إن صناديق الإيداعات التي ينصح بها المتبرعون، أو ما يُدعى (Donor-Advised Funds. DAFs)، تنتشر بازدياد يوماً بعد يوم كوسيلة للتبرعات الخيرية؛ حيث يوجد أكثر من 500,000 صندوق DAF مخصّص للأفراد حول الولايات المتحدة الأميركية، مع أصول تبلغ ما يفوق 100 مليار دولار أميركي. تتم إدارة كافة صناديق DAF من قبل "رعاة" – مؤسسات خيرية عمومية معفاة من الضرائب والتي يمكن لها إدارة أي عدد من حسابات DAF المخصصة للأفراد. يشمل الرعاة المؤسسات المجتمعية، الأيادي الخيرية لمدراء الاستثمار مثل فيديليتي (Fidelity) وتشارلز شواب (Charles Schwab)، المؤسسات الدينية، والجامعات.
يتلقّى المتبرعون (أحياناً يُشار لهم بمصطلح مستشارو أو مالكو صندوق DAF) تخفيضاً على الضرائب عند قيامهم بالتبرع بالمال أو الأصول المقدّرة إلى صندوق DAF. كما يمكن لهم طلب أن يقوم راعي صندوق DAF بتوزيع الإيداعات إلى المؤسسات الخيرية العاملة التي يختارونها. وعلى الرغم من أن المتبرعين يتمكنون من تقديم "المشورة" للرعاة، وهي غير مُلزِمة، إلا أن نصائحهم يؤخذ بها دائماً تقريباً.
من المحتمل أن تؤثر صناديق DAF على كلّ من توقيت المِنح وحجم الهِبات: حيث يتسببون غالباً في حدوث تأخيرات في المنح مقارنةً مع العطيات التي تُسلم مباشرةً للجمعيات الخيرية الفاعلة، إلا أنهم في الغالب يحققون مجموعاً نهائياً أكبر للمنح. وتشكل التأخيرات الزمنية في تقديم التبرعات على وجه الخصوص السبب الرئيسي لانتقاد المؤسسات غير الربحية لهذه الصناديق، حيث تفضل هذه المنظمات استلامها للهِبات في أسرع وقت ممكن.
تأجيل المِنح
يبلغ متوسط المدفوعات لصناديق DAF حوالي 20% من الهبات المقدمة لها سنوياً – مقارنةً بمتوسط المدفوعات لدى المؤسسات الذي يتجاوز 5% بشكل طفيف، وذلك على الرغم من عدم وجود أي متطلبات للدفع على صناديق DAF، على عكس المؤسسات والتي يتوجب عليها توزيع 5% على الأقل من الموهوبات سنوياً.
برغب المدراء التنفيذيون للمؤسسات غير الربحية في الحصول على المنح تحت تصرفهم في أسرع وقت ممكن، وهذا الأمر مفهوم بالطبع كون هذه المؤسسات تقدم الخدمات للمجتمعات التي تحتاج الرعاية؛ إلا أن حيوات المستفيدين المستقبليين لا تقل أهمية وقيمةً عن حيوات المستفيدين الحاليين. للتأكيد على ذلك، إن دولاراً واحداً تنفقه الآن أفضل من دولار واحد تنفقه لاحقاً، هذا الأمر صحيح فقط لأن التأثير التراكمي للتضخم يعني أن الدولار الواحد الآن يحمل قوةً شرائيةً أكبر مما سيحمله في المستقبل؛ إلا أن صناديق DAF يتم استثمارها في الأسهم والسندات وغيرها من الأصول التي تنمو في الغالب بمعدل أسرع من معدل التضخم، لذا فإن المقايضة الحاصلة بسبب التأخير لا تعني المقارنة بين إنفاق دولار الآن ودولار لاحقاً، بل تعني في أغلب الوقت المقارنة بين إنفاق دولار الآن مقابل شيء ذو قيمة أكبر من دولار لاحقاً.
علاوةً على ذلك، قد يمتلك المتبرعون أسباباً وجيهةً لتأخير المنح، وقد يمتلك المجتمع مسوغات قوية لدعم خيارات المتبرعين.
اقرأ أيضاً: خمس ممارسات ينبغي تجنبها في المؤسسات الخيرية
السبب الأول، فعالية المتبرع، يتعلق على وجه الخصوص بالمتبرعين الجدد والذين لم يقرروا بعد القضايا التي يرغبون في دعمها أو يحددوا الاستراتيجيات الأكثر فعالية لتحقيق أهدافهم والمؤسسات التي يريدون تمويلها. لنأخذ على سبيل المثال متبرعةً قامت ببيع مشروعها الناشئ مقابل ملايين الدولارات وماتزال دائمة الانشغال بالعمل طوال اليوم؛ دون امتلاك الوقت لأخذ كافة القضايا بعين الاعتبار، سترغب في تقديم التبرعات لمؤسسة مألوفة وآمنة مثل مدرستها الأم. يقوم نظام تأخير التبرعات الذي تعمل وفقه صناديق DAF بمنح هذه المتبرعة الوقت الكافي لتقييم ومعاينة مجال أوسع من القضايا. قد يسمح الاختيار المدروس بشكل أفضل للمتبرعة بتحقيق شعور أكبر بالإنجاز على الصعيد الشخصي من فعل العطاء الذي قامت به، بالإضافة إلى أنه، وعلى صعيدٍ أهم، قد ينتج قراراً يسمح بتحقيق إنجازات أكبر للصالح العام.
قد ترغب المتبرعة أيضاً في تأخير التبرعات من أجل فعالية القضية: قد تتطلب القضية التي اختارت المتبرعة دعمها، أو الاستراتيجية التي تحقق الأثر الأفضل، التمويل في وقت لاحقٍ أكثر من التمويل في وقت مبكر. على سبيل المثال: قد تختار المتبرعة الاستجابة لوباء كوفيد-19 عبر تمويل الاحتياجات الفورية الحالية، مثل معدات الحماية الشخصية. أو أنها قد تنظر نظرة مستقبلية للأمور وتختار دعم توصيل لقاح فيروس كورونا حالما يتم تطويره، أو أنها قد تفكر بما هو أبعد من ذلك لتختار الاستثمار في إعادة بناء وتطوير نظام الصحة والرعاية الوطني بعد انتهاء الوباء. بدلاً من ذلك، قد تخطط المتبرعة لتقديم سلسلة من المنح السنوية لتحقيق دعم مستدام لمؤسسة مجتمعية صغيرة لن تتمكن من إدارة هِبة كبيرة واحدة بفعالية.
قد يختار المتبرعون تأجيل العطايا أيضاً لأسباب تتعلق بالإرث: مثلاً - لغرس قيم الإحسان لدى أطفالهم وأحفادهم عبر تضمينهم في عملية صنع القرارات ومنحهم حرية التصرف بعد موت المتبرع. على الرغم من أن ترك إرث جيد هو أمر شخصي تمامًا، إلا أنه قد يتسبب في تخليد ممارسات من الإيثار تنفع المجتمع ككل. لذا نعتبر أسباب التأجيل المتعلقة بالإرث إيجابيةً بالمجمل، طالما أننا لا نمتلك أي سبب قاهر للاعتقاد أن التبرع بدولار الآن سيحقق أثراً أفضل بكثير من التبرع بدولار (مع الأرباح المقدرة) في المستقبل.
بالطبع، بعض المتبرعين يمتنعون عن صرف منح DAF بسبب العجز عن اتخاذ قرار ما ينعكس في التسويف المتكرر أو النسيان. لا يمكن تصنيف العجز عن اتخاذ قرار أو الجمود على أنه أمر جيد أو سيء بالتحديد، إلا أن أثره المجتمعي يعتمد على أفضلية التبرع الآن أو لاحقاً.
تعتمد الأرباح الصافية للمنح المؤجلة على طبيعة المشكلة التي يعالجها المتبرعون وعلى كيفية استثمار إيداعات صناديق DAF قبل التبرع بها أيضاً. بشكل عام، يتم استثمار الأصول المساهمة في DAF في الصناديق المشتركة التي تمتلك أسهماً وسندات وثبوتيات أخرى؛ ومن المرجح أن تتبع العائدات العوائد على مستوى السوق على أساس معدل وفق المخاطرة، وعندما تكون العائدات موجبة نحصل على منح أكبر. كما يوفّر بعض الرعاة الفرص لـ "الاستثمار في التأثير"، مثل تقديم قروض بفوائد منخفضة للأعمال الصغيرة في المجتمعات المحرومة. عند استثمار أموال صناديق DAF في المشاريع التي تحمل قيماً مجتمعية بحد ذاتها، تُعد الفوائد الناتجة عن هذه الاستثمارات جيدة في تحليل فوائد التكلفة لصناديق DAF.
إنّ أية حسابات متعلقة بالأرباح الصافية والتكاليف يجب أن تتضمن الرسوم المفروضة من قبل رعاة صناديق DAF. هناك نوعان من الرسوم: الرسوم الإدارية السنوية، والتي تغطي تكاليف التشغيل الكلية لراعي صندوق DAF وتبلغ حوالي 0.6% من الأصول بالنسبة لصندوق DAF متوسط الحجم لدى أكبر الرعاة الدوليين. بالإضافة إلى رسوم الاستثمار، والتي تُفرض لإدارة الأصول المستثمرة في العديد من المنح أو الوسائط الأخرى، وتبلغ قيمة أقل من 0.1% أو أكثر من 1.0% من قيمة الأصول. تتناقص النسبة المئوية للرسوم المفروضة من النوعين مع نمو أصول صندوق DAF. رغم أن المبالغ المتزايدة المتراكمة في الإيداعات تتيح للرعاة تحصيل رسوم أكبر، لم نشاهد أي سلوك غير مشجع على القيام بالتبرعات من قبل الرعاة الرئيسيين. حيث أن قدرة المتبرعين على نقل الأصول من صندوق DAF لدى إحدى المؤسسات إلى آخر تلعب دوراً تنافسياً في تحديد الرسوم التي يفرضها الرعاة.
صناديق DAF والتبرعات الخيرية
يوفّر رعاة صناديق DAF العديد من المزايا الأخرى للمتبرعين. حيث يقبلون الأصول المعقدة، بما في ذلك أسهم الشركات الخاصة، ويقومون بتسديد قيمة هذه الأصول قبل توزيع الإيداعات للجمعيات الخيرية الفاعلة. يمكن للمتبرعين أن يصبحوا مؤهلين لفوائد ضريبية أكبر عبر التبرع بأصول مقدرة عوضاً عن المال. على الرغم من أن المؤسسات غير الربحية الغنية بالمواهب مثل الجامعات والمتاحف الفنية يمكنها عادةً بيع هذه الأصول بمفردها، إلا أن الجمعيات الخيرية في المجتمعات الصغيرة لا تستطيع فعل ذلك في كثير من الأحيان. يمكن للمتبرعين التغلب على هذه العقبة من خلال منح أصول معقدة لصندوق DAF، ثم بعد تسديد قيمتها، يقومون بتوزيع عائداتهم على مؤسسة مثل بنك الطعام الذي لم يكن ليتمكن من قبول الأصول المعقدة أو حتى الأوراق المالية العادية بشكلٍ مباشر. وبالتالي، يمكن لصناديق DAF "إضفاء الطابع الديمقراطي" على المزايا الضريبية لتبرعات الأصول المقدرة عبر السماح للمجموعات الشعبية بالاستفادة من هذه الهدايا أيضاً.
تسهّل صناديق DAF على المتبرعين مضاعفةَ قيمة الاقتطاعات الضريبية الخيرية بالعديد من الطرائق الأخرى أيضاً. قد تحصل إحدى دافعي الضرائب التي تقوم ببيع مشروعها -أو أي حدث تصفية أصول آخر- على اقتطاع للضرائب المترتبة عليها في العام نفسه -بينما قد تواجه في العادة مجال ضرائب أعلى- حتى قبل تحديد أية جمعية خيرية فاعلة سترغب في التبرع لها. بالإضافة إلى ذلك، يمكن للمتبرعين القيام بتبرع كبير لصندوق DAF مرة كل عدة أعوام إذا كانت مساهماتهم السنوية أقل من الحد الذي يتيح لهم الاستفادة من اقتطاع ضريبي معين، وبالتالي يتمكنون من الحصول على اقتطاع ضريبي مفصل في ذلك العام، مع الاستفادة من صندوق DAF لتوزيع المنح بشكل متواتر.
من الصعب تقدير التأثير الصافي لهذه الفوائد على العطاء الخيري بشكل عام، ويرجع ذلك بشكلٍ جزئي لكون ظهور صناديق DAF منذ التسعينيات تزامن مع عدد من الأحداث المتناقضة. على سبيل المثال، شهد العقدان الأخيران انخفاضاً حاداً في عضوية الكنيسة الأميركية، ما أدى على الأرجح إلى انخفاض التبرعات لأن المؤسسات الدينية كانت تاريخياً أكبر المتلقين للعطايا الخيرية. في الوقت نفسه، قد يكون ازدهار سوق الأسهم خلال معظم تلك الفترة قد زاد من حجم التبرعات، حيث كان لدى الأفراد المزيد لتقديمه. في الواقع فإن العطاء الخيري ظل في حدود 2% من الناتج المحلي الإجمالي لسنواتٍ عديدة، ما قد يعني أن صناديق DAF لم يكن لها تأثير يذكر - أو أنها قد عكست تأثير الأحداث التي كانت ستؤدي لولا ذلك إلى تراجع العطاء.
يمكن أن تساعدنا النظرية الاقتصادية في تقدير تأثير صناديق DAF حتى عندما تكون البيانات غير محددة. نظراً لأن صناديق DAF تجعل الأمر أكثر ملاءمة لمنح العديد من المتبرعين والسماح لهم بالمطالبة بمزايا ضريبية أكبر، فهي تقلل من متاعب التبرع والتكاليف المترتبة على المتبرعين لكل دولار يساهمون به في مؤسسة خيرية فاعلة. وبالتالي فهي تقلل من "سعر ما بعد الضريبة" للعطاء الخيري. بشكل عام، عندما ينخفض سعر سلعة ما يشتري الناس المزيد منها. وبالتالي، نظراً لخفض صناديق DAF من سعر العطاء بعد خصم الضرائب، فإننا نتوقع بالتالي أن يكون التأثير الصافي لصناديق DAF على التبرعات الإجمالية إيجابياً.
هناك تأثيران آخران جديران بالذكر لصناديق DAF. أولاً، بعض المساهمات لصناديق DAF كان من الممكن أن تذهب إلى مؤسسات خاصة ذات قواعد قانونية وهيكلية وعمليات مختلفة. يتمثل أحد الاختلافات في أن متوسط معدل دفع تعويضات صناديق DAF المدفوعة أكبر بكثير من معدل الدفع المطلوب (والمتوسط) للمؤسسات الخاصة. وبالتالي، بالنسبة للمساهمات التي كانت ستذهب إلى المؤسسات الخاصة، فقد تؤدي صناديق DAF إلى تسريع الدفع بدلاً من تأجيله. علاوةً على ذلك، في حين أن المؤسسات غالباً ما تقدم منحاً مقيدة، فإن معظم المنح المقدمة من صناديق DAF غير مقيدة - وهو أمر يحظى بتقدير كبير من قبل معظم المؤسسات.
ثانياً، قد توفر صناديق DAF وظيفة سهلة لتشغيل الجمعيات الخيرية، وزيادة الهِبات أثناء فترات الركود الاقتصادي. والسبب وراء ذلك يكمن في حقيقة أن المتبرعين قد يمتنعون عن تخصيص أموال جديدة للأعمال الخيرية عندما يكون الاقتصاد فقيراً، إلا أنهم قد التزموا بالفعل بتقديم إيداعات DAF الخاصة بهم للأعمال الخيرية. وبالتالي، لن يكون لديهم أي حافز لتقليل المدفوعات الموصى بها من صندوق DAF عندما يكون الاقتصاد فقيراً، وقد يوصي البعض بزيادة المدفوعات في الأوقات الصعبة.
إن تقييمنا الإيجابي لا يستبعد الإصلاحات التي تستهدف ثغرات محددة في الهيكلية التنظيمية لصناديق DAF، مثل إمكانية استخدام صناديق DAF للالتفاف على القيود المفروضة على أهلية المؤسسات للحصول على صلاحيات جمعية خيرية عامة. سنترك الإجابة عن هذا الأمر والعديد من الأسئلة الأخرى المتعلقة بصناديق DAF لمقالاتٍ لاحقة، بما فيها الأسئلة المتعلقة بتقييم الأصول المعقدة واستثمار الأصول في التوجهات البيئية والمجتمعية والحكومية (ESG) ومنح التأثير، إضافةً إلى إخفاء هوية المتبرعين والقيود التي يفرضها الرعاة على المستفيدين المستحقين.
اقرأ أيضاً: كيف تشتري المؤسسات الخيرية التابعة للشركات الكبرى النفوذ والتأثير؟
هذه المقالة هي نتاج التدريب العملي لمختبر السياسة في كلية الحقوق بجامعة ستانفورد الذي تم في الفصل الدراسي الشتوي للعام 2019 - 2020 وتناول موضوع الإيداعات التي ينصح بها المتبرعون.
المشاركون هم كورتني اليز كوبرمان، درو ادواردز، اليسا ايبستين، ألكسندر سيموس جوميز جونيور، مايسي لورين اولاف، فيرناندو رودريغيز سيلفا سانتيستيبان، كافيا شانكار، ميشيل جاو. قام بتدريس المقرر أساتذة كلية الحقوق في جامعة ستانفورد جوزيف بانكمان وبول بريست، مع الأستاذ الضيف دانييل هيميل الأستاذ في كلية الحقوق في جامعة شيكاغو.
يمكنكم الاطلاع على النسخة الإنجليزية من المقال من خلال الرابط، علماً أنّ المقال المنشور باللغتين محمي بحقوق الملكية الدولية. إنّ نسخ نص المقال بدون إذن مسبق يُعرض صاحبه للملاحقة القانونية دولياً.