بدأ الاستثمار في الحوكمة البيئية والاجتماعية وحوكمة الشركات (ESG) ينتشر في كل مكان، وهو نهج استثماري مصمم للنظر في مجموعة أوسع من العوامل التي تؤثر في العوائد المالية. وأصبح مجال (ESG) رائجاً ومثيراً للغاية لدرجة أنه سيصبح سوقاً بقيمة 1 تريليون دولار بحلول عام 2030. وفي النهاية، يبدو أن القطاع المالي يُفكر جدياً بشأن دور العوامل الاجتماعية في الاستثمار.
ولكن في حين أن "الحوكمة البيئية والاجتماعية وحوكمة الشركات تصبح مجالاً رائجاً" هو عنوان رئيسي جذاب ويبدو أنه يحمل أخبار جيدة، إلا أن الواقع حتى الآن مختلط في أحسن الأحوال، ومخيبة في أسوأها. وعلى وجه التحديد، فإن الطريقة التي تطور بها سوق (ESG) تحد من الفوائد المحتملة التي يمكن أن تحققها تريليونات الدولارات من رأس المال المخصص له والتي ستعود على المجتمع والكوكب ككل.
هذه المحدودية تظهر تبعاً لسببين رئيسيين؛ أولاً، لأن العوامل التي تؤثر على العوائد المالية هي فقط التي تُعتبر ذات "تقدير مادي" بالنسبة لمستثمري (ESG). وثانياً، لأن الحوكمة الاجتماعية ضمن (ESG) لا زالت متخلفة بشكل يرثى له.
فلا يزال تعريف الحوكمة الاجتماعية قيد البحث، وبدون أي تفكير جاد فيه دوره ضمن ممارسات (ESG) حتى الآن فإننا نخاطر بمضاعفة الخطيئة الأصلية للحوكمة البيئية والاجتماعية وحوكمة الشركات، وهي تجاهل القضايا التي تهم الناس والكوكب لأنها لا تؤثر بشكل مباشر على صافي الدخل والمحصلة النهائية. ,إذا واصلنا السير في هذا المسار، فمن شبه المؤكد أن يظل الاستثمار في الحوكمة البيئية والاجتماعية وحوكمة الشركات بمثابة ستار من دخان، وهو ما يخلق مظهراً لنهج أكثر تأثيراً اجتماعياً على الرأسمالية بينما يتجاهل بعضاً من أهم الآثار السلبية التي يمكن أن تتسبب بها الشركات للأفراد والمجتمعات.
الأهداف المحدودة للحوكمة البيئية والاجتماعية وحوكمة الشركات
على الرغم من أن الاستثمار في (ESG) غالباً ما يكون مشمولاً كجزء ضمن منظومة العمل الاستثمارية الأوسع تأثيراً، فمن المهم أن نكون واضحين بشأن الاختلافات بينهما منذ البداية.
فالاستثمار في (ESG) في أبسط أشكاله هو إجراء "فحص سلبي" لعدم الاستثمار في الشركات ذات الممارسات الضارة أو إشراك أحد قيادات الشركة بفعالية لتغيير تلك الممارسات - بينما يشير الاستثمار المؤثر إلى الاستثمارات التي تم إجراؤها بهدف إحداث تأثير إيجابي قابل للقياس إلى جانب العائد المالي. ويُنظر إلى الاستثمار في (ESG) بشكل عام على أنه بديل "فعل الخير" للاستثمار التقليدي، إلا أن هذا النهج كما تتم ممارسته حالياً لا يولد تأثيراً إيجابياً أو يقيسه، إلا من خلال تقليل الأذى بالمقارنة مع الوضع الراهن.
وبالرغم من أن تقليل الأذى هدف يستحق العمل لأجله، إلا أن الأضرار المحددة التي ركزت عليها (ESG) حتى الآن محدودة بـ "عوامل التقدير المادي" التي تؤثر على ماليات شركة ما. وبسبب هذا "الفحص وفق التقدير المالي"، فإن الأضرار المرتبطة بـ ESG تختلف بشكل كبير حسب القطاع؛ حيث قد تشمل إدارة النفايات بالنسبة لشركة ما، أو انبعاثات الكربون بالنسبة لشركة أخرى، أو صحة وسلامة العاملين بالنسبة لشركة ثالثة.
وفقاً لتعريفها، فإن الحوكمة البيئية والاجتماعية وحوكمة الشركات لا تأخذ في الاعتبار الأضرار التي قد تسببها شركة ما على المجتمع أو البيئة والتي لا تتعلق بالمحصلة المالية. و"التقدير المادي" (Materiality) هو مصطلح يطلقه القطاع على أي شيء له عواقب مباشرة أو يشكل خطراً بالنسبة للمستثمرين.
من الذي تعمل ESG من أجلهم؟
متى قرأنا لفظ "التقدير المادي" علينا أن نتذكر ونسأل: ما هي هذه المخاطرة؟ وبالنسبة لمن؟ تم تطوير أطر عمل الحوكمة البيئية والاجتماعية وحوكمة الشركات (ESG) من قبل مؤسسات المعايرة من أجل المستثمرين، لذلك ليس من المستغرب أن ينصب تركيزها على تحديد ومعالجة المخاطر التشغيلية الرئيسية والمخاطر المتعلقة بالسمعة على المحصلة المالية النهائية. وفي حين أنه من الصحيح أن هذه الهيئات تستحق الثناء لتوسيع نطاق ما يجب على مجتمع الاستثمار مراعاته في قراراته الاستثمارية، إلا أن العيب الأساسي في هذا النهج يظل قائماً؛ حيث أن هناك الكثير من الأشياء التي تقوم بها الشركات والتي تساهم في مفاقمة مشاكل العالم دون أن تؤثر على ربحية الشركة.
وتظهر هذه المشكلة بشكل خاص عندما يتعلق الأمر بالعوامل الاجتماعية في (ESG). وكما ذكر هانز تاباريا، الأستاذ الجامعي بجامعة نيويورك في مقال نُشر مؤخراً في ستانفورد سوشيال إنوفيشن ريفيو، "لا علاقة لمعظم تقييمات (ESG) بمسؤولية الشركة الفعلية بقدر صلتها بالعوامل الاجتماعية".
وهم الحوكمة الاجتماعية
ما الذي ينبغي بالحوكمة الاجتماعية في (ESG) أن تُشير إليه؟ من المنطقي أن نفترض أنها تشير إلى النتائج الاجتماعية المرتبطة برفاهنا الفردي أو بالمجتمعات المزدهرة، وتقيس أشياء مثل الصحة العقلية أو البدنية، والتعليم، والتعلم، أو عناصر الرفاه الذاتية مثل الكرامة الشخصية أو تماسك المجتمع. ومع ذلك، كما هو مُتصور حالياً، فإن الحوكمة الاجتماعية في (ESG) بشكل عام ليس لها علاقة كبيرة بهذا الفهم البديهي والمنتشر للتأثير الاجتماعي.
بدلاً من ذلك، للأسباب الموضحة أعلاه، فإن أطر عمل (ESG) مثل تلك التي طورها مجلس المعايير المحاسبية للاستدامة (SASB)، والتي تستخدمها مئات الشركات الكبرى في جميع أنحاء العالم لتقديم مطالبات الاستدامة إلى المستثمرين، تقتصر على مواد ذات تقدير مادي محدد للغاية وأبعاد مركزة على الامتثال مثل حقوق العمل وأمن البيانات وخصوصية المستهلك.
بسبب هذا التعريف المحدود، هناك العديد من الشركات التي تسيء معاملة العمال وتؤدي إلى تدهور النتائج الصحية - أي تسبب ضرراً واضحاً للمجتمع من خلال تحسين صافي أرباحها - بينما لا تزال هذه الشركات تحصل على أعلى تقييمات (ESG). وإلا كيف يمكن للمرء أن يفسر حقيقة أن شركة التبغ الأميركية البريطانية (British American Tobacco) كانت جزءاً من مؤشر داو جونز للاستدامة على مدار العشرين عاماً الماضية، وحصلت على أعلى الدرجات طوال الوقت.
في غياب أي محاولة لفهم رفاهنا الاجتماعي الفردي أو الجماعي، فإن تقييمات الحوكمة الاجتماعية تلجأ إلى وجود سياسات أو لجان. فعلى سبيل المثال، ستحصل شركة ما لديها سياسة تنوع مفصلة أو مجلس للأمان في مكان العمل على تصنيف (ESG) جيد، ولكن في معظم الحالات، غالباً ما يكون لدى هذه الشركات نفسها بيانات محدودة أو معدومة من الموظفين أنفسهم لالتقاط تأثير هذه السياسات على الناس أو الأماكن.
أما التقييم الأكثر جدوى للتأثير الاجتماعي للشركات، فقد يأخذ في الاعتبار تنوع أصحاب المصلحة المتأثرين بالأعمال التجارية- من الموردين والموظفين إلى العملاء والمجتمعات - ويحاول فهم جميع التأثيرات الإيجابية والسلبية التي قد تتسبب بها الشركة على أصحاب المصلحة هؤلاء. وسيكون هذا النهج أكثر اتساقاً مع الخطوات التي يتم اتخاذها للإفصاح عن المناخ، فمن المتوقع الآن أن تبدأ المزيد من الشركات بفهم انبعاثات الكربون الخاصة بها على طول سلاسل التوريد الخاصة بها، مع تقييم أنشطتها المباشرة وغير المباشرة.
تغيير المسار
دون إجراء تحول جذري من عقلية "الربح أولاً، والمجتمع ثانياً" التي تهيمن حالياً على الحوكمة البيئية والاجتماعية وحوكمة الشركات (ESG)، فمن المرجح أن يؤدي النهج بأكمله إلى تفاقم واحدة من أكبر القضايا الاجتماعية في عصرنا: عدم المساواة المتزايدة. ونتيجة لذلك، يُمكن تصميم بنية (ESG) التنظيمية ليكون لها تأثير سلبي على الحوكمة الاجتماعية. فبعد كل شيء، يعزز النظام كما هو مصمم حالياً نموذج عائدات أصحاب المصلحة الذي يتفوق على مطالب أصحاب المصلحة. ومن دون إعادة النظر في هذا النموذج، قد تكون (ESG) أسوأ حتى من "علاج عشبة القمح لمعالجة السرطان"، كما وصفها طارق فانسي، أول رئيس استثمار عالمي للاستثمار المستدام في شركة "بلاك روك" (BlackRock). فهل يمكن أن يُنظر إلى (ESG) على المدى الطويل كما يُنظر إلى حمية غذائية تعتمد على السجائر والكحول لتقليص ورم خبيث؟
هذا لا يعني أنه لا يوجد مكان لتصحيح المسار. في الواقع، مثل هذه الفرص تظهر أمامنا طوال الوقت. وإحدى هذه الفرص التي فاتتنا مؤخراً، كانت إنشاء مجلس معايير الاستدامة الدولية (ISSB)، والذي يهدف إلى مواءمة معايير (ESG) الحالية. لسوء الحظ، إن الإطار الحالي لمجلس (ISSB) يحافظ على البنية التنظيمية للنظر في القضايا التي تشكل خطراً على الربح، بدلاً من تلك التي لها عواقب أكبر على الناس والكوكب. ونأمل أن تقوم هيئات المعايير بمرور الوقت بمراجعة تعريف "التقدير المادي"، والتعرف على ما نعرفه جميعاً في قلوبنا؛ أنه لا يتعلق بالتقدير المادي فقط فهم تأثير القضايا الاجتماعية على الشركة، ولكن أيضاً فهم تأثير الشركة على الأشخاص والمجتمعات والمجتمع. وبخلاف ذلك، فإن معظم جوانب الحوكمة البيئية والاجتماعية وحوكمة الشركات، وخاصة الحوكمة الاجتماعية، ستبقى مجرد عرض تمثيلي.
الطريق نحو ما هو قادم
لتغيير هذا، يجب على أولئك الذين يركزون على قوة الاستثمار كقوة للتغيير الإيجابي أن يكونوا أكثر صراحة بشأن المخاطر التي تشكلها أطر عمل الحوكمة البيئية والاجتماعية وحوكمة الشركات الحالية. ويجب أن ندافع بشكل جماعي عن أقوى تفسيرات "التقدير المادي المزدوج"، وهو مبدأ مقبول الآن على نطاق واسع في الإفصاح المالي والذي ينص على أن المعلومات المتعلقة بشركة ما تعتبر ذات تقدير مادي إذا "اعتبرها شخص عاقل [معلومات] مهمة".
إن اعتماد هذا التعريف الأوسع للتقدير المادي سيتطلب قيام الشركات ووكالات التصنيف بالنظر في تأثيرات الشركة على المجتمع والبيئة حتى في حالة عدم وجود قيمة مالية مباشرة لأصحاب المصلحة في القيام بذلك. وإن خطوة كهذه من شأنها أن تتجنب الإشارات المربكة مثل تحديث تقييمات ماكدونالدز (McDonald's) وفق مؤشر مورغان ستانلي كابيتال إنترناشيونال (MSCI) في عام 2019، مع الاستشهاد بممارسات الشركة البيئية، على الرغم من استمرار ماكدونالدز في زيادة انبعاثات الكربون إلى 54 مليون طن في العام نفسه. كان يجب بالتأكيد شمل ذلك الضرر المتزايد للبيئة في أي تقييم موثوق لتأثير الشركة. إن حقيقة أن انبعاثات الكربون لم تكن حتى جزءاً من حساب تقييمات الاستدامة تفسر اعتقاد الباحثين كام سيمبسون وأكشات راثي وجايجيل كيشان أن معظم تقييمات الاستثمارات وفق مؤشر مورغان ستانلي كابيتال إنترناشيونال ليست سوى "سراب عن الحوكمة البيئية والاجتماعية وحوكمة الشركات".
تم دمج مفهوم التقدير المادي المزدوج هذا في قانون الاتحاد الأوروبي للإفصاح عن التمويل المستدام في (SFDR) - الذي قد يكون التشريع الرسمي الأكثر شمولاً في هذا المجال. وقد وسع الاتحاد الأوروبي، في دليله للشركات، تعريف التقدير المادي ليطالب الشركة "بالإفصاح عن المعلومات المتعلقة بالمسائل البيئية والاجتماعية والمتعلقة بالموظفين، واحترام حقوق الإنسان، ومسائل الرشوة والفساد، إلى الحد الذي تكون فيه هذه المعلومات ضرورية لفهم تطور الشركة وأدائها وموقعها وتأثير أنشطتها". وهذا هو التنظيم في الاتجاه الصحيح، الذي يخلق متطلبات للكشف ليس فقط عن المخاطر التي تتعرض لها الشركات من عوامل الحوكمة البيئية والاجتماعية وحوكمة الشركات ولكن أيضاً عن المخاطر التي يتعرض لها الأشخاص والكوكب بسبب الشركة.
بعد ذلك، تحتاج الحوكمة الاجتماعية في (ESG) إلى إصلاح شامل، وإعادة بنائها بنسخة محدثة أفضل. ويجب إعادة بناء العوامل الاجتماعية ذات التقدير المادي الذي تتطلبه معايير الإفصاح لتتوافق بشكل أفضل مع أطر الرفاه الدولية الموضحة. وهذا من شأنه أن يشجع على إدراج المقاييس الذاتية للقيمة الاجتماعية مثل الكرامة أو الاستقلالية الشخصية التي نعرفها من التشاور المكثف مع أصحاب المصلحة من بين أهم جوانب القيمة الاجتماعية. فإن كونك مطالباً بحساب تأثيرات أصحاب المصلحة هذه سيكون له فائدة إضافية تتمثل في خلق قوة دفع أقوى للشركات والمستثمرين للاستماع والاستجابة بشكل منهجي لاحتياجات العملاء والعاملين والموردين.
أخيراً، يجب أن نعود إلى تأسيس فئات وأطر عمل منفصلة لكل من الحوكمة البيئية والاجتماعية وحوكمة الشركات. وفي الوقت الحالي، فالشركات التي تركز على الحوكمة البيئية أو حوكمة الشركات ولكنها محايدة أو حتى سلبية بالنسبة للحوكمة الاجتماعية تستطيع الحصول على تصنيف (ESG) إجمالي مرتفع، وهو ما يشير بشكل مغلوط إلى أن هذه الشركات تبلي جيداً على الأصعدة الثلاثة. يجب التمييز بوضوح بين التصنيفات المنفصلة حول العوامل البيئية والاجتماعية وعوامل الحوكمة بحيث يمكن اختيار وتقييم كل من الشركات وصناديق الاستثمار بناءً على أدائها على أساس الأبعاد الفردية.
سيستمر الاستثمار في الحوكمة البيئية والاجتماعية وحوكمة الشركات في النمو، وقد يتم اعتماد عوامل (ESG) على نطاق واسع. ولكن إذا ظلت عوامل التقدير المادي تقتصر على العوامل ذات العواقب المالية للشركة وإذا استمر تجاهل الحوكمة الاجتماعية بشكل نسبي، فستستمر العواقب الاجتماعية السلبية الخطيرة. لذا يجب أن نطالب بمعايير أعلى وأن نعيد صياغة فهمنا الجماعي للتقدير المادي، مع التركيز على رفاهنا الجماعي بدلاً من ربحية قلة من الأشخاص.
يمكنكم الاطلاع على النسخة الإنجليزية من المقال من خلال الرابط، علماً أنّ المقال المنشور باللغتين محمي بحقوق الملكية الدولية. إنّ نسخ نص المقال دون إذن سابق يُعرض صاحبه للملاحقة القانونية دولياً.