ليس سراً أن جهات غير ربحية كثيرة تقدم الخدمات الأساسية للمحتاجين، ولكن نادراً ما يتم التطرق إلى التأثير الاقتصادي الذي تُحدثه في المجتمع.
في حين أنه من السهل أن نرى التأثيرات غير المباشرة للتقلب الاقتصادي على المؤسسات والجمعيات الخيرية، مثل انخفاض الدخل وارتفاع تكاليف التشغيل وتراجع القدرة على تقديم المنح والتبرعات، فإنه غالباً ما يتم التغاضي عن إسهاماتها الإيجابية في الناتج المحلي الإجمالي، وخلق فرص العمل، والمؤشرات الرئيسية الأخرى للنمو الاقتصادي.
على سبيل المثال، كشف مسح أجرته مجلة كرونيكل فيلانثروبي (Chronicle of Philanthropy) في أثناء جائحة كوفيد-19، أن واحداً من كل خمسة متبرعين أكد أنه لن يتبرع للجمعيات الخيرية حتى يتحسن الوضع الاقتصادي، فالجائحة رفعت مستويات التوتر والقلق بشأن فقدان الوظائف وخسائر الاستثمارات نتيجة اضطراب سوق الأوراق المالية؛ ما أثر على سلوك العطاء والرغبة في التبرع.
لكن في المقابل يجب تسليط الضوء أيضاً على القيمة الاقتصادية لعمل المؤسسات والجمعيات الخيرية، والتعامل مع العطاء من منظور أكثر رحابةً بحيث يتسع ليشمل مجالات عدة تُحقق الصالح العام، فالتحديات تزداد تعقيداً وبات دور الجهات الخيرية سبّاقاً وليس تكميلياً للجهود الحكومية والخاصة في معالجة القضايا المختلفة.
ومع تبنّي سياسات الإصلاح الاقتصادي مثل الخصخصة والتحول إلى اقتصاد السوق، برز دور الجهات الخيرية في معالجة الأزمات الاقتصادية والاجتماعية، وبالتالي، فإن تحقيق الاستقرار والتوازن الاقتصادي سيخلق بيئة استثمارية آمنة تؤدي إلى النهوض بالمجتمع في المجالات كافة.
العطاء يعني مكاسب أكبر
هل يزيد العطاء من ثرواتنا ومواردنا؟ بحث المؤلف والأكاديمي الأميركي آرثر بروكس في هذا الجانب، وكتب في مقالته المنشورة عام 2007 في مجلة الاقتصاد والتمويل (Jornal of Economic and Finance): "لقد افترض الاقتصاديون غير الربحيين دائماً أن الدخل هو نذير للعطاء، في المقابل، أكد العديد من التعاليم الفلسفية والدينية أن العطاء هو الذي يؤدي إلى الرخاء".
فالمؤسسات غير الربحية والجمعيات الخيرية التي تشجع الأفراد على التطوع وتدعم قضايا مختلفة، بما في ذلك التعليم والرعاية الصحية وحماية البيئة، وتتيح فرص الاستثمار في البرامج والمبادرات الاجتماعية التي تساعد على خلق الوظائف، وتدعم مشاريع البحث والتطوير التي تؤدي إلى طرح منتجات وخدمات جديدة تلبي احتياجات المجتمع؛ تساعد بشكل أو بآخر في تحريك عجلة الاقتصاد.
كيف يستفيد الاقتصاد من العمل الخيري؟
تعد المؤسسات غير الربحية والجمعيات الخيرية جزءاً حيوياً من الاقتصاد، وتسهمان في دعمه وتعزيزه بعدة طرق أبرزها:
- نمو الناتج المحلي الإجمالي. تُحقق المؤسسات غير الربحية في الولايات المتحدة قيمة اقتصادية تقدّر بـ 1.1 تريليون دولار سنوياً في شكل وظائف وخدمات، أي ما يزيد على 5% من الناتج المحلي الإجمالي.
وتُولي المملكة العربية السعودية أهمية خاصة للقطاع غير الربحي والجهات العاملة فيه، لذا تستهدف من خلال رؤية 2030 رفع مساهمة القطاع غير الربحي في الناتج المحلي الإجمالي من 0.3% إلى 5% بحلول عام 2030، وبحسب تقرير مؤسسة الملك خالد الخيرية "آفاق القطاع غير الربحي: تقرير منتصف الطريق"، تُقدر القيمة الاقتصادية للقطاع غير الربحي في عام 2021 بمبلغ 54.3 مليار ريال.
- خلق فرص العمل. تساعد المؤسسات غير الربحية والجمعيات الخيرية الأشخاص العاطلين عن العمل أو من يعانون البطالة الجزئية وأفراد الأسرة الذين يتحملون عبء توفير الرعاية لعوائلهم في الحصول على فرص عمل، وتقدم لهم أيضاً خدمات التدريب والتأهيل لتمكينهم في سوق العمل.
وتضم المؤسسات غير الربحية 7.4% من القوى العاملة في جميع أنحاء العالم، 70% منهم يعلمون بأجر مدفوع، في حين أن 29% منهم متطوعون. وفي السعودية، يشير مسح المنشآت غير الربحية الصادر عن الهيئة العامة للإحصاء، إلى أن عدد العاملين في القطاع عام 2018 تجاوز 72 ألف موظف وموظفة، ووصل متوسط الرواتب إلى 5,796 ريال شهرياً للموظف.
- زيادة الدخل وتوزيعه توزيعاً عادلاً. يهدف تقديم الإعانات المباشرة وغير المباشرة للفقراء مثل الزكاة والصدقات، إلى إعادة توزيع الدخل والثروة بين فئات المجتمع ما يساعد على تقليص الفجوة الاقتصادية بين الطبقات، ويدعم النمو الاقتصادي من خلال زيادة الاستهلاك؛ فالمنفعة الحدية لدى الفقراء أعلى منها مقارنةً بالأغنياء.
ووفقاً لتقديرات البنك الدولي، تصل أموال الزكاة إلى 600 مليار دولار سنوياً على مستوى العالم، وهو ما يجعلها أداة اقتصادية مهمة يمكن توظيفها في دعم المناطق الأكثر تضرراً من الكوارث الإنسانية وتخفيف وطأة الضغوط الاقتصادية على المواطنين.
- خدمات بجودة أعلى وتكلفة أقل. تتسم الخدمات المقدمة من المؤسسات والجمعيات الخيرية بكفاءة ومستوى جودة أعلى وتكلفة اقتصادية أقل مما تقدمه الحكومات، خاصة في الدول النامية التي تعاني البيروقراطية وارتفاع التكاليف في تنفيذ المشاريع، فتنافس الجهات الخيرية للحصول على الدعم والتمويل يدفعها لإثبات كفاءتها وقدرتها على تقديم خدمات ممتازة وبتكلفة أقل.
- تحقيق التوازن في تخصيص الموارد. تُسهِم أعمال الجمعيات الخيرية والمؤسسات غير الربحية في تخصيص الموارد بشكل متوازن، نظراً إلى فوائدها العديدة على المانح والمتلقي والمجتمع؛ فالعطاء ضروري لمحاربة الفقر، ولكنه يتمتع أيضاً بأهمية فارقة في تطوير المؤسسات مثل المساجد والمدارس، على سبيل المثال، يتجاوز حجم التبرعات في الولايات المتحدة وكندا 410 مليارات دولار سنوياً، يذهب أكثرها للمؤسسات الدينية.
- التطوع قيمة اقتصادية مضافة. ترى مدرسة الرفاه الاقتصادي أن الثروات والمنتجات ليست عاملاً وحيداً لنمو الاقتصاد، بل يمكن أن يتحول إحساس المتطوع بمتعة خدمة الآخرين إلى مصدر للدخل، حيث قُدّرت قيمة ساعة التطوع في أميركا بنحو 31.80 دولاراً في عام 2022، بزيادة 6% عن التقدير البالغ 29.95 دولاراً للساعة لعام 2021.
إذاً تتمتع الجهات الخيرية بالقدرة على خلق الوظائف وتعزيز النشاط الاقتصادي، مثلاً، إذا حضرت عرضاً لمسرحية في مسرح مجتمعي محلي غير ربحي، فإنك لم تدعم فقط الممثلين وطاقم العمل والموظفين الإداريين؛ بل من المحتمل أنك قدمت أيضاً دعماً اقتصادياً للشركات المحلية. فمن خلال شراء الملابس المناسبة للعرض، ودفع مبلغ معين مقابل حجز مكان في موقف السيارات، ومقابلة أصدقائك بعد العرض وتناول العشاء معهم، يعني أنك قمت بتوسيع التأثير الاقتصادي لهذا المسرح.
التفكير في النتائج وإمكانية قياسها
عندما يفكر قادة المؤسسات والجمعيات الخيرية في النتائج التي يحققونها وإذا ما كان من الممكن قياسها، يجب أولاً أن يطرحوا على أنفسهم الأسئلة الآتية:
- لماذا نريد تقدير تأثيرنا؟
- مَن الذي نحاول التأثير عليه؟
- ما النتائج التي سيهتم بها أصحاب المصلحة؟
- هل سيتم تشجيع أصحاب المصلحة من خلال دراسات الحالة أم أنهم مهتمون بالإيرادات المعبّر عنها بالعملة المحلية؟
يمكن للجهات الخيرية تحويل نتائجها إلى أرقام وقِيم مادية، مثل الجمعيات الخيرية التي تعمل على تحسين النتائج الأكاديمية للطلاب، وتمكين الأشخاص من الحصول على فرص عمل، وتقليل الاعتماد على المزايا الحكومية، وتحسين الصحة البدنية أو العقلية، فالجمعية التي تركز على تحسين الصحة العقلية من خلال الدعم الاستشاري مثلاً، يمكنها التعبير عن تأثيرها من خلال رواية قصص عن الأشخاص الذين تحسّنت حياتهم بسبب خدمات الجمعية، أو تسليط الضوء على أن تعزيز الصحة العقلية خفف الضغط على المنظومة الصحية.
يمكننا الافتراض بأننا كلما زاد عطاؤنا كأفراد وأسر ومجتمعات ودول، أصبحنا أكثر ازدهاراً، وأن عمل المؤسسات والجمعيات الخيرية أمر ضروري لصحة المجتمع ورفاهيته، لأنها توفر تمويلاً مهماً للبرامج والمشاريع المهمة التي تجعل عالمنا مكاناً أفضل، وتساعد على دفع عجلة النمو الاقتصادي والتنمية، وإلهام الآخرين على فعل الشيء نفسه.