستواها الاجتماعي، ولم يكن يعتقد أن رأس المال الاقتصادي السبب الوحيد لذلك، بل وجد أن الافتقار إلى رأس المال الاجتماعي هو الذي يمنع الحراك الاجتماعي ويعزز التفاوتات الاجتماعية.
وتطرق بعدها العديد من علماء الاجتماع، منهم الأميركي جيمس كولمان (James Coleman)، إلى مفهوم رأس المال الاجتماعي إلى أن أتى أستاذ السياسة العامة بجامعة هارفارد، روبرت بوتنام (Robert Putnam)، بمنظور حديث للمفهوم. في مقاله الذي نُشر عام 1995 بعنوان: "البولينغ وحده: رأس المال الاجتماعي المتدهور لأميركا" (Bowling Alone: America’s Declining Social Capital)، جادل بوتنام بأن تغيير السلوك في أميركا يؤدي إلى تفكك الروابط الاجتماعية ويضر بالمشاركة المدنية والتنمية الاقتصادية، وأن رأس المال الاجتماعي لديه القدرة على بناء مجتمع أكثر أماناً وسعادة وصحة.
أهمية رأس المال الاجتماعي
يُولي مفهوم رأس المال الاجتماعي أهمية للعلاقات الاجتماعية والأنشطة الثقافية، فهي قادرة على منح الأفراد القوة والتأثير والمعرفة اللازمة للتكيف بفاعلية وسرعة مع التغيرات الاقتصادية والاجتماعية، ولها دور في الضبط الاجتماعي والدعم الأسري، وتحقيق المنافع من شبكات خارج نطاق الأسرة.
كما تعد العلاقات الاجتماعية أمراً حيوياً لكفاءة الجماعات والمؤسسات واستمراريتها، فتعاون الأفراد معاً سيساعدهم على الابتكار ومواجهة المخاطر ومعالجة المشكلات المجتمعية مثل الفقر والبطالة، لينعكس ذلك في الاستغلال الأمثل للموارد وتحسين الأداء الاقتصادي عبر تقديم بيئة محفزة على الإنتاج.
يساعد رأس المال الاجتماعي الحكومات في مواجهة الضغوط الاجتماعية والاقتصادية المتزايدة مع الحفاظ على فرص التماسك الاجتماعي والعدالة للجميع، إذ يتكون من مجموعة أبعاد قائمة على شبكات العلاقات الشخصية والشعور بالفهم المتبادل التي تمكن الناس من العيش والعمل معاً بفاعلية.
أبعاد رأس المال الاجتماعي
يدور رأس المال الاجتماعي حول ثلاثة أبعاد، هي:
- البُعد الهيكلي: يتعلق هذا البُعد بخصائص النظام الاجتماعي، والأشكال المختلفة للتنظيمات التي يتكون منها المجتمع، وينعكس من خلال شبكات مترابطة من العلاقات بين الأفراد والجماعات (الروابط الاجتماعية أو المشاركة الاجتماعية)، والتي يمكن الاعتماد عليها للحصول على المعلومات أو المساعدة.
- البُعد العلائقي: يشير هذا البُعد إلى مستويات الثقة التي تميز هذه الروابط الاجتماعية والتي تؤدي إلى سمات سلوكية مثل الاحترام وحسن النية والتضامن والالتزام.
- البُعد المعرفي: يمثل هذا البُعد الموارد أو الفوائد التي يتم اكتسابها وتحويلها بفضل الروابط الاجتماعية والمشاركة الاجتماعية، فاللغة والرموز المشتركة ستوفر أساس أفضل للتواصل والتفاعل، وتخلق مجموعة من معايير السلوك المقبول.
تعد المعرفة المشتركة وجودة العلاقات أبعاد غير ملموسة وتنبع من الملاحظة والإدراك والرأي الشخصي، لذا فهي ذاتية ومتغيرة بين الأفراد والسياقات، لكن كيف يمكن تحقيق هذه الأبعاد لبناء رأس مال اجتماعي قوي؟
بناء رأس المال الاجتماعي
يرتبط بناء رأس المال الاجتماعي بتحسين الهياكل الاجتماعية والمواقف والقيم والسلوكيات الاجتماعية، لذا يجب على الحكومات التركيز على تطوير طرق تفاعل الأفراد وتعاونهم مع بعضهم البعض، والتنظيم الذي يؤدي إلى تغيير المجتمع على المدى الطويل، فالتخطيط المادي للمدن والأحياء يؤثر في بناء رأس المال الاجتماعي والحفاظ عليه من خلال تشجيع التفاعل الاجتماعي للسكان أو تثبيطه.
وتنعكس قوة بناء رأس المال الاجتماعي في الدول من خلال عدة مؤشرات، مثل مؤشر العطاء العالمي، الصادر عن مؤسسة المساعدات الخيرية البريطانية، كاف، (Charities Aid Foundation. CAF)، إذ حصلت مصر على المرتبة الثامنة عالمياً في معيار مساعدة الغرباء، فيما تصدّرت البحرين منطقة الشرق الأوسط في معيار التبرع بالمال، لتنال المرتبة العاشرة عالمياً في هذا الصدد.
وينعكس بناء رأس المال الاجتماعي أيضاً من خلال مؤشر ثقة الأفراد بالحكومات وقدرتها على العمل من أجل الصالح العالم، وإتاحة الفرصة لمنظمات المجتمع المدني لاتخاذ القرار والمساهمة في توجيه البرامج والاستراتيجيات، وفي هذا الإطار، حققت الإمارات المركز الثاني عالمياً في مستويات ثقة الشعوب بحكوماتها، حسب مؤشر إيدلمان للثقة 2022، الصادر عن مؤسسة إيدلمان (Edelman) الأميركية للدراسات والاستشارات.