كيف تساعد الشركات في حل المعضلات الاجتماعية والبيئية؟

7 دقائق
الشركات
shutterstock.com/WalyK

على مدار أكثر من عقد من الزمان قضيتها في الكتابة لمختلف وسائل الإعلام عن الشركات ذوات الرسالة وعن صناع التغيير، لم ألاحظ أي كتاب يتحدث عن الشركات في مختلف القطاعات والمناطق الجغرافية يجمّع قصصهم حتى يرسم صورة أوسع للحركة التجارية العالمية من وجهة نظر صحفية. أُلّفت العديد من الكتب حول الأعمال التجارية التي تزخر بمصطلحات نظريات الأعمال، أما أنا فأردت أن أكتب كتاباً حول الشباب المتحمسين لقضايا المناخ، ورواد الأعمال الواعدين، والمستهلكين، بالإضافة إلى المحاربين القدماء في هذا القطاع الذين يبحثون عن الاستلهام بعضهم من بعض.

يهدف كتاب "العمل للإصلاح: تسخير قوة الأعمال التجديدية لتعافي الكوكب" (Working to Restore: Harnessing the Power of Regenerative Business to Heal the World) إلى تلك الغاية، ودراسة الشركات التي تبحث عن حلول في مجالات الأغذية والأزياء والسفر والصحة والتمويل والطاقة لأقول إن هذه المفاهيم لا تقتصر على قطاع بعينه. بدأت في السنوات الخمس الماضية أرى تحولاً متصاعداً للتضليل البيئي أو ما يعرف ب"الغسيل الأخضر". وركزتُ على الشركات التي تتبنى مستوى عميقاً من الاستدامة كي لا أضيع في زحام الشركات التي تتبنى الاستدامة بمعانيها السطحية. إذ لم يعد معظم رواد الأعمال الذين تحدثت إليهم من المعجبين بهذا المصطلح، فهم يشعرون أنه لا يعبّر عن أعمالهم بعمق. وكانوا حريصين على بناء نموذج تجديدي للأعمال. لذا يدرس هذا المقتطف تطور الشركات ذوات الرسالة، ولماذا لم تعد الاستدامة كافية، وما ملامح حقبة التجديد هذه. إيشا شبرا

عندما بدأت مسيرتي المهنية منذ أكثر من عقد من الزمان، كتبت عن المؤسسات الاجتماعية، بمعنى أن الشركات يمكن أن تسعى إلى تحقيق هدف اجتماعي (أو بيئي). دخل مصطلح "المؤسسات الاجتماعية" إلى قاموس المصطلحات التي تستخدم يومياً في عالم الأعمال. وتساءل الناس حينها: "هل الغرض الوحيد من الأعمال هو كسب المال لنخبة قليلة؟". وعلى الرغم من الحديث عن أوجه القصور في نظام الرأسمالية العالمي، كان رواد الأعمال الاجتماعيون يعملون كمتمردين، وينشئون مؤسسات مرنة وغالباً غير معروفة للجمهور.

تغيّر ذلك في عام 2006 عندما حصل محمد يونس، من بنغلاديش، على جائزة نوبل للسلام لتأسيسه بنك غرامين، وهو مؤسسة للتمويل المتناهي الصغر قدمت قروضاً للأفراد والأعمال الصغيرة التي عدّها النظام المالي التقليدي آنذاك غير موثوقة. تحدّث يونس حينها عن "الأعمال الاجتماعية"، وهو مصطلح يناقض مهمة الأعمال في تحقيق أقصى ربح ممكن. وأكد أن الشركات يجب أن تحقق أرباحاً ومكاسب، ولكن يجب توجيهها مرة أخرى إلى الشركات نفسها وخدمة هدف أعظم. وبدأت وسائل الإعلام على نحو سريع تغطية هذا التقارب بين الأعمال الخيرية والشركات والتمويل بشكل أكثر تفصيلاً. وقال يونس مازحاً إنه تحدث عن هذه المفاهيم لعقود خلت في أثناء إنشائه لبنك غرامين في السبعينيات. ولم تؤخذ أفكاره على محمل الجد حتى فاز بجائزة نوبل للسلام.

نحتاج نحن البشر أحياناً إلى جرس إنذار ليوقظنا من غفلتنا. فالكثير من أوجه الإجحاف والأضرار التي نراها في العالم اليوم ليست وليدة البارحة. فكّر في الفيلم الذي أنتجته ديزني بعنوان "وول-إي" (WALL-E) الذي صدر في عام 2008 واستغرق إنتاجه سنوات، حول روبوت وحيد ينظف تلالاً من النفايات، نتيجة اندفاع البشر الهائل نحو الاستهلاك. كان ذلك قبل أكثر من عقد من الزمان. من حينها والأجراس لم تزل تُدق.

من الصعب تجاهل حقيقة أننا البشر نغير المناخ، ونزيد التلوث والنفايات في كوكب الأرض يومياً. لم تنج سوى 13% من المحيطات من نفاياتنا البلاستيكية .1 ويدخل ذلك البلاستيك الآن إلى أنظمتنا الهضمية، وللأسف نحن نطرح البلاستيك الآن .2 وكل هذه النفايات البلاستيكية من أجل ماذا؟ أشياء. الأشياء التي من المفترض أن تجعل حياتنا أفضل وأسهل وأسرع. لكن هل جعلت حياتنا أسعد؟

لقد أخلّينا في التوازن. مثلما تعتمد أجسادنا على التوازن للحفاظ على صحتها، فإن الأرض تعتمد على التوازن أيضاً. ويعتقد الكثير من الناس بأن "الأشياء" لا تمنحنا السعادة؛ إنها تفقدنا التوازن فحسب. وبالتأكيد ثمة أهداف أسمى في الحياة من مجرد اقتناء الأشياء، وتراكم الديون، والعيش في دوامة لا نهاية لها من دفع الفواتير.

قد يبدو المشهد في غاية السوداوية، ولكن ثمة حلول تلوح في الأفق. إذ تتطلع الشركات إلى التواصل مع جيل فتي يرنو إلى غايات أسمى للأعمال التجارية.

الشركات قوة جبارة وبمقدورها وضع الاقتصاد وسلوك المستهلكين وتأثيرهما في كوكب الأرض على المسار الصحيح. إذ تؤدي الأعمال دوراً رئيساً في حل المشكلات الاجتماعية والبيئية، فهي توفر وظائف للناس، وتؤمن المواد من مناطق نائية من العالم، وتنقل ملايين الأشخاص وأطناناً من البضائع يومياً. ويمكن لمجتمع الأعمال أن يضعنا على مسار مختلف إذا دعمنا الأعمال التي تعطي الأولوية لإعادة التوازن وليس لنمو الأرباح. عقّدت الجائحة فهمنا لهذه الحقيقة، فعلى الرغم من الراحة التي يوفرها العمل من المنزل، فقد أدى بآلاف الأميركيين إلى خسارة وظائفهم، والسعي إلى التغيير، والتفكير في قيمة الوقت وكيف يمكن أن يستغلوا وقتهم وصحة أجسادهم، محاولين فهم دورهم في هذا النظام الاقتصادي الكبير.

لقد رأينا نتائج الأعمال التي تركز على العائد على الاستثمار وتوفير الثروة لمجموعة النخبة من المساهمين. وضاق الكثير من الناس ذرعاً من هذا النهج. فهل من الضروري دائماً أن تحمل صفة القوة العالمية حتى تحصد الأرباح؟ وهل من الضروري دائماً بناء سلاسل التوريد لمصلحة قلة قليلة من النخبة حتى تُعد الشركات مشاريع ناجحة؟ بالتأكيد لا.

وفي أثناء تغطيتي لتطور قطاع العمل الاجتماعي، شهدته ينمو من فكرة بسيطة متمثلة في "اشتر منتجاً تمنح منتجاً"، وهو نموذج يستعين بالعمل الخيري عبر تقديم منتج مجاني لكل عملية شراء، ثم تطور القطاع إلى مجالات أكثر تخصصاً، فظهرت شركات ب، وشركات تهدف إلى تحقيق المنفعة العامة، وظهر الاقتصاد ذو الرسالة. حيث تشكل هذه التسميات الجديدة تحدياً حقيقياً للتفكير التقليدي الذي لا يرى في الأعمال سوى مشاريع تسعى للربح.

ولا يكفي صياغة رسالة الشركة بعبارات تقدمية ولصق بعض الاقتباسات الملهمة حول العمل لإنشاء شركة ذات رسالة. يقول قادة السياسة والشركات إنه بمقدورنا بناء عالم أكثر "استدامة". ومع ذلك، فهم ما زالوا يحاولون بناءه منذ دخول مصطلح "التنمية المستدامة" إلى قاموس الأعمال عبر وثيقة من 300 صفحة تعرف باسم تقرير برونتلاند (Brundtland Report) نشرته الأمم المتحدة عام 1987 تحت عنوان مستقبلنا المشترك. تحدّث التقرير عن بناء مستقبل أكثر استدامة، ووضع لائحة للأزمات المتشابكة التي تؤثر في البشرية، منها ندرة المياه والجفاف والمجاعة وتسرب المبيدات الحشرية في التربة والاعتماد المفرط على المواد الكيميائية.

فهل بمقدورنا حقاً بناء عالم أكثر استدامة، مع العلم بأننا نتحدث عن نفس القضايا على مدار العقود الثلاثة الماضية؟ لقد سئم كل من تحدثت معه في إعداد هذا الكتاب من كلمة "مستدام". استدامة ماذا؟ استدامة هذا الخلل؟

وعوضاً عن ذلك، يرغب رواد الأعمال هؤلاء في إعادة كتابة قواعد العمل للتركيز على الشفافية والبساطة والتعاطف والإنصاف. إنْ تمسكنا بهذه القيم ووضعها موضع التنفيذ بشكل يومي، فسنستطيع البدء باستعادة التوازن على الصعيدين البيئي والاجتماعي.

وسأكون واضحة، لا يوجد حل مثالي. نحدث نحن البشر أثراً في بيئتنا، فمن طبيعتنا أن نرغب بما لا نملك، ونشتهيه ونسعى للحصول عليه. وتقرُّ شركات عديدة سلط هذا الكتاب الضوء عليها بأنها تنتج منتجات مادية لها آثار في البيئة. لكن يمكن لهذه الشركات الإنتاج دون الممارسات الجائرة عبر سلاسل التوريد الحديثة، ودون استغلال الناس، ودون الإفراط في استخراج الموارد، ودون الإضرار بكوكب الأرض مصدر الحياة.

من الصعب العمل بمعزل عن الآخرين في ظل الاقتصاد العالمي. ومن غير المحتمل أن نعود إلى الصناعات المنزلية والاقتصادات المحلية بالكامل. وبالتالي، من الضروري إلقاء نظرة على الشركات التي تعمل على نطاق واسع وفي قارات متعددة. تثبت هذه الشركات أنه يمكننا الحصول على القهوة من شرق إفريقيا وأن يشكل صغار المزارعين جزءاً أكبر من نموذج الأعمال؛ وأنه لدينا أحذية عصرية صديقة للبيئة تُصنع بالكامل في بلد واحد باستخدام مواد طبيعية وتُشحن باستخدام المساحات الزائدة عن الحاجة في الحاويات؛ وأنه يمكننا أخذ نفايات المنسوجات من المصانع وتقطيعها وتحويلها إلى أقمشة صالحة للاستعمال. نماذج العمل هذه متوفرة لمن يريد استكشافها والاستثمار فيها وتبنّيها بعيداً عن الهوس بنمو الأرباح.

للنظام الرأسمالي العالمي جذور عميقة في جميع أنحاء العالم. وتصميم هذا الاقتصاد الجديد ليس بالمهمة السهلة ولا يُنجز بين عشية وضحاها. ويعمل العديد من الشركات التي ناقشتُ نموذج عملها في هذا الكتاب على تصميمه منذ أكثر من عقد، لكن التقدم بطيء. لقد امتدت أذرع الأموال القذرة إلى أبعد مدى. والممارسات التجارية التي أوصلتنا إلى هذه النقطة راسخة. والإسعافات الأولية لا تجدي نفعاً. يتطلب البناء المتأني لنموذج عمل جديد التفكير والتدبر والمثابرة والتصميم من الرؤساء التنفيذيين والمؤسسين إلى جانب الموظفين والعاملين.

وثمة اختلاف جوهري واحد يمكن الانطلاق منه، وهو أن هذه الشركات تتمحور حول تحدٍّ أو مشكلة كبيرة أو قضية. لذا فالهدف ليس نمو الأرباح بل حل معضلة، كيف تصنع منتجات ذات حلقة مغلقة من الإنتاج وإعادة التدوير؟ كيف تتأكد أن كل جزء من سلسلة التوريد يستفيد من عملك التجاري؟ كيف تنفع الكوكب ولا تستنزفه في هذه العملية؟

يعمل رواد الأعمال هؤلاء في أعمال تهدف إلى إعادة التوازن والإصلاح لنظام يعاني فقدان التوازن والخلل في أساساته منذ مدة طويلة. ولا يوجد حل شامل ووحيد لكل من هذه التحديات الضخمة، ولكنهم قد يفتتحون حقبة جديدة من التجديد. ولتكن هذه القصص عصفاً ذهنياً للحلول الممكنة، في حال كانت غاية الأعمال أسمى من الربح.

لنتحدث عن الغسل الأخضر. وهي مشكلة كبيرة. شاهدت أمثلة لا حصر لها على رواد أعمال يرغبون في زيادة تأثيرهم في البيئة، ويدلون بتصريحات رنانة حول مدى تقدم شركتهم. لكن بصراحة، في حال كنت عميلاً يقرأ مصطلحات التسويق على مواقعهم الإلكترونية أو منشوراتهم على وسائل التواصل الاجتماعي، فقد يكون من الصعب عليك التفريق بين الزيف والحقيقة.

ولكن ما تكرر معي عند التفاعل مع العديد من الرؤساء التنفيذيين والمؤسسين عند إعداد هذا الكتاب هو أن الصادقين في تطلعهم إلى إعادة صياغة تعريف الشركات غالباً يقولون ما يفعلون. ويعيشون حياة بسيطة، ومن السهل الوصول إليهم، ويتوقون إلى المناقشة والاستماع وقضاء الوقت مع شركائهم في سلاسل التوريد الخاصة بهم، ولا يهرولون خلف الأضواء، ويركزون اهتمامهم على دقائق أعمالهم أكثر من أحاديث التسويق.

ولا يسعى معظم قادة الشركات المذكورة إلى الإصلاح بسبب رواجه، أو لأنهم يعتقدون أن الوقت قد حان للتركيز على تأثيرهم. إذ تنبع حوافزهم من مفهومهم للعمل، وهو دافعهم الرئيس. تستطيع أن تصفهم "بالمجددين" أو "الإصلاحيين" أو أي صفة تشاء، فلا تهمهم العناوين الرنانة. ما يهمهم هو مواجهة المعضلات الحقيقية التي تحتاج إلى معالجة. فالعناوين الرنانة سريعة الزوال، لكن التأثير الذي تحدثه الأعمال يبقى، سلبياً كان أم إيجابياً. لذا فهم يركزون انتباههم على التأثير.

وتجدر الإشارة إلى أن بعض هذه الشركات قد يفشل على المدى الطويل، وذلك أمر واقعي. لكن رواد الأعمال هؤلاء اختاروا مساراً بديلاً، وأعتقد أنه من الجدير بنا دراسة أعمالهم لمعرفة الجواهر التي يمكن أن تظهر في الجيل القادم من الأعمال.

يمكنكم الاطلاع على النسخة الإنجليزية من المقال من خلال الرابط، علماً أنّ المقال المنشور باللغتين محمي بحقوق الملكية الدولية. إنّ نسخ نص المقال دون إذن سابق يُعرض صاحبه للملاحقة القانونية دولياً.

المحتوى محمي