يُعد إنفاق الأموال على الأبحاث أو تحسين عملية البحث، من أبرز عوامل القوة التي يمكن للمؤسسات الخيرية الاستفادة منها.
ينبغي للمؤسسات الخيرية تمويل القضايا التجميعية (meta-issues)، كالبحث والتقييم جنباً إلى جنب مع الجهود المبذولة لتحسين جودة البحث، ففي كثير من الأحيان سيؤدي ذلك إلى تأثير إيجابي أكبر مما تفعله الخطوات المتخذة حالياً.
كيف يؤدي البحث الشمولي إلى تحسين واقع العمل الخيري؟
على افتراض أننا نريد دعم قضية معينة، كالتنمية الاقتصادية في إفريقيا، أو إصلاح نظام العدالة الجنائية في الولايات المتحدة الأميركية على سبيل المثال، فإننا قد ننفق في سبيل ذلك ملايين أو حتى مليارات الدولارات.
لكن التحول إلى الأبحاث التجميعية (go meta) يتمثل في تمويل بحث عالي الجودة يسعى للتعرف إلى الحلول الفعالة لهذه المشكلات، لذلك إذا استثمرنا على نحو كبير في أبحاث العلوم الاجتماعية والسلوكية، فإننا قد نجد طرقاً لا حصر لها لتحسين الوضع الراهن للأعمال الخيرية.
وبدلاً من أن يتمحور الأمر فقط حول مساعدة المنظمات غير الربحية التي تسعى إلى تعزيز التنمية الاقتصادية أو إصلاح نظام العدالة الجنائية، فإننا سنكتشف ما يصلح وما لا يصلح لعلاج المشكلة وقد يحمل هذا فوائد أكبر لجميع المؤسسات المانحة.
قد تجد هذه المؤسسات بعد البحث الموسع أن بعض أفكارها الأولية غير مجدية وعلى الرغم من أن هذا الأمر قد يكون مزعجاً في البداية فإنه سيؤدي إلى تحسين الحال من خلال تجنيب هذه المؤسسات إهدار الأموال على هذه الأفكار. قد تنطوي بعض السياسات على أفكار جيدة بالفعل مثلاً حملات التطعيم، ولكن دون القدرة على إيصال التطعيمات إلى السكان المتضررين بصورة كافية، ويمكن أن تساعد أبحاث العلوم الاجتماعية والسلوكية (كما في مشروع ميركوري (Mercury) التابع لمجلس أبحاث العلوم الاجتماعية (Social Science Research Council) في إيجاد طرق فعالة من حيث التكلفة لحل هذه المشكلة.
وينطبق الأمر ذاته على العلوم الطبية الحيوية أيضاً، فإذا كانت المؤسسة المانحة مهتمة بعلاج السرطان فيمكنها بسهولة التبرع بمبالغ كبيرة من المال تدفع للمرضى للحصول على العلاج، ومن المؤكد أن ذلك سيساعد هؤلاء الأشخاص مالياً، وربما من الناحية الصحية أيضاً (يزيد دواء السرطان الجديد متوسط العمر الافتراضي بنحو شهرين فقط، لذا فإن النتائج الصحية الجيدة ليست مضمونة بأي حال من الأحوال).
من ناحية أخرى، يمكن للمؤسسات المانحة الاستثمار في أبحاث السرطان المبتكرة، وقد تؤتي هذه الأبحاث ثمارها وقد لا تفعل، ولكن إذا تمكنت المؤسسة المانحة من مساعدة العلماء على اكتشاف دواء آخر مثل جليفيك (Gleevec) (دواء رفع معدل البقاء على قيد الحياة لمدة خمس سنوات لدى مرضى ابيضاض الدم النقوي المزمن من 30% إلى 89%)، فإن ذلك سيكون له تأثير أكبر في علاج السرطان وليس مجرد دفع ثمن علاج موجود ولكن غير فعال بما فيه الكفاية.
أهمية النهج التجميعي في الأبحاث الأكاديمية
افترض أنك تريد دعم البحث الأكاديمي في مجال معين، سواء كان ذلك في التنمية الاقتصادية أو إصلاح نظام العدالة الجنائية أو أبحاث السرطان أو علم الوراثة، وغير ذلك.
لسوء الحظ، بعض الأبحاث الأكاديمية ليست على درجة عالية من الكفاءة فهي لا تستخدم أساليب إحصائية قوية، أو لا تجمع عدداً كافياً من العينات، وما إلى ذلك. لهذا السبب لدينا مشكلة ملحوظة بالافتقار إلى قابلية تكرار الأوراق البحثية في العديد من المجالات، فإذا كانت المؤسسة ترغب في دعم البحث حول قضية معينة، فيجب أن تسعى إلى أن يكون هذا البحث دقيقاً ويتيح تكرار النتائج.
في الوقت نفسه، فإن الكثير من الأبحاث الأكاديمية هامشية ومكررة إلى حد ما، لأن نظام التمويل الفيدرالي لدينا (على الرغم من الادعاء بعكس ذلك) يفضل الأبحاث المرتكزة إلى مراجعة الأقران (التي تركز على تحقيق الإجماع بدلاً من تمويل الأفكار التي تنطوي على المخاطرة)، ومن المعتاد أن نسمع كبار العلماء (حتى الفائزين بجائزة نوبل) يقولون إن جدول عملهم البحثي سيكون أكثر طموحاً إذا لم يضطروا إلى تلبية توقعات الممولين.
ولذلك فإنه من المهم التحول إلى الأبحاث التجميعية: إذا كانت المؤسسات المانحة ترغب في إحداث تأثير في مجال معين، فإن ذلك يتطلب تمويل جهود الأبحاث التجميعية من أجل تحسين الأبحاث (مثل قابلية التكرار أو الابتكار).
لنأخذ علم النفس مثالاً:
إذا كنت مموِّلاً وتؤمن بشدة بعلم النفس الأكاديمي، فإنه بإمكانك استثمار أموالك، على سبيل المثال، في إجراء 100 تجربة نفسية. في النهاية ستحصل على مجموعة كبيرة من الأوراق البحثية، قد يكون بعضها مهماً، وحتى أن بعضها قد يكون صحيحاً،
ولكن ماذا لو، فعلت ما فعله ستيوارت (Stuart) خلال وجوده في مؤسسة أرنولد (Arnold Foundation) بدلاً من ذلك، وهو تمويل شخص كالمؤسس المشارك لمركز العلوم المفتوحة (Open Science) لتكرار 100 تجربة نفسية أخرى بطريقة منهجية وإنتاج ورقة بحثية رائدة لتقييم المجال؟ سيكون لذلك تأثير في عشرات الآلاف من الأوراق البحثية اللاحقة في علم النفس (بالإضافة إلى العديد من الأوراق البحثية في التخصصات الأخرى) من خلال خلق زخم كافٍ لتحسين المعايير في هذا المجال، إذ وجد هذا المشروع أنه يمكن تكرار أقل من نصف أوراق علم النفس البحثية بنجاح، ما دفع المجلات العلمية والباحثين إلى تحسين ممارساتهم .
لنأخذ أيضاً التجارب السريرية في الطب، إذ يمكنك إنفاق 30 مليون دولار على تجربة سريرية واحدة تخص نوعاً واحداً من السرطان، أو عقاراً لمرض آلزهايمر، أو إنفاق 30 مليون دولار بدلاً من ذلك لمحاولة التغلب على العوائق التنظيمية والتكنولوجية لإجراء تجارب سريرية سريعة وفعالة. وإذا نجحت التجربة، فقد تتمكن من إجراء الكثير من التجارب السريرية التي تبلغ تكلفة كل منها 3 ملايين دولار والتي لم تكن لتنجح لولا إجراء هذه الأبحاث الشاملة الأولية.
من المؤكد أننا لا نقترح الالتزام بذلك كقاعدة صارمة إذ ثمة العديد من الأسباب التي قد تجعل المؤسسة الخيرية تختار التركيز أكثر على الخدمات المباشرة أو على المصلحة العامة، ومن جهة أخرى هناك بعض المؤسسات التي تلتزم التزاماً كبيراً بالبحث والتطوير. وجهة نظرنا هي أن الأبحاث (وخاصة الجهود المبذولة لتحسين البحث) تفتقر إلى الموارد التي في حال توفرها ستساعد على اغتنام الكثير من الفرص وحتى جني بعض الثمار.
وخلاصة القول هي أن إنفاق الأموال مباشرةً على البحث والتطوير، أو تحسين هذه العملية، من أكثر الطرق الفعالة التي تمكن العمل الخيري من إحداث فرق في العالم.
يمكنكم الاطلاع على النسخة الإنجليزية من المقال من خلال الرابط، علماً أنّ المقال المنشور باللغتين محمي بحقوق الملكية الدولية. إنّ نسخ نص المقال دون إذن سابق يُعرض صاحبه للملاحقة القانونية دولياً.