أحد الفروق الأساسية التي نميل إلى تمييز أوجه العمل الخيري بها في الولايات المتحدة هو الفرق بين المانحين الأفراد والمؤسسات المانحة. ونقصد بـ "المانح الفرد" أصحاب الأعمال الخيرية الأثرياء وملايين الأميركيين العاديين الذين يتبرعون بصورة جماعية بمليارات الدولارات سنوياً للعمل الخيري. في المقابل، نطلق مسمى "المؤسسات المانحة" على المؤسسات والكيانات الرسمية الأخرى التي تموّل القضايا والبرامج الخيرية، من خلال عمليات منح في الغالب. والواقع أن تقسيم العطاء إلى نوعين، إما فردي وإما مؤسسي، شائع جداً إلى حد أن القطاع مبني عليه عملياً، حيث يركز معظم المواقع الإلكترونية والأدوات وقواعد البيانات والمبادرات البحثية على أحدهما دون الآخر. وحتى المحاولات النادرة لدمج القسمين، مثل التقرير السنوي الذي تصدره مؤسسة غيفينغ يو إس أيه (Giving USA)، تتعامل مع الأفراد والمؤسسات باعتبارهما فئتين مختلفتين. ولكن ماذا إذا لم يكن هذا التمييز واضحاً كما افترضنا؟ تشير دراستنا إلى أنه في بعض الحالات قد يكون حجم المانح مدخلاً مهماً جداً لفهم سلوك العطاء من التمييز التقليدي بين المانحين الأفراد والمؤسسات المانحة.
مؤخراً، تعاونت مؤسسات كانديد (Candid)، وغيفنغ توزداي (GivingTuesday)، ونتورك فور غود (Network for Good)، في مشروع استمر عاماً، حيث شاركت كل مؤسسة كمّاً قياسياً من بيانات التبرعات على مستوى معاملات التمويل. وكان هدف هذه الشراكة هو فحص الإمكانات والتحديات المرتبطة بدمج مجموعات بيانات مختلفة تماماً، واستخلاص رؤى جماعية حول حركة الأموال إلى المؤسسات غير الربحية. يمكنك الاطلاع على نتائج هذا الاستكشاف في تقريرنا الذي صدر مؤخراً بعنوان "الدولارات والتغيير" (Dollars and Change). وفي أثناء العمل على هذا المشروع فاجأنا التشابه الكبير بين توجهات نوعي العطاء الفردي والمؤسسي؛ فعلى سبيل المثال، زاد متوسط حجم التبرع لكلا فئتي المنح في السنوات الأخيرة. علاوة على ذلك، وجدنا أنه بغض النظر عما إذا كان المانحون أفراداً أو مؤسسات، كان لحجم المتبرع تأثير قوي في صورة العطاء. وفي هذا المقال، نسلط الضوء على بعض هذه التوجهات المتعلقة بالحجم، بما في ذلك التحليلات الأصلية غير المدرجة في التقرير، ونفترض سبب أهمية حجم المانح وما تعنيه هذه النتائج لقطاع العمل الخيري.
المؤسسات المانحة الكبيرة تشكّل نسبة كبيرة من إجمالي تمويل العمل الخيري وتتأثر بالظروف الاقتصادية.
بالنسبة لكل من الأفراد والمؤسسات، يفوق عدد المانحين الصغار بكثير عدد كبار المانحين، ولكن كبار المانحين هم من يؤثّرون في توجهات العطاء. فعلى سبيل المثال، وجدت دراستنا أن معظم المانحين الأفراد تبرعوا بمبلغ 100 دولار أو أقل سنوياً في المتوسط؛ ومع ذلك، شكّل 0.3% من المانحين الأفراد الذين تبرعوا بأكثر من 50,000 دولار سنوياً نسبة 45% من إجمالي تبرعات الأفراد. وقد لاحظنا نمطاً مشابهاً لدى المؤسسات المانحة؛ إذ شكلت نسبة 0.1% الأعلى بين المؤسسات المانحة، في المتوسط، نسبة 36% من إجمالي التمويل.
بوجه عام، حددنا علاقة إيجابية بين الظروف الاقتصادية وحجم العطاء لكل من المانحين الأفراد والمؤسسات؛ فعندما يكون أداء الاقتصاد جيداً، يتدفق التمويل بسلاسة أكبر. وفي البداية، بدا أن المؤسسات المانحة أشد تأثراً بالعوامل الاقتصادية مقارنة بالمانحين الأفراد، لكن التحليل الأعمق أشار إلى أن حجم المؤسسة المانحة كان له تأثير جزئي في ذلك.
لم تكن المؤشرات الاقتصادية، مثل سوق الأسهم والدخل المتاح للأسر، ذات علاقة إحصائية كبيرة بحجم العطاء بالنسبة للمانحين الأفراد الصغار؛ أي الذين يتبرعون بأقل من 500 دولار سنوياً، أو المؤسسات المانحة الصغيرة، التي تقدم أقل من 100,000 دولار سنوياً. ولكن مع زيادة حجم المانحين الأفراد والمؤسسات، ازدادت العلاقة بين الاقتصاد والعطاء قوة. فبين المانحين الأفراد، كانت فئة المانحين الأكبر، الذين قدموا أكثر من 50,000 دولار سنوياً، هي الأكثر ارتباطاً بالمؤشرات الاقتصادية. وبالمثل، كان العطاء من أكبر المؤسسات المانحة، التي تمنح أكثر من 100 مليون دولار سنوياً، أكثر توافقاً مع الظروف الاقتصادية.
ليس من المستغرب أن تتأثر المؤسسات المانحة بالظروف الاقتصادية، إذ تفرض مصلحة الضرائب الأميركية على المؤسسات الخاصة دفع 5% من قيمة أصولها سنوياً للعمل الخيري. ونظراً لأن قيمة الأصول تتغير وتتقلب مع تقلب أداء سوق الأسهم، فمن المحتمل أن تحتاج مثل هذه المؤسسات إلى التبرع بمزيد من الأموال خلال فترات الانتعاش الاقتصادي للوفاء بهذا المطلب القانوني. في المقابل، لا يتعين على المانحين الأفراد الالتزام بالقواعد نفسها؛ لكن من المرجح أن يكون لدى كبار المانحين الأفراد استثمارات مهمة في سوق الأسهم إلى حد يؤثر في قدرتهم على العطاء. علاوة على ذلك، في حين أن المانحين الأفراد ليسوا معفيين من الضرائب، فإنهم يحصلون على ائتمان ضريبي مقابل تمويل الأعمال الخيرية. لذلك، يميل كبار المانحين الأفراد إلى التصرف مثل المؤسسات الخاصة، حيث لديهم حوافز خارجية لتقديم الأموال.
كبار المانحين يركزون بدرجة أكبر على قطاعي الصحة والتعليم، في حين ينصب تركيز صغار المانحين على المؤسسات الخدمية.
بدوره، بدا حجم المانح مؤشراً قوياً على كيفية توزيع التمويل. فتشير النتائج عموماً إلى أن المؤسسات المانحة فضّلت تخصيص النسبة الكبرى من تمويلها للمؤسسات غير الربحية في قطاعي التعليم والصحة، وفقاً لرموز التصنيف الوطني للكيانات المعفاة من الضرائب (NTEE)، في حين فضّل الأفراد المانحون المساهمة في المؤسسات الخدمية غير الربحية، مثل التي تقدم خدمات للشباب والعائلات، والإسكان، ومخازن الطعام، ودعم الوظائف، والترفيه.
ومع ذلك، تشير التحليلات الدقيقة والمفصلة إلى أن هذا النمط العام كان مدفوعاً إلى حد كبير بحجم المانح؛ فكان المانحون الصغار، سواء الأفراد أو المؤسسات، ميالين إلى التبرع لمؤسسات الخدمات الإنسانية، في حين كان المانحون الكبار، الأفراد منهم والمؤسسات، ميالين إلى التبرع للمؤسسات غير الربحية في قطاعي الصحة والتعليم.
بناءً على دراسات سابقة، نفترض أن هذا النمط من النتائج قد يكون ناتجاً، في جزء منه على الأقل، عن المجتمعات المختلفة التي يرتبط بها هؤلاء المانحون، بالإضافة إلى الدوافع المختلفة للعطاء. لقد جادل الباحثون منذ فترة طويلة بأن الإيثار ليس الدافع الوحيد للتبرع وتمويل العمل الخيري، بل هو مدفوع كذلك بمزيج من ميل واضح ورغبة ضمنية في خدمة الذات. فمن الدوافع الضمنية شعور الرضا الذي يعتري المانح عند مساعدة الآخرين، إلى جانب تحسين الصورة الذاتية، وتعزيز تقدير الذات، وتجميل الصورة الاجتماعية. ويشعر المانح بمزيد من الرضا عندما يتبرع لمجتمعه، أو لأشخاص يعرفهم، أو لأشخاص يعتبرهم مستحقين للمساعدة.
فالأرجح أن يشعر المانح الفرد العادي بقدر كبير من الرضا عند التبرع لمؤسسات الخدمات الإنسانية والمؤسسات الدينية. ولكن قد يكون لدى المانحين الأثرياء، سواء كانوا أفراداً أو مؤسسات، تجربة شخصية أعمق وتفاعل أوثق مع المؤسسات التعليمية والصحية، فتتشكل لديهم قناعة أقوى بأهميتهم وقيمتهم.
هناك تشابهات ملحوظة بين كبار المانحين الأفراد والمؤسسات المانحة الصغيرة، من حيث أنماط التبرع.
بدوره، كشف التحليل الأكثر تفصيلاً للتبرعات، بحسب القطاعات الفرعية، أن أساليب تبرع كبار المانحين الأفراد والمؤسسات المانحة الصغيرة متشابهة جداً، إذ تشترك هاتان المجموعتان في عناصر تشابه تفوق في عددها القواسم المشتركة مع نظيراتهما؛ أي أن كبار المانحين الأفراد تبرعوا بطرق أقرب إلى طرق المؤسسات المانحة الصغيرة منها إلى أساليب الأفراد الآخرين، وكذلك كانت المؤسسات المانحة الصغيرة تتبرع بطرق أشبه بطرق كبار المانحين الأفراد منها إلى أساليب المؤسسات المانحة الكبيرة.
ويبدو أن هذا الاكتشاف يشير إلى أن الفرق بين كبار المانحين الأفراد والمؤسسات المانحة الصغيرة يكاد يتلاشى. ما يمثّل نتيجة منطقية بديهية، إذ إن بداية العديد من المؤسسات الصغيرة، مثل المؤسسات العائلية، كانت بمبادرة من فرد أو أكثر من أفراد العائلة الأثرياء الذين يرغبون في رد الجميل لمجتمعهم أو دعم القضايا التي يهتمون بها. وفي ظل هذه الظروف، عادة ما يتبرع الأفراد داخل مثل تلك المؤسسات من أموالهم الخاصة. فليس في ذلك اختلاف عن المانحين الأفراد الأثرياء الذين اختاروا بدلاً من ذلك التبرع بأموالهم بصورة مباشرة، بعيداً عن آليات مؤسسة خاصة. والأرجح في كلتا الحالتين أن يكون المانحون من المكانة الاجتماعية والاقتصادية نفسها، ويشاركون في تحديد طرق توزيع مساهماتهم الخيرية.
ما الذي تعنيه هذه النتائج للقطاع الاجتماعي؟
تشير هذه النتائج مجتمعة إلى أن حجم المانح عامل مهم في فهم سلوك المانحين، بغض النظر عما إذا كان المانح فرداً أو مؤسسة. وإضافة إلى ذلك، يبدو أن هناك بعض التشابهات بين كبار المانحين الأفراد والمؤسسات المانحة الصغيرة. قد تكون هذه النتائج إشارة مبكرة إلى أن التقسيم القائم منذ فترة طويلة بين المانحين الأفراد والمؤسسات المانحة قد أصبح قديماً، خاصة مع تلاشي التمييز بين المانحين الأفراد والمؤسسات المانحة. وأصبح كبار الأثرياء يتجهون بصورة متزايدة إلى
التبرع من خلال وسائل أخرى خلاف المؤسسات الخاصة، مثل الصناديق الاستشارية للمانحين أو الشركات ذات المسؤولية المحدودة. لكن البعض، مثل المؤسسات، يتجه إلى توظيف مستشاري أعمال خيرية أو خبراء في القضايا المجتمعية أو موظفين لمساعدتهم في تخصيص التمويل وتوجيهه بطريقة استراتيجية وفعالة.
يشير تأثير كل من حجم المانحين، ونوع المانحين، ودوافع المانحين في الآخر إلى أن المؤسسات غير الربحية تحتاج إلى مجموعة واسعة من استراتيجيات المشاركة وأساليبها، وقد يبدو هذا مثبطاً للهمم. ولكن نتائجنا تقترح كذلك استراتيجيات ممكنة لجمع التبرعات. فعلى سبيل المثال، قد ترغب المؤسسات غير الربحية، خلال فترات الركود الاقتصادي، في إعطاء الأولوية للوصول إلى صغار المانحين، الذين لا تتأثر تبرعاتهم نسبياً بالاضطرابات الاقتصادية. وتعني حقيقة أن كبار المانحين هم الأكثر تأثراً بالاقتصاد أن فترات الانتعاش الاقتصادي هي أنسب توقيت للوصول إليهم.
كما قد يفيد المؤسسات غير الربحية أن تأخذ في اعتبارها أن المؤسسات المانحة الصغيرة تشبه المانحين الأفراد في أغلب أنماط تبرعاتها. وربما يجب على المؤسسات غير الربحية التفكير في كيفية تعزيز الرضا لدى المؤسسات العائلية الأصغر حجماً، مثل أن تسلط الضوء على القواسم المشتركة، من حيث المنطقة الجغرافية أو الرسالة، أو إتاحة فرص تقدير المجتمع لها.
تشير هذه النتائج أيضاً إلى وجود فرص لزيادة فعالية كبار المانحين. فعلى سبيل المثال، يمكن زيادة التمويل، بدلاً من تقليله، خلال فترات الركود الاقتصادي، ليساعد في دعم المؤسسات غير الربحية وضمان وصول المساعدة إلى المجتمعات عندما تكون في أشد الحاجة إليها. إضافة إلى ذلك، قد يرغب كبار المانحين في دراسة إذا ما كانت هناك مجتمعات أو قضايا هم أقل دراية بها ولكن يمكنها أن تستفيد من دعمهم.
وأخيراً، تشير هذه النتائج إلى مسارات للبحث مستقبلاً. فهناك نقص في المعلومات حول إذا ما كان الرضا الناجم عن العطاء يؤثر في آليات التبرع المؤسسي، وهناك حاجة لمزيد من البحث حول دور هذا الرضا في صنع قرارات المنح. علاوة على ذلك، نحتاج إلى أبحاث تستكشف مدى تلاشي الخط الفاصل بين المانحين الأفراد والمؤسسات المانحة. ومع استمرار تطور القطاع الاجتماعي وازدياده تعقيداً، هل آن أوان إنهاء هذا التقسيم؟