تُعد الأنشطة الصناعية أحد الأسباب الرئيسية لاستنزاف الموارد الطبيعية. يشير يوم تجاوز موارد الأرض إلى اليوم الذي يستهلك فيه الكوكب موارد طبيعية أكثر مما يستطيع المحيط الحيوي تجديده.
حدث ذلك في 2 أغسطس/آب 2023.
دخل الكوكب في مرحلة الخطر، إذ يستمر استنزاف الموارد الطبيعية بلا هوادة على الرغم من المبادرات التي تطلقها القطاعات الصناعية لاستخدام الموارد الطبيعية على نحو أكثر حكمة، مثل استخدام وسوم الاستدامة لتحسين عملية تتبع الموارد وتشجيع الشركات على الاعتماد على موارد طبيعية أكثر استدامة مثل شهادة مجلس رعاية الغابات (FSC) لقطاع الحراجة. كل ثانية يُدمَّر أكثر من هكتار من الغابات الاستوائية أو يتدهور بدرجة كبيرة، وأقل من نصف الأرصدة السمكية في بلدان منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية في حالة جيدة، وستنضب إمدادات المعادن الأولية المعروفة في غضون 50 عاماً تقريباً بسبب تنامي استعمال السيارات الكهربائية والطاقة المتجددة، والقائمة تطول.
لماذا؟ أحد أسباب المشكلة يتعلق بالهيكلية، لأن سلاسل القيمة العالمية مجزّأة ومعولمة في آنٍ واحد، حتى المؤسسات التي تعمل على نطاق عالمي تجد صعوبة في إحداث تغيير في مجال الحفاظ على البيئة على مستوى قطاعاتها. وبالنظر إلى التعقيد المتزايد لسلاسل القيمة العالمية، فإن مراقبة الاستخدام المستدام للموارد عبر جميع أصحاب المصالح في أي قطاع يكاد يكون مستحيلاً.
على سبيل المثال، تُعد شركة باتاغونيا (Patagonia) إحدى الشركات الرائدة عالمياً في تعزيز الاستدامة في قطاع صناعة الملابس، لكن تأثيرها محدود في الحفاظ على الموارد الطبيعية. ونظراً لأنها لا تدير مباشرة إلا مكاتبها ومراكز التوزيع والمتاجر التابعة لها، لا تملك سوى الاعتماد على أنشطة الفحص النافي للجهالة في المصانع والمزارع والمحالج التي تتعاون معها على مستوى العالم. لا يمكنها اتخاذ قرارات تتعلق بطريقة عملها، لكن يمكنها اقتراح تحسينات تتعلق بالاستدامة فحسب (وإذا لم تكن راضية، يمكنها إنهاء اتفاقيات العمل للبحث عن بدائل أفضل في حال توافرها). وفي حين يمكن لشركة باتاغونيا مثلاً المشاركة في برامج لتحسين إمكانية تتبع ريش الإوز أو البط والاستخدام المسؤول للصوف واستخدام المواد الخام المعتمدة من مجلس رعاية الغابات، يتطلب إجراء تغييرات كبيرة في استخدام الموارد الطبيعية العثور على بدائل للمواد الملوثة أو التحول إلى عمليات أكثر استدامة مع كل شريك في القطاع في كل مرحلة من مراحل سلسلة القيمة. تكمن المشكلة في نطاق العمل، فعلى الرغم من التزام شركة باتاغونيا بالحفاظ على الموارد الطبيعية، تضع طبيعة سلسلة قيمة الملابس المجزأة والمعولمة العقبات أمام شركة باتاغونيا للتأثير في الأطراف الأخرى.
الجزء الثاني من المشكلة هو أن الاستهلاك مدفوع برغبات غير مستدامة. ما دام المستهلكون في الدول المتقدمة يشعرون بالحاجة إلى تقديم الورود في عيد الحب، فسيستمر استيراد الزهور من دول مثل كولومبيا أو كينيا، حيث تسمح درجات الحرارة بنمو الزهور في شهر فبراير. وبسبب الاستخدام المكثف للمبيدات الكيميائية والأسمدة، تترتب على عادات الاستهلاك هذه آثار جسيمة على الموارد الطبيعية المحلية
في البلدان التي أطلق عليها الاقتصاديون اسم "ملاذات التلوث" (لتسليط الضوء على اختيار الشركات المتعمد للعمل في البلدان ذات المعايير البيئية المتدنية). وهناك قطاعات أخرى لها آثار مماثلة في مجال المحافظة على الموارد الطبيعية. على سبيل المثال، يتخلص قطاع الموضة السريعة مما يعادل شاحنة قمامة مليئة بالملابس كل ثانية عن طريق حرقها أو دفنها في مكبات النفايات.
ستستمر القطاعات المنخرطة في هذا المسار الاستهلاكي المفرط في تزويد المستهلكين بالسلع (غير المستدامة) التي يرغبون في استهلاكها. لا تكمن المشكلة في رغبة الشركات أو قيمها، فحتى شركة باتاغونيا التي تبذل جهوداً جبارة للحفاظ على الموارد الطبيعية في جميع مراحل عملية الإنتاج تواصل تقديم مجموعات ملابس جديدة في كل موسم لإرضاء المستهلكين التواقين إلى التجديد. يؤدي ترويج شراء ملابس جديدة بدلاً من الاحتفاظ بالقديمة إلى زيادة استهلاكنا الإجمالي للملابس. ووفقاً لتحالف الأمم المتحدة للموضة المستدامة (UN Alliance for Sustainable Fashion)، نستهلك الآن ملابس أكثر بنسبة 60% مما كنا نستهلكه قبل 15 عاماً.
وللتغلب على هذه العقبات التي تحول دون الحفاظ على الموارد الطبيعية، من الضروري أولاً الاعتماد على الموارد المتجددة بدرجة أكبر في عمليات القطاعات الصناعية. المشكلة هي أن القطاعات الصناعية تعتمد حتى الآن على الموارد الطبيعية القابلة للنضوب باعتبارها أكبر مصدر للميزة التنافسية، وذلك لاستخلاص أكبر قيمة ممكنة. تلك القطاعات بحاجة إلى العثور على طريقة لاستخلاص القيمة من الموارد الطبيعية المتجددة (أو الأقل عرضة للتهديد) للحد من استخراج الموارد الطبيعية القابلة للنضوب ومكافحة استنزاف الموارد الطبيعية.
على سبيل المثال، قررت شركة بواسكاي (Poiscaille) التي أُسست قبل أقل من عقد وتعمل في السوق الفرنسية تشجيع صيد الأسماك "غير الشائعة" مثل سمك اللابروس والتاكو في شبكتها التي تضم 250 صياداً لمكافحة الصيد الجائر. يقلل هذا التنويع من الضغط على المخزونات السمكية التقليدية مثل السلمون أو التونة بهدف تجديدها. وبالمثل، تشجع تعاونية فيرغوكوب (Virgocoop) الفرنسية الاستخدام المستدام لألياف القنب في مختلف الصناعات، بما فيها الملابس، فالتحول من القطن إلى القنب يوفر المياه لأن القطن يستهلك خمسة أضعاف المياه التي يستهلكها القنب، ويحافظ على التربة لأن القنب لا يحتاج إلى مبيدات حشرية بسبب مقاومته للأمراض والطفيليات، ويتجنب النقل الملوِّث لأن القنب يمكن إنتاجه في أوروبا (وهو ما لا ينطبق على القطن).
مع أن هذه التحولات في الإنتاج قد تحافظ على الموارد الطبيعية، قد يجد المستهلكون أن مذاق الأسماك "غير الشائعة" أقل شهية وملمس القنب أخشن من القطن التقليدي. كما تتطلب تلبية احتياجات العملاء تغيير نماذج عرض القيمة في الصناعات للتكيف مع الموارد الطبيعية المتجددة (أو الأقل عرضة للتهديد) بما يتوافق مع حاجة العملاء. بعبارة أدق، يجب على الشركات أن تجد طرقاً لجعل البدائل جذابة للمستهلكين.
ويجب ألا يكون الهدف من ذلك تقليد القيمة المفترضة للموارد السابقة المحدودة لأن قيمة الموارد المتجددة لن تضاهي قيمة الموارد المحدودة. يجب أن يكون الهدف تقديم بديل موثوق للعملاء. على سبيل المثال، توفر شركة بواسكاي التنوع للعملاء من خلال تنويع الصيد اليومي ضمن شبكتها من الصيادين، وبهذه الطريقة تسمح للعملاء باكتشاف أنواع ومذاقات جديدة واختيار الأسماك والمأكولات البحرية من مناطق جغرافية مختلفة. تقدم الشركة أسماكاً جد طازجة تصلها خلال 48 أو 72 ساعة بفضل نموذج البيع الفوري والبيع المباشر، ما يؤدي إلى تحسين سلسلة القيمة، في حين أن سلسلة التوريد الخاصة بمحال المأكولات البحرية التقليدية قد تستغرق أسبوعاً لتسليمها.
وبهذه الطريقة، تجعل شركة بواسكاي الأسماك "غير الشائعة" شهية بالنسبة إلى الزبائن.
بالنسبة إلى القنب، ثمة مزايا محددة يمكن استغلالها في هذا المجال أيضاً لأن الألياف تنمو محلياً ويمكن ترويج الإنتاج والمعالجة المحليين للزبائن الذين ينجذبون أكثر فأكثر للمنتجات المحلية لأنهم يرون فيها ضماناً للجودة والاستدامة وموقف وطني. علاوة على ذلك، يعوِّض مزج الألياف مع القطن عن خشونة القنب في حين تستفيد الملابس من خصائص القنب، فملابس القنب عمرها أطول من عمر القطن ولها خصائص مضادة للبكتيريا تقلل من الحاجة إلى غسل الملابس، كما أنها منظّمة لحرارة الجسم، ما يجعل الألياف مفيدة للعلامات التجارية للملابس الرياضية.
أطراف فاعلة جديدة، سلاسل قيمة جديدة
يقتضي إحداث تغيير مستدام دمج الموارد الطبيعية المتجددة (أو الأقل عرضة للتهديد) في القطاعات التي تعتمد على سلاسل القيمة غير المستدامة من خلال استقطاب أطراف فاعلة جديدة لديها القدرة على بناء نماذج جديدة كلياً لخلق القيمة. يجب بناء سلاسل القيمة الجديدة والمستدامة هذه من البداية إلى النهاية. ولهذا السبب أعادت تعاونية فيرغوكوب بناء سلسلة قيمة القنب بأكملها في فرنسا من خلال ترويج فوائد زراعة القنب بين المزارعين وإعادة بناء الخبرات المفقودة في استخلاص الألياف والنسيج وإقناع العلامات التجارية للملابس بتطوير مجموعات من ألياف القنب. وبالمثل، أعادت مبادرة سلو فلاور موفمنت (Slow Flower Movement) التي تروّج الأزهار المزروعة محلياً لتجنب تلوث التربة والمياه في "ملاذات التلوث" بناء سلاسل القيمة المحلية للزهور المزروعة في 8 مقاطعات كندية و8 ولايات أميركية، بدءاً من مزارعي الزهور إلى مراكز البيع بالجملة الإقليمية إلى بائعي الزهور بالتجزئة.
لتفعيل هذه التحولات نحتاج إلى التركيز على الأطراف الفاعلة الرئيسية التي يمكنها إطلاق إنتاج سلسلة القيمة الجديدة وتنسيقها. العلامات التجارية مثل بواسكاي تقع في نهاية سلسلة القيمة في حين أن الجمعيات التعاونية مثل فيرغوكوب أو المؤسسات غير الربحية مثل سلو فلاور موفمنت ليست في مركز القطاع، ولكن كل منها يؤدي دوراً رئيسياً. بدأ كل طرف فاعل رئيسي بتفعيل التحولات أولاً من خلال اكتشاف فرصة تجارية -كما فعلت مبادرة سلو فلاور موفمنت التي اكتشفت فرصة بيع الزهور المحلية في منطقة سياتل- ثم التنسيق بين الأطراف الفاعلة في سلسلة القيمة سواء كانوا صيادين أو ناقلين أو موزعين محليين في حالة شركة بواسكاي أو مزارعي القنب أو ورش النسيج أو العلامات التجارية للملابس في حالة تعاونية فيرغوكوب.
بدايات صغيرة وتحولات كبيرة
مهما بدت التغييرات صغيرة، فإننا متفائلون بتحول القطاعات نحو استخدام أكثر استدامة للموارد الطبيعية. تقدم مبادرة سلو فلاور موفمنت مثالاً مشجعاً للحفاظ على الموارد الطبيعية، وقد طُبقت هذه المبادرة في بلدان مختلفة مثل المملكة المتحدة وفرنسا وأستراليا. لا تزال شركة بواسكاي تمثل أقل من 10% من استهلاك قطاع الصيد الفرنسي، ولكن بمجرد أن تمثل حصة لا يستهان بها من الاستهلاك الفرنسي، ستتمكن من الدفاع عن صغار الصيادين وفرض معايير على السوق لتحسين ظروف كل من الصيادين والمياه البحرية الفرنسية. وأخيراً، لا تزال تعاونية فيرغوكوب تكافح من أجل تطوير الخبرات في البلدان التي تعمل بها، ولكن بمجرد إثبات صحة الفكرة ستكون قادرة على تحويل صناعة الملابس الأوروبية. في كل الحالات، الطريقة الوحيدة لوقف استنزاف الموارد هي إعادة تشكيل القطاعات التي تعتمد عليها.