منذ عامين، قرر بعض الباحثين اللامعين التحقيق فيما أطلقوا عليه "لغز العطاء غير المجدي". سألوا في البداية مجموعة من الممولين المحتملين عن الفرق بين المؤسسات الخيرية العادية والمؤسسات الخيرية ذات التأثير الكبير. ثم سألوا حفنة من الخبراء. لخص ماكس روزر من موقع أور ورلد إن داتا (Our World in Data) النتائج التي توصلوا إليها بهذه الطريقة:
ثمة ملاحظتان مهمتان هنا، تتلخص الأولى في أن الخبراء يعتقدون بوجود فرق كبير في الفعالية بين المؤسسات الخيرية بينما لا يعتقد معظم الممولين المحتملين بوجود هذا الفرق. أما الملاحظة الثانية فمذهلة، فوفقاً لنفس الخبراء، لا تنجز المؤسسات الخيرية دون المتوسط أي شيء يذكر، وتلك الموجودة على أقصى يسار الرسم البياني تؤذي الناس فعلياً.
مؤسسات الزومبي
يتحدث صديقي الذي يعمل مع العديد من المؤسسات غير الحكومية عن هذه المؤسسات العديمة الفائدة باستمرار. ويطلق عليها لقب مؤسسات الزومبي، وأعتقد أن وجهة نظره منطقية، إذ تتجول الزومبي في الأرجاء ولا تفعل شيئاً يذكر، ولكنها تبقى على قيد الحياة ما دامت تتغذى على لحم البشر. استبدل عبارة "تتغذى على لحم البشر" بعبارة "تتغذى على مال الممولين" وستكون التسمية في محلها.
كنت ألقي اللوم على تلك المؤسسات، متسائلاً لماذا لا تعمل باجتهاد. إن غياب تحمل المسؤولية عن التأثير آفة القطاع الاجتماعي، وبدا واضحاً لي حينها أن الخطأ الرئيس يقع على عاتق تلك المؤسسات. لكنه لم يكن خطأها، إنه خطؤنا نحن الممولين. المال هو شريان الحياة لمؤسسات القطاع الاجتماعي، ونحن من يقدمه، ونحن الأقل عرضة للمساءلة في النظام برمته. ففي حال كانت ثمة زومبي تتجول الأرجاء، فالخطأ خطؤنا.
لنمعن التفكير في هذه الفكرة. يقابل الممولون في قطاع العمل الاجتماعي المستثمرين في قطاع الأعمال التجارية. وفي عالم الأعمال التجارية تنهار الشركات إن لم تقدم قيمة للعملاء ويخسر المستثمرون عندما تنهار الشركات. وعندما تجري الشركات الاستثمارية الكثير من الصفقات الخاسرة، تخرج من السوق. فهي خاضعة للمساءلة، وغالباً ثمة تداعيات لقراراتها السيئة.
وهذا النوع من تحمّل المسؤولية الهيكلية غير موجود في عالم المؤسسات غير الربحية. فليس لدى عملائنا الذين نشير إليهم غالباً باسم "المستفيدون" أي وسيلة للتعبير عن مستوى القيمة المقدمة لهم أو حتى عن انعدامها. وليس لديهم رأي في استمرار مؤسسات الزومبي أو توقفها عن العمل. وفي حال لم يكن المموّلون مسؤولين عن القيمة (أي التأثير) فلن تكون مسؤولية أحد آخر.
ونحن الممولين لا نلقي بالاً لهذه المسألة في الحقيقة. فتحمّل المسؤولية مرتبط بالعواقب، لكن الممولين مثلي لا يُطردون أبداً بسبب قلة التأثير. قد تفقد وظيفتك لخطأ اقترفته، أو لخسارتك محبة زملائك. لكنك لن تفقد وظيفتك أبداً لإخفاقك في إحداث تغيير كافٍ في المجتمع. سنُحاسب إن سرقنا المال، وعلينا اتباع القواعد الضريبية، ومن المفترض أن نتجنب الاحتيال، ولكننا لن نُحاسب عن نتائج العمل. يمكننا تمويل كل المشاريع العديمة الجدوى التي نريدها دون الخوف من العواقب.
والنتيجة، أخفقنا في إنشاء سوق ذي فعالية للتأثير، وهذا يعني أن الأموال لا تصل بفعالية نحو الجهات الأكثر قدرة على إحداث التغيير. ومؤسسات الزومبي باقية، وتلتهم الموارد الثمينة التي يجب أن تخصص للناس. ونحن لا نحقق سوى جزء بسيط من أهدافنا.
وبالطبع، لا يوجد ممول يعتقد أنه يُطعم (أو يمول) مؤسسات الزومبي، لكن إن لم نكن نمولها، فما الذي يبقيها بيننا. ولحسن الحظ، ثمة طريقة بسيطة جداً للحفاظ على محفظتك الاستثمارية خالية من مؤسسات الزومبي، وهي ألا تمول أي جهة لا تؤدي عملاً موثوقاً لتحديد طبيعة تأثيرها ومداه. فمَثلُ المؤسسة التي لا تحدد تأثيرها كمثل الطيار الذي يقود طائرته دون رادار، وسيكون حالك كحاله.
ماذا يعني العمل الموثوق؟ علينا أولاً أن نتوصل إلى تعريف مشترك للتأثير. إليك أحد التعريفات المبسطة له: التأثير هو تغيير جوهري في المجتمع يجعله أفضل. وهو فرق يمكن ملاحظته وتحديده وقياسه عبر نتائج محددة. ونقصد أعمالاً مثل: إنقاذ أرواح الأطفال، وزيادة دخل المزارعين، ومنع إزالة الغابات، ورفع مستوى التعليم، وانخفاض نسبة ثاني أوكسيد الكربون في الغلاف الجوي، ومنع انتشار فيروس نقص المناعة المكتسبة، وهواء أنقى في المدن، ومصايد الأسماك المعاد تأهيلها، وحقوق إنسان مُصانة.
التأثير هو تغيير يمكن إدراكه ومعرفته، وبدقة أكثر هو التغيير الذي لم يكن ليحدث لولا جهود المؤثِّر، وهذه العبارة بالذات تصف بدقة ما يفترض أن يحققه العمل الخيري.
كما يمكن أن يُعرف التأثير بنقيضه. بالدرجة الأولى، بالأنشطة العديمة التأثير. مثل الدورات التدريبية وورش العمل والبرامج العديمة التأثير. والمقاييس الزائفة مثل "تغيير نوعية الحياة" و"التأثير في عدد كبير من الناس". لا ينفع الوعي والاستعداد إذا لم يترجم إلى عمل؛ ولا ينفع العمل إذا لم يفض إلى تغيير. ولا شك في أن المعرفة والتصريحات والعمل خطوات ضرورية على طريق التأثير، ولكن العبرة بالخواتيم.
قياس الأثر
ففي حال كان ذلك هو التأثير المنشود، فماذا يعني قياسه عبر عمل موثوق؟ فيما يلي خمس خطوات لقياس التأثير عبر عمل موثوق، ولكي يكون عملك واقعياً، اختر مؤسسة بطريقة عشوائية من محفظتك الاستثمارية. وفكر فيما يلي:
- الرسالة: هل لدي فهم واضح لما تحاول المؤسسة تحقيقه، أي التأثير المحدد الذي تحاول إحداثه؟ (يمكنك تجربة طريقة رسالة المؤسسة المكونة من ثماني كلمات)
- المقاييس: هل تقيس المؤسسة التأثير على الهدف (أو الأهداف) الصحيحة لمعرفة مدى التأثير؟
- التغيير: هل يمكنها إثبات حدوث تغيير عبر هذه المقاييس؟
- الإسناد: في حال حدث تغيير، فهل يمكنها عرض إحدى الحالات التي يظهر فيها أثر عملها بوضوح؟ (تأثير المؤسسة هو الفرق بين ما أحدثته وما كان سيحدث دون تدخلها، حسب المبدأ الفلسفي "معرفة الشيء بنقيضه").
- التكلفة: في حال تعرفتُ إلى التأثير، فهل يمكنها الإبلاغ عن تكلفته بشكل موثوق؟
تنطوي هذه الطريقة على الكثير من الجهد، لكنك لا تستطيع التنازل عنه إذا أردت بصدق معرفة تأثير تلك المؤسسة في المجتمع. ولا أنكر أن تنفيذ ذلك بدقة على محفظة استثمارية متنوعة يُعد عملاً يستغرق وقتاً طويلاً ومتابعة مستمرة، لكن واجبك بصفتك ممولاً يتطلب الاستمرارية في ذلك العمل الدؤوب. فلن تحظى بالاحترام كمستثمر إن لم تفهم معنى الربح، ولن تحظى بالاحترام كممول إن لم تفهم معنى التأثير. وإن لم ترغب بأداء ذلك العمل، فعليك توظيف من يؤديه. إذ يعني تحمّل مسؤولية التأثير الالتزام بتأثير التمويل، وتعلُّم معرفة حدوثه من عدمه، وقياس التأثير قبل العمل وبعده للتأكد من نجاحه في إحداث التأثير. (وإليكم محاولة مؤسسة مولاغو (Mulago) لتبيان تحملنا للمسؤولية). تحملك للمسؤولية يعني ألا تقدم التمويل حتى تعرف ماهية النجاح وكيف سيتم قياسه. ويعني تعلمك من أخطائك والتوقف عن تمويل المهام الفاشلة. وتلك ليست بالمهمة السهلة، ولكن: بمجرد البدء بالمحاولة، ستغدو جزءاً من الحل.
وكونك جزءاً من الحل لا يعني تجنب المخاطرة، ولا يعني عدم تمويل جهود مهمة تستغرق بعض الوقت للوصول إلى نتائج. يمكنك دعم الشركات الناشئة والمشاريع الطموحة ما دمت تعرف هدفك وتعرف متى تنطلق. كما يمكنك تمويل تغيير الأنظمة ما دمت قادراً على معرفة إمكانية التغيير.
وسواء كنت تمول مشاريع طموحة أو مشاريع مضمونة النجاح، فواجبك معرفة مدى نجاحها وأن تتصرف وفقاً لذلك. فالتأثير التزام أخلاقي، ونحن نفتقر إلى تحمل المسؤولية المتأصلة في عالم التجارة، لذلك علينا أن نُحمّل أنفسنا المسؤولية. وعلى مجالس الإدارة تحميل المسؤولين التنفيذيين المسؤولية، وعلى المدراء العمل انطلاقاً من تحمل المسؤولية، ويجب أن تكون المسؤولية الشغل الشاغل لمسؤولي البرامج، أما الأثرياء فعليهم إيلاء تبرعاتهم أهمية استثماراتهم نفسها.
والطريقة الوحيدة لتحويل كل ما سبق إلى قاعدة للعمل الاجتماعي هي جعل تحمل المسؤولية جزءاً أصيلاً من ثقافة العطاء. إذ يبذل الممولون العطاء لتحقيق أهداف متنوعة، منها اكتساب المكانة الاجتماعية، أو الواجب الأخلاقي، أو الشعور بالقدرة، أو التخفيف من معاناة الآخرين، أو الحصول على السعادة التي يمنحها السخاء، وعلينا ربط هذه الأهداف جميعها بالتأثير، لجعلها بعيدة المنال دونه. والتوصل إلى طريقة تحقيق ذلك هو التحدي الأكبر للأعمال الخيرية، ويجب أن يكون على رأس أولوياتنا.
يجب أن يكون على رأس أولوياتنا لأنه في حال كان المموّلون مسؤولين عن التأثير على نحو كبير، يمكن أن نحقق الآتي: سنسخّر آليات عمل السوق لمصلحة التغيير، وسيبدأ تدفق الأموال بفعالية نحو الجهات الأقدر على إحداث التغيير. وسيتنافس الممولون على تمويل المؤسسات ذات التأثير الكبير بعد أن كانت تعاني مشكلات نقص التمويل. وستضطر مؤسسات الزومبي إلى رفع مستوى أدائها لكي تستمر، وإلا ستنتهي. وسيحصل العاملون الاجتماعيون على رواتب تتناسب مع إسهامهم في التأثير (لم أفهم مطلقاً لماذا يجب أن تكون فقيراً لتنقذ المجتمع) وسيجذب هذا القطاع المزيد من المواهب. وسيؤدي ازدياد التأثير إلى ازدياد الإيمان برسالة العمل الخيري وزيادة الممولين، وبالتالي زيادة الجهات الفاعلة كماً ونوعاً. وسنرى نقلة نوعية نحو مجتمع أفضل.
أحلم بيوم تجوع فيه مؤسسات الزومبي ويُطرد أشخاص مثلي إذا أخفقنا في إحداث تأثير دائم. يقول المثل الصيني: "إن أفضل وقت لزراعة شجرة هو قبل 20 عاماً، وأفضل ثاني وقت هو اليوم". كنا سنحظى بعالم أفضل لو كان جميعنا مسؤولاً عن التأثير في العشرين عاماً الماضية، فلنبدأ الآن. فقد حان وقت الزراعة.
يمكنكم الاطلاع على النسخة الإنجليزية من المقال من خلال الرابط، علماً أنّ المقال المنشور باللغتين محمي بحقوق الملكية الدولية. إنّ نسخ نص المقال دون إذن سابق يُعرض صاحبه للملاحقة القانونية دولياً.