عندما يكون أصحاب الأعمال الخيرية شغوفين بالقضايا التي يدعمونها، فمن الطبيعي أن يتعاونوا مع مؤسسات تشاركهم قيمهم وأهدافهم. وفي حين يؤدي هذا التوافق إلى شراكات قوية وعمل تعاوني مثمر، فإنه يحمل أيضاً مخاطر التحيز التأكيدي؛ أي الرغبة في تأكيد صحة الأمور حتى عندما تشير الأدلة إلى عكس ذلك. ومع انتقال تركيز العمل الخيري من المنح والبرامج الفردية إلى الاستثمار في إجراء تغيير منهجي أوسع نطاقاً، يصبح التعامل مع التحيز التأكيدي أولوية مُلحة؛ فالأدوات والممارسات والثقافات اللازمة لتقييم الأدلة والتعلم لم تواكب هذا التغير في النطاق. وعند مقارنة العمل الخيري بالقطاعات الأخرى، نجد أنه يفتقر إلى آليات قوية لمعالجة هذه التحيزات المعرفية، ويعاني تجاهل الأدلة التي تشير إلى أن البرنامج أو التدخل قد لا يكون له الأثر المنشود أو يحقق النتائج المرجوة.
نقول ببساطة إن "الأدلة المناقضة لرأي مسبق" هي أي معلومات أو بيانات أو نتائج تتحدى أو تتناقض مع الافتراضات أو النظريات الأولية التي استخدمتها مؤسسات لتصميم برنامج أو تنفيذ استثمار. تغطي الأدلة المناقضة طيفاً واسعاً؛ فقد يكون من الواضح كيف يتحدى دليل من الأدلة الافتراضات الأساسية من الناحية الجوهرية، ولكن في بعض الأحيان يصعب عليك تفسيره في اللحظة الراهنة (ومن المهم عدم تجاهله). كما قد تكون هناك أدلة ضعيفة وغير واضحة على أن الأمور لا تتقدم كما كنت تتوقع، وبالتالي يسهل تجاهلها.
إذا اعترفنا بمثل هذه الأدلة وتصرفنا بناءً عليها، فإنها تساعدنا في الحماية من التحيز التأكيدي، وتصميم برامج أفضل وتمويلها. ولكن العمل الخيري ينطوي على عدد قليل من الممارسات المعتمدة للتعامل مع الأدلة المناقضة، فما بالك بالاستجابة لها. والحقيقة أنه غالباً ما تكون هناك دوافع لتجاهل الأدلة المناقضة لرأي مسبق، بدءاً من تفادي المخاطر وفرط الاستثمار في فرضية معينة إلى الرغبة في الحفاظ على العلاقات القائمة أو حتى مجرد الشغف لتحقيق نتيجة.
دروس من قطاعات أخرى
لا تقتصر هذه المشكلة على العمل الخيري، ولكن تكلفة الخطأ غالباً ما تكون أعلى بكثير في قطاعات أخرى. وتكون الأضرار في أغلب الحالات محددة، ويمكن التعرف عليها، ومترابطة منطقياً، كما هي الحال عندما يؤدي تجاهل الأدلة المناقضة لرأي مسبق إلى حكم جائر، أو تشخيص خاطئ لحالة مريض، أو قصة صحفية غير دقيقة، أو عطل في البرمجيات. أما في العمل الخيري، فقد يكون من الصعب تحديد الأسباب والنتائج، وبالتالي تكون تكلفة تجاهل الأدلة المناقضة لرأي مسبق أقل وضوحاً. ولكن إذا كانت الأضرار غامضة، فهي ما تزال مترابطة منطقياً.
في القطاعات الأخرى؛ من الطب إلى القانون، ومن العمل التجاري إلى البحث العلمي، ترسخت ممارسات وبنى تنظيمية وثقافات للتصدي الصريح لمشكلة الأدلة المناقضة لرأي مسبق:
الممارسات: في البحث العلمي، توفر ممارسات راسخة مثل مراجعة الأقران وآليات التقييم الخارجي، مثل الدراسات التكرارية، أساساً مهماً لضمان دقة النتائج وموثوقيتها. ويساعد التدرب على الأساليب الإحصائية والبحثية في تحديد نقطة بداية لما نعتبره دليلاً علمياً قوياً. ولدى الصحفيين معايير مهنية للتعامل مع التحيز التأكيدي، مع أفضل الممارسات الواضحة في تدقيق الحقائق، وتحديد المصادر، والشفافية، والإنصاف، التي توثقها قواعد الممارسة والمبادئ التوجيهية التحريرية. وفي الطب، تساعد ممارسة الأطباء والمهنيين الطبيين للتشخيص التفريقي في تحديد الحالة المرضية الصحيحة بطريقة منهجية، من خلال النظر في التشخيصات المحتملة المتعددة واستبعادها بناءً على الأدلة المجمعة. وتتجنب هذه الطريقة التحيز التأكيدي من خلال ضمان تقييم جميع الأسباب المحتملة بموضوعية بدلاً من الاعتماد على الانطباعات أو الافتراضات الأولية.
البنية التنظيمية: النظام القانوني مثال جيد على نظام مصمم لدراسة جميع أنماط الأدلة، وتحديد الأدلة التي يجب الاعتماد عليها بعد أخذ كل شيء في الاعتبار. ويقدم الخبراء حججهم في إطار نظام معارضة صريح. فالبنية التنظيمية القانونية كلها مصممة لتقييم الأدلة وتحديد أكثرها إقناعاً. وتخفف آليات مثل إجراءات الاستئناف القانوني من مخاطر ارتكاب أخطاء تطبيقية وسلوكية، وتوفر مسارات رسمية لإعادة تقييم القرارات وتفنيد الاستنتاجات الأولية. ويعالج القطاع المالي، خاصةً رأس المال المغامر، الاعتراف بصعوبة التعامل مع التحيز التأكيدي على مستوى المحفظة الاستثمارية؛ إذ تُجري لجان الاستثمار بدقة اختبار القدرة على تحمل الضغط للقرارات الفردية، وصولاً إلى إجماع على الاعتراف بالمخاطر وإمكانية إدارتها. وتضمن هذه العملية قوة المحفظة الاستثمارية الشاملة وقدرتها على تحمل الإخفاقات المحتملة، حتى إذا حفّت المخاطر استثمارات بعينها. ففي نظام قد يكون من المحتم فيه التعامل مع التحيز التأكيدي؛ مثل بيئات الاستثمار غير المؤكدة على غرار التمويل في المراحل المبكرة، يجري تصميم محافظ الاستثمار في ظل الاعتراف بتلك المخاطر.
الثقافة: تعزيز الاستقصاء والتساؤل والترحيب بتحدي المعتقدات الراسخة من ضرورات العمل التجاري، إذ تعاقب المنافسة الشركات التي تسقط ضحيةً للتحيز التأكيدي. وتنجح الشركات في الأسواق التنافسية عندما تتعامل مع الأدلة المناقضة لرأي مسبق بطريقة إيجابية، فتعتبره أداة تحسين، وترحب بوجهات النظر المتنوعة والمعلومات الجديدة. ويعتبر المجال القانوني التحيز التأكيدي مخاطرةً منذ بداية التدريب القانوني، وقد وضع معايير ثقافية صريحة، خاصةً للسلطة القضائية. ونجد أمراً مشابهاً في المجال الطبي، إذ تشجع معايير الطب المستند إلى الأدلة والتطوير المهني المستمر المهنيين على إثراء معارفهم وتحديث افتراضاتهم الأساسية.
لا نقول بأن أياً من هذه الأنظمة مثالي؛ يكفي أن تتابع الجدل حول أزمة التكرار في العلوم أو الخلاف المرير حول المعايير الصحفية المهنية، ولكن أهمية الأدلة المناقضة لرأي مسبق معترف بها مهنياً في كلتا الحالتين، اعترافاً واضحاً بأنها مشكلة تحتاج إلى إدارة فعالة وصولاً إلى الحل.
فما هو النموذج المماثل في العمل الخيري لمراجعة الأقران، أو التحقق المزدوج من المصادر، أو الاستئناف القضائي، أو لجنة الاستثمار العابرة للتخصصات؟ وما هي الممارسات، والبنى التنظيمية، والثقافات المساوية؟
نرى 3 فرص للتعامل مع الأدلة المناقضة لرأي مسبق في العمل الخيري؛ التعلم، والتغيير، والثقافة.
1. التعلم: يجب أن نزود فرق العمل بالحوافز، والأدوات، وأطر العمل اللازمة لتحديد الأدلة المناقضة لرأي مسبق ومناقشتها. ويجب على الفرق اتخاذ خطوات مشجعة للحوار الصريح والتفكير النقدي، لتدعم ثقافة التحسين المستمر. ولا يقتصر الأمر على دراسة الأدلة، بل يشمل أيضاً تحديد مصادرها.
2. التغيير: يجب أن نكون أوضح بشأن تنفيذ استراتيجيات تنظيمية تعطي الأولوية للاعتراف بالأدلة المناقضة لرأي مسبق ودمجها. ويتطلب ذلك تغيير العقلية والالتزام بالشفافية والخضوع للمساءلة. وكلما فكرنا في تغيير النظام، احتجنا إلى التفكير في الأدلة المناقضة لرأي مسبق على مستوى المحفظة الاستثمارية كلها، بدلاً من المنحة الفردية.
3. الثقافة: من الضروري أن نرعى ثقافةً تقدّر التواضع ووجهات النظر المتنوعة وتتفهم ما ينطوي عليه العمل في أنظمة معقدة من عدم اليقين. ويتطلب عملنا التجريب، وينبغي أن ترى بيئاتنا في الأدلة المناقضة لرأي مسبق فرصةً للنمو لا مصدر تهديد.
تحقيق ما نصبوا إليه
لم يعهد قطاعنا تفكيراً من هذا النوع. شهدنا أمثلة منفردة على الممارسات الجيدة، لكننا نفتقر إلى مجموعة كبيرة من دراسات الحالة أو المعايير الراسخة للاعتماد عليها. ومع ذلك، يمكننا البناء على أفضل الممارسات في القطاعات الأخرى. وفيما يلي، نقترح بعض التجارب العملية لبدء التعامل مع الأدلة المناقضة لرأي مسبق ضمن المكونات المحورية للعمل الخيري.
1. التعلم. جهز الفرِق بالأدوات وأطر العمل التي تشجع الحوار الصريح والتفكير النقدي من خلال:
- عقد لجان مراجعة خارجية. حدد مواعيد دورية لانعقاد لجان عابرة للتخصصات، تتشكل من خبراء خارجيين، وأسِّس مجالس استشارية متنوعة لكل مجال برنامج رئيسي، لتقييم المبادرات نقدياً وطرح وجهات نظر بديلة.
- التحليل المسبق لاحتمالات الفشل وفرص النجاح. خصص وقتاً، قبل صنع القرارات الكبيرة، لوضع سيناريو متخيل لفشل المبادرة ومن ثم اعمل بصورة عكسية لتحديد أسباب الفشل المحتملة.
- تشكيل "فرق حمراء". شكّل فرقاً مخصصة للتعامل مع العروض والمشاريع ودراستها، مع تدوير الموظفين عبر هذه الأدوار الوظيفية لصقل مهارات التقييم النقدي في جميع إدارات المؤسسة.
- دراسة تنفيذ تدريب متخصص. نفّذ جلسات تدريب مستمرة على التحيزات المعرفية وشجِّع صناع القرار على الاحتفاظ بسجلات توثق الإجراءات الفكرية وراء قراراتهم الكبيرة، بما في ذلك النظر في الأدلة المناقضة لرأي مسبق.
2. التغيير. صمم إجراءات وبنى تنظيمية تعترف بأهمية الأدلة المناقضة لرأي مسبق، من خلال:
- تخصيص وقت للبحث عن أدلة مناقضة لرأي مسبق. شكّل فرقاً متنوعة للمراجعات الأولية، مع وضع معايير تقييم واضحة تشمل عوامل التفنيد المحتملة. في أثناء الفحص النافي للجهالة، نفذ أسلوباً منظماً لجمع الأدلة من مصادر متنوعة قد تتحدى الافتراضات الأولية.
- تشجيع الحوار مع الشركاء. عند الموافقة على المنح وصياغة الاتفاقيات، ضع بنوداً محددة تطلب من الشركاء الإبلاغ عن النتائج غير المتوقعة أو الأدلة المتناقضة، لضمان جمع المعلومات المناقضة ودراستها باستمرار طوال الشراكة. وانتبه إلى الكيفية التي تؤثر فيها الثقافة وآليات توزع السلطة في علاقاتك على حوافز التفكير الصادق.
- استخدام بنى الحوكمة التنظيمية للتعلم، وليس للإبلاغ فقط. أعِد هيكلة نماذج الحوكمة لتشجيع التجريب والتعلم. ودوّن بنوداً مخصصة في جدول أعمال اجتماعات الحوكمة لمناقشة الدروس المستفادة من الأدلة المناقضة لرأي مسبق.
- وضع قواعد تتحدى الافتراضات. عند اقتراح طرق لقياس الأداء والتأثير، أدرِج المقاييس التي تشير إلى أن المشروع لا يحقق أهدافه.
3. الثقافة. ادعم التواضع وتفهم عدم اليقين. اغرس ثقافة تغتنم الأدلة المناقضة لرأي مسبق فرصةً للنمو:
- الاحتفاء بالتعلم. امنح جوائز لمن يقدم أدلة مناقضة لرأي مسبق. ثمّن جهود الأفراد أو الفرق في استخدام الأدلة المناقضة لرأي مسبق بفعالية لتحسين عملية صنع القرار أو تغيير الاستراتيجيات.
- استضافة "فعاليات عرض الأدلة".
خصص، بصورة دورية، مساحات آمنة للنقاشات المفتوحة حول تجارب جمع الأدلة ودراستها، بما في ذلك جلسات تتحدث فيها القيادة العليا بصراحة عن تجربتها وكيف غيرت آراءها استناداً إلى أدلة جديدة. - تنظيم حلقات ملاحظات للشركاء. أسس آليات تقييم مستمرة يبدي من خلالها المستفيدون من المنح آراءهم وملاحظاتهم، بما في ذلك توجيهات سريعة محددة حول النتائج أو التحديات غير المتوقعة. وخصص قنوات للإبلاغ عن الشواغل والمخاوف أو الأدلة المتناقضة، بحيث تحمي المُبلغ ولا تكشف عن هويته.
ينطوي تقديم المنح دائماً على عدم يقين استراتيجي، لأن علينا أن ندرك، عندما نعمل في أنظمة معقدة، أن نماذجنا الفكرية قد تكون غير مكتملة أو فيها عيوب. كما يتضمن العمل التجريب في أغلب الحالات، ولن تسفر التجارب عن النتائج المتوقعة، فهذه طبيعتها. وفي هذا السياق، يجب ألا نتعامل مع الأدلة المناقضة لرأي مسبق على أنها عثرة، بل أن نغتنمها فرصةً قيّمةً للتعلم واختبار مدى ملاءمة فرضياتنا وتحسين أساليبنا. ويؤدي تفهم هذا الشك والطبيعة التكرارية لعملنا وتبنّيها إلى استراتيجيات أقوى وتأثير أكبر في النهاية.
إننا نواجه تحدياً جاداً في قطاع العمل الخيري؛ إذ تتعامل المهن الأخرى مع الأدلة المناقضة لرأي مسبق على مستوى المهنة كلها، حيث تكون القواعد في مجالي القانون والعلوم أكثر فعالية لأنها محددة ومفهومة عبر القطاع. ويجب علينا التفكير بعمق في التدريب والقواعد والمعايير والممارسات المفهومة بوجه عام عبر جميع مكونات قطاع العمل الخيري.
"ليس ما لا تعرفه هو ما يوقعك في المشكلات، بل ما تعرفه حق المعرفة ويتبين لك أنه غير صحيح". - مارك توين
ينسب الكثيرون هذا الاقتباس إلى الكاتب الأميركي مارك توين. وقد ورد في مقدمة كتاب "الحقيقة المؤلمة" (An Inconvenient Truth)، وفي مواضع أخرى بالكتاب. ومع أن هذه العبارة تجسد مضمون هذا المقال أجمل تجسيد، ليس هناك من دليل يشير إلى أن مارك توين هو قائلها. والحق أن هناك أدلة مناقضة لهذا الرأي المسبق تشير إلى أنه ليس صاحبها. فما الذي علينا فعله؟ هل علينا ألا نستخدم الاقتباس؟ أم لا ننسبه؟ أم نضعه في الحواشي؟ أم نبني المقال حوله؟ هذا نموذج توضيحي لمشكلة الأدلة المناقضة لرأي مسبق.