حوكمة العمل الخيري في المنطقة العربية كطريق لزيادة العطاء

5 دقائق
حوكمة العمل الخيري
shutterstock.com/ seamind224

"السؤال الأكثر إلحاحاً واستعجالاً في الحياة هو: ماذا تفعل من أجل الآخرين؟"، هكذا وصف الناشط السياسي والإنساني الأميركي مارتن لوثر كينغ (Martin Luther King) العمل الخيري، وهي مقولة تنطبق على الأفراد والمؤسسات وحتى الدول، لكن التركيز حالياً ينصب أكثر على المؤسسات الخيرية، سواء الخاصة منها أو الحكومية، لا سيما في ظل طرق الحوكمة الحديثة التي أصبحت تعتمدها لتعزيز فاعليتها، فممارسات الحوكمة لم تعد حصراً على المؤسسات الربحية، بل انتقلت للقطاع غير الربحي وأصبحت ضرورة مع تشعب فروع العمل الخيري ومجالاته. 

على الرغم من الجهود المبذولة في منظومة العمل الإنساني لتطبيق ممارسات الحوكمة المؤسسية؛ إلا أن الدراسة التي أعدتها مبادرة بيرل عام 2018 بعنوان: حالة الحوكمة في قطاع العطاء الاجتماعي - منطقة الخليج أظهرت الحاجة إلى تطوير ممارسات الحوكمة في المؤسسات غير الربحية، ويعتقد 82% من المشاركين فيها بضرورة تعزيز ممارسات الحوكمة داخل مؤسساتهم، ولفت 60% منهم إلى أهمية الشفافية في اتخاذ قرارات التمويل، وفي الوقت الذي أفاد فيه 85% من المشاركين بأن الجهات التي يمثلونها تلتزم بمبدأ الشفافية؛ تبين أن معظم المعلومات تتم مشاركتها داخلياً، وفي حال مشاركتها مع الجهات المانحة والجمهور، يكون ذلك من خلال نشر التقارير السنوية على المواقع الإلكترونية.

وسنتطرق فيما يلي لأهم العوامل التي تعزز فعالية الحوكمة في العمل الخيري، ثم نسرد أمثلة من المبادرات المهمة  في هذا المجال بالبلدان العربية.

تعزيز مبدأ الشفافية

يُعد نقص البيانات ومعايير الشفافية والمساءلة من العقبات التي تقف أمام تحسين حوكمة القطاع الخيري وتعظيم آثاره، وفي دراسة استطلاع العطاء العربي التي أعدتها مجلة زمن العطاء، وشركة يوغوف (YouGov) للدراسات عام 2015، تبين أن 71% من المتبرعين المشاركين في الاستطلاع سيوقفون تبرعاتهم إلى المؤسسات الخيرية ذات الأداء السيئ والتي لا توضح كيفية إنفاق الأموال والجهات المستفيدة منها، فيما أصبح 76% من المانحين يطالبون المؤسسات الخيرية بتقديم أدلة تؤكد مدى فعاليتها، واعتماد الشفافية في الإفصاح عن نتائج أعمالها.

من جهة أخرى، تشكل الشركات العائلية مصدراً مهماً للعطاء في المنطقة، لكن حجم تبرعاتها مرهون بقدرة المؤسسات الخيرية على إثبات كفاءتها، وبحسب تقرير شركة آند استراتيجي (Strategy&) الاستشارية الصادر عام 2017 بعنوان: من العمل الخيري التقليدي إلى التأثير الخيري: خلق إرث للشركات العائلية في الخليج (From Traditional to Impact Philanthropy: Creating a Legacy for GCC Family Bussinesses)، فإن أكبر 100 شركة عائلية في الخليج تتبرع بما لا يقل عن 7 مليارات دولار للأعمال الخيرية سنوياً، و71% من هذه الشركات تفيد باحتمالية زيادة تبرعاتها في حال تحسنت أطر الحوكمة في المؤسسات الخيرية.

البعد الاستراتيجي للعمل الخيري 

تأتي أهمية ممارسات الحكومة في قطاع العمل الإنساني مع توقعات بنمو هذه القطاع خلال العقدين المقبلين، إذ ستكون إفريقيا وآسيا مصدراً لنمو قطاع العمل الخيري خلال الـ 25 عاماً المقبلة، كما سيؤدي ظهور جيل جديد من صناع التغيير الشباب إلى تحول جذري في العمل الخيري، ويشكل فرصة لتوظيف ثروات المنطقة في مجال العطاء الهادف والخير المستدام، إذ توقعت شركة ويلث إكس (Wealth- x) الاستشارية في تقريرها الصادر بعنوان: تحول عام: تقرير نقل الثروات العائلية لعام 2019 انتقال نحو 15.4 تريليون دولار على مستوى العالم خلال العشرة أعوام المقبلة من جيل الآباء إلى جيل أبنائهم الشباب، ويمثل هذا الانتقال فرصة كبيرة لمنطقة الشرق الأوسط خصوصاً أن الشباب يشكلون نصف سكانها، وهم قادرون على أخذ زمام المبادرة والعمل على تحقيق مستقبل أكثر استقراراً لهم ولمجتمعاتهم.

مبادرات لتعزيز حوكمة العمل الخيري

بناءً على المعطيات السابقة، انطلقت مبادرات في المنطقة تسعى لتعزيز ممارسات الحوكمة في منظومة العمل الخيري، منها:

  • مبادرة العمل الخيري الاستراتيجي

انطلقت مبادرة العمل الخيري الاستراتيجي بموجب اتفاقية بين جامعة نيويورك أبوظبي ورجل الأعمال والريادي الاجتماعي الإماراتي بدر جعفر، وتستهدف تطوير ممارسات استراتيجية لتعزيز كفاءة العمل الخيري في الإمارات ومنطقة الخليج والشرق الأوسط وشمال إفريقيا، وتحفيز المانحين على التعاون في العطاء من خلال تقديم نماذج جديدة للاستثمارات الخيرية عبر شراكات فعّالة بين المؤسسات الخاصة والعامة وغير الحكومية في جميع أنحاء المنطقة.

وتعزيزاً لمبدأ الشفافية؛ ستعمل جامعة نيويورك أبوظبي بالشراكة مع عدد من المراكز المختصة بدراسة العمل الخيري، على جمع البيانات الموثوقة وتسهيل الحصول عليها وإجراء الأبحاث وإصدار التقارير ونشر مقالات مدروسة لتساهم مبادرة العمل الخيري الاستراتيجي في تعزيز الجانب الأكاديمي للعطاء وتوسيع انتشاره وتعزيز فعاليته على المستوى المحلي والإقليمي والدولي.

وتمثل مبادرة العمل الخيري الاستراتيجي مبدأ الحوكمة من خلال الشراكة والتعاون الذي يجمع بين خبراء الاقتصاد والسياسة، وجيل العطاء المقبل، والمفكرين الاجتماعيين وواضعي السياسات وطلاب جامعة نيويورك أبوظبي لخدمة المجتمع بالعمل الخيري على المدى البعيد.

تستهدف المبادرة أيضاً تزويد الشباب بالأدوات والموارد والبنية التحتية اللازمة لتعزيز قدراتهم في تحقيق أهداف التنمية المستدامة، وستعمل على إقامة تدريبات للطلاب ورواد العطاء، وتنظيم مؤتمرات تجمع المانحين وقادة الأعمال وواضعي السياسات لمناقشة واقع الخيري وسبل تطويره وزيادة رؤوس الأموال المكرسة لخدمة المنطقة.

وبهدف تحفيز الشباب وتشجيعهم على الأفكار المبتكرة لخدمة المجتمعات في المنطقة والعالم؛ ستُجري المبادرة مسابقة للطلاب في مجال العمل الخيري بهدف خلق بيئة تنافسية تؤدي إلى تطوير مفهوم العطاء.

  • مبادرة بيرل

انطلقت مبادرة بيرل عام 2010 بقيادة الرئيس التنفيذي لمجموعة الهلال، بدر جعفر، وتعد من المشاريع التي تشجع الشركات في الخليج والشرق الأوسط على العطاء الفعّال والاستراتيجي واعتماد الشفافية والمساءلة والاستدامة لتعظيم أثر القطاع غير الربحي.

وتقدم المبادرة مجموعة من البرامج التي تهدف إلى توفير معلومات ورؤى متعمقة حول أهمية الحوكمة المؤسسية، وتنظيم مناقشات حول كيفية الارتقاء بممارسات الحوكمة المؤسسية وحث قادة الأعمال الحاليين والمستقبليين على فهم تلك المبادئ والممارسات وأهمية تنفيذها لتطوير قطاع الأعمال المجتمعية.

في عام 2020، أنشأت المبادرة منصة رقمية جديدة تحت اسم الحلقة (Circle) لتقديم مجموعة واسعة من الأفكار والتحليلات والموارد والأدوات الرقمية التي يمكن للمانحين توظيفها لتحقيق أكبر أثر ممكن من أعمالهم الخيرية، وتوفر ايضاً محتوى باللغتين العربية والإنجليزية حول أحدث الاتجاهات وأفضل الممارسات في مجال العطاء الخيري، ومجموعة واسعة من الأدلة والأدوات العملية التي يمكن استخدامها لوضع استراتيجيات عطاء وتنفيذها بفاعلية، فضلاً عن تقديم المنح المسؤولة.

وتمكنت المبادرة منذ تأسيسها من تنظيم 222 فعالية في دول المنطقة، بمشاركة 12,541 شخص و512 متحدثاً اقليمياً، وأصدرت 31 منشوراً وتقريراً عن الرؤى الإقليمية، وتعاونت مع 40 جامعة من مختلف أنحاء منطقة الخليج، ووصلت إلى نحو 8,400 طالب من خلال ورش العمل ومسابقات دراسات الحالة.

  • رؤية السعودية 2030 وحوكمة القطاع غير الربحي

يواجه القطاع غير الربحي في السعودية عدة تحديات، استجابت لها المملكة من خلال إطلاق مبادرة حوكمة القطاع غير الربحي، إحدى مبادرات برنامج التحول الوطني، التي تستهدف ضمان التزام المؤسسات الخيرية بالأنظمة ذات العلاقة واللوائح التنظيمية والأساسية وممارسات الحوكمة الفعّالة.

وفي عام 2019، وضعت وزارة الموارد البشرية والتنمية الاجتماعية نظاماً يحدد 3 معايير لحوكمة عمل الجمعيات والمؤسسات الأهلية بالمملكة، هي :

  1. السلامة المالية: يهدف إلى إيجاد أسس موحدة لتقييم الأداء والتنظيم المالي للجمعيات الأهلية، ومساعدة الجمعيات في تحسين كفاءة إدارة الأموال لديها، وإدارة المخاطر المالية، إضافة إلى تقييم جودة وسلامة الإجراءات المالية.
  2. الامتثال والالتزام: يهدف إلى التأكد من التزام المؤسسات بالأحكام والضوابط المنظمة لمجلس الإدارة وزيادة فاعليته، وإدارة ملف الجمعية العمومية للمؤسسات بكفاءة عالية، والالتزام بمكافحة جرائم الإرهاب وتمويله وغسل الأموال.
  3. الشفافية والإفصاح: يتمثل في حث المؤسسات غير الربحية على الالتزام بأفضل الممارسات العالمية في الشفافية والإفصاح، وتحسين الصورة الذهنية للقطاع غير الربحي ورفع مستوى ثقة الرأي العام به.

وتحقيقاً لأهداف رؤية 2030 حول تمكين القطاع غير الربحي، وتعظيم أثره على الصعيدين الاجتماعي والاقتصادي، تأسس المركز الوطني لتنمية القطاع غير الربحي عام 2019، بهدف تعزيز معايير الحوكمة في المؤسسات غير الربحية، وتحديد استراتيجية عمل هذه المؤسسات ودعم التشريعات والسياسات ذات العلاقة، ومتابعة أداء هيئات القطاع غير الربحي ونشر إحصاءاتها دورياً.

ختاماً، "جميل أن تعرف معنى العطاء، والأجمل أن تعطي"، بهذه الجملة لخص السياسي الهندي المهاتما غاندي (Mahatma Gandhi) ضرورة فهم مغزى العمل الخيري ومعرفة أفضل طرق إدارته، وهذا ما يتناسب مع فكرة الحوكمة التي تسعى إلى تحسين أداء المؤسسات الخيرية وضمان تحقيق الهدف المرجو منها.

المحتوى محمي