السنوات العشر المقبلة من الاستثمارات المؤثرة

التوجه المحتمل للاستثمار المؤثر
استمع الى المقالة الآن هذه الخدمة تجريبية
Play Audio Pause Audio

قبل ما يزيد قليلاً على 10 سنوات، نشرت شركة جيه بي مورغان (JPMorgan) ومؤسسة “روكفلر” (Rockefeller)، جنباً إلى جنب مع الشبكة العالمية للاستثمار المؤثر (Global Impact Investing Network. GIIN)، تقريراً يقول إن الاستثمار المؤثر كان فئة أصول ناشئة ستصل قيمتها إلى ما بين 400 مليار دولار وتريليون دولار في هيئة أصول مُدارة بحلول عام 2020. بدا هذا التوقع في ذلك الوقت استشرافاً طموحاً للغاية، سواء بالنسبة لنا كمؤلفي هذا المقال أو للأشخاص الذين قرؤوه.

إن شكوكنا لم تكن في محلها؛ ففي عام 2020، بلغت قيمة السوق حوالي 715 مليار دولار في الأصول المُدارة، وفقاً للشبكة الدولية للاستثمار المؤثر. في حين كانت تقديرات مؤسسة التمويل الدولية (IFC)  لقيمة هذه السوق أعلى، ووصلت إلى 2.1 تريليون دولار. مع هذا النمو الملحوظ على مدى السنوات العشر الماضية، تساءلنا إلى أي مدى يمكن أن يتطور الاستثمار المؤثر بين عامي 2020 و2030.

للإجابة عن هذا السؤال، نحتاج إلى التوقف لحظة والتفكير في بعض التوجهات الحالية المهمة. على سبيل المثال، نعلم أن أزمة المناخ وعدم المساواة الاقتصادية والتفريق بين الجنسين والظلم العنصري والأزمات الأخرى، وهي الأهداف الرئيسية للحلول المدعومة بالاستثمارات المؤثرة، كانت تشكل بالفعل تحديات كبيرة للحكومات في جميع أنحاء العالم في بداية هذا العقد. ونعلم أن هناك فجوة سنوية تبلغ 2.5 تريليون دولار في حجم التمويل اللازم لتحقيق أهداف التنمية المستدامة (SDGs) بحلول عام 2030. ونعلم جميعاً أن جائحة كوفيد-19 دمرت وعطلت حياة الناس في جميع أنحاء العالم، كما أنها زادت من صعوبة تحقيق أهداف التنمية المستدامة؛ حيث اضطرت الحكومات إلى إعادة تخصيص الموارد وتحمّل مستويات أعلى من الديون للصمود في وجه تهديدات هذا المرض، بما فيها تفاقم مظاهر عدم المساواة.

لن يكون رأس المال الاستثماري المؤثر الخاص مصدراً رئيسياً لتمويل أهداف التنمية المستدامة فحسب، بل سيلعب أيضاً دوراً مهماً في إيجاد حلول للمشكلات التي يُنظر إليها تقليدياً على أنها من مسؤوليات القطاع العام وهو يكافح للتعامل مع أزمات جديدة وغير مسبوقة. مع أخذ هذه الضغوطات في عين الاعتبار، ما هي الفرص والابتكارات في الاستثمار المؤثر التي قد نشاهدها خلال الأعوام العشرة المقبلة؟ من أجل تشكيل فكرة عامة حول التوجهات المحتملة للاستثمار المؤثر، نلقي نظرةً على ما كانت عليه الأمور في ثلاثة مجالات نعتقد أنها تلعب دوراً كبيراً في أهداف الاستثمار المؤثر وممارساته: المساواة والشمول، والمناخ، والأدوات المالية والتحليلية.

1. التنوع والمساواة والشمول (DEI)

لطالما كان حماس القطاع الخاص لتأدية دور بشأن عدم المساواة  منخفضاً، ولم يكن مُتوقعاً منه بذل مزيد من الجهد في هذا السياق أيضاً، خاصةً في ظل رأسمالية ميلتون فريدمان في السوق الحرة خلال العقود الماضية. واليوم، مع انحسار عقيدة فريدمان وتنامي إدراك الشركات أنها تتحمل مسؤولية تجاه أصحاب المصلحة أيضاً وليس فقط تجاه المساهمين ، أصبح لدى المستثمرين فرصة أكبر لتحسين المساواة بين جميع الأشخاص في الوصول إلى رأس المال أو السلع أو الخدمات عالية الجودة وميسورة التكلفة. إليكم بعض الأساليب التي يستفيد منها المستثمرون حالياً والتي توفر لمحةً عن التوجهات المستقبلية:

دعم رواد الأعمال من فئات متنوعة

حققت الحركات الاجتماعية مثل حياة السود مهمة وحملة #أنا_أيضاً أصداء قوية استمر تأثيرها حتى بعد الاحتجاجات في الشوارع خلال عام 2020. لقد حفزت المستثمرين والشركات على التحرك لمواجهة عدم المساواة المنهجية على أساس العرق أو النوع الاجتماعي، لا سيما فيما يتعلق بإمكانية الوصول إلى رأس المال والحصول على الفرص الاقتصادية. تعهدت سيتي غروب (Citigroup) وبنك أوف أميركا (Bank of America) بتقديم مليار دولار لمعالجة الفجوة في الثروة بين المجموعات العرقية. وأطلق سوفت بنك (Softbank) منحةً قيمتها 100 مليون دولار لرواد الأعمال من أصحاب البشرة الملونة. كما قدمت باي بال (PayPal) 530 مليون دولار لدعم الأعمال التجارية لأصحاب البشرة الداكنة والأقليات ضعيفة التمثيل ومجتمعاتهم. وأعلنت تويتر (Twitter) عن التزام بقيمة 100 مليون دولار لصندوق العدالة المالية (Finance Justice Fund)، الذي يهدف إلى جلب رأس مال بقيمة مليار دولار من الشركات والشركاء الخيريين إلى الأفراد والمجتمعات الأكثر حرماناً في أميركا. تمثل هذه الالتزامات التي حصلت مؤخراً استمراراً لتوجه آخذ في النمو خلال السنوات الأخيرة. ففي عام 2019، حققت الأسهم الخاصة ورأس المال المغامر والديون الخاصة استثمارات بقيمة 4.8 مليارات دولار تركز على دعم النساء، ارتفاعاً من 1.1 مليار دولار وهو المبلغ الذي استُثمر لهذه الغاية في عام 2017.

تاريخياً، كان الكثير من التمويل الذي يستهدف دعم النساء وأصحاب المنازل أو أصحاب الأعمال التجارية من الأقليات في الولايات المتحدة يأتي من خلال المؤسسات المالية للتنمية المجتمعية (CDFIs)، وهي كيانات خاصة تتمثل مهمتها الأساسية في مساعدة المجتمعات التي تعاني عادة من نقص الخدمات المصرفية والاستثمارية. في المقابل، كانت المؤسسات المالية للتنمية المجتمعية، ولسنوات عديدة، تعتمد في تمويلها بشكل أساسي على رأس المال المحكوم بالتشريعات الذي تم توفيره من خلال قانون إعادة الاستثمار المجتمعي لعام 1977. أما اليوم، فيضخ المستثمرون المؤثرون من جهات مختلفة مثل مؤسسة كيلوغ (Kellogg Foundation) وجيه بي مورغان تشيس (JPMorgan Chase) وبرودنشال فايننشال (Prudential Financial)، الأموال في المؤسسات المالية للتنمية المجتمعية لتعزيز المساواة العرقية. وتودع الشركات الكبرى مثل جوجل، ونتفليكس، وباي بال، وستاربكس الودائع السكنية مع المؤسسات المالية للتنمية المجتمعية. وتترافق هذه الإيداعات مع مطالبات بأن يقود هذا الأمر نحو مزيد من الاستثمار في شكل أسهم. وقدم الناشط في العمل الخيري، ماكنزي سكوت، تمويلاً نادراً من نوعه ولا محدوداً لأكثر من 30 مؤسسة تمويل مجتمعية، ما سمح لها بتوسيع ميزانياتها العمومية. بالإضافة إلى ذلك، تمكن عدد متزايد من المؤسسات المالية للتنمية المجتمعية من دخول أسواق رأس المال بإصدارات سندات مصنفة.

أحد العوامل الأخرى التي تقود هذا التوجه نحو الاستثمار هو الجدوى التجارية. كانت الشركات في الربع الأعلى من حيث التنوع بين الجنسين أكثر ترجيحاً بنسبة 25% لتحقيق ربحية أعلى من المتوسط مقارنة بالشركات المصنفة في الربع الرابع، وفقاً لـ “ماكينزي”. وتبرز هذه الجدوى التجارية بصورة أوضح بالنسبة للشركات التي تُظهر تنوعاً عرقياً بمستويات مماثلة من الدرجة الأولى؛ إذن إنه من المرجح بنسبة 36% أن تحقق ربحاً أعلى من المتوسط مقارنة بالشركات التي لا تبذل جهداً يذكر لتنويع القوى العاملة لديها. ويتزايد وضوح هذا التمايز في الإيرادات بمرور الوقت مع تقدم الشركات الأقوى في السوق، ما يعزز أكثر العلاقة بين التنوع والمساواة والشمول من ناحية وقوة الشركة من ناحية أخرى. إن المستثمرين الذين يتجاهلون هذا التوجه يخاطرون بجني مال أقل، ويفوّتون في الوقت نفسه فرصة تقديم رأسمال أكبر للنساء، ومجموعات السكان الأصليين، ومجتمعات أصحاب البشرة الملونة.

الاستفادة من التكنولوجيا الرائدة للوصول إلى الأشخاص خارج المدن

اجتذبت المراكز الحضرية الجزء الأكبر من النشاط الاقتصادي لعقود من الزمان. حتى أبريل/نيسان 2020، ولّدت المدن 80% من الناتج المحلي الإجمالي العالمي، وفقاً للبنك الدولي. مع تركيز الاهتمام على المناطق الحضرية، أُهمِل الأشخاص الذين يعيشون في المجتمعات شبه الحضرية والريفية، ما جعلهم يفتقرون باستمرار إلى الوصول الموثوق إلى السلع عالية الجودة ذات التكلفة المعقولة، على الرغم من عقد حافل بالاستثمارات.

ولكن بدأت تظهر تكنولوجيات قادرة على المساعدة في حل هذه المشكلة. وفي الوقت نفسه، حوّلت جائحة كوفيد-19 العمل عن بُعد من ميزة إلى أولوية، مما زاد من فرص العمل للأشخاص المتصلين بالإنترنت في جميع أنحاء العالم.

فعلى سبيل المثال، تربط شركة لودشير (Loadshare) في الهند بين مزودي الخدمات اللوجستية المحليين الصغار لإنشاء سلسلة توصيل تصل إلى المناطق النائية. تضم الشركة نحو 6,000 عاملاً ومورّداً قي شبكتها، وقد توسّعت خلال السنوات الأربع الماضية لتشمل 18 ولاية هندية وأسست 500 فرعاً. أما شركة اي ميريت (iMerit)، التي أُنشئت عام 2012، وهي توفر خدمات وسم وتنظيم البيانات للشركات العالمية، لديها ما يقرب من 3,000 موظفاً، 80% منهم يقيمون في المناطق التي تعاني الحرمان في كل من الهند، وبوتان، وأوروبا، والولايات المتحدة. كما أن أكثر من نصف موظفيها هم من النساء اللواتي يعانين في بعض الدول من وصول محدود إلى الوظائف خارج المنزل بسبب العوامل الثقافية.

كما توفر شركة ووركيكس (Workex) وهي شركة مستثمرة في مجموعة مراكز السيطرة على الأمراض والوقاية منها (CDC)، إدارة القوى العاملة للمؤسسات التي تتجه نحو توظيف عاملين عن بُعد، وهو توجه ازداد رواجاً بعد جائحة كوفيد-19. إن جزءاً كبيراً من عمال المنصة البالغ عددهم 10 ملايين كانوا سابقاً يعملون في أعمال تستلزم مجهوداً جسدياً (أو ما يُدعون بأصحاب الياقات الزرقاء). بدأت شركات مثل ووركيكس وغيرها في تقديم أدوات للعمل مع الموظفين عن بُعد في إفريقيا وجنوب آسيا منذ عدة سنوات، وما يزال هناك متسع كبير لنمو هذه الصناعة. وتبرز دقة هذا التوقع بشكل خاص مع تعميم نموذج أوبر في عمليات التوصيل النهائية للبضائع (عمليات توصيل الميل الأخير)، ما يتيح الوصول إلى مزيد من الزبائن. ومع ذلك، في الوقت الذي تكافح فيه التشريعات لمواكبة التكنولوجيا، فإن بعض منصات العمل هذه تنطوي على مخاطر كبيرة تتمثل في استغلال العمالة والبيانات الخاصة بمن يستخدمونها. لذا، يجب أن يحدد المستثمرون المؤثرون الجهات التي توفر حماية ودعماً شاملاً لموظفيها، مثلما تفعل شركة ستيدي (ٍSteady).

حشد الطلب على المشترين الأصغر 

لطالما كانت القدرة على تحمل تكاليف الاقتناء والوصول الجغرافي إلى العديد من المنتجات والخدمات الأساسية من القضايا المُلحّة لدى المستثمرين المؤثرين، لكن الأزمة التي تسببت بها جائحة كوفيد-19 سلطت الضوء على التحدي المرافق، ألا وهو الحجم.

على سبيل المثال، كافحت بعض الدول الإفريقية منخفضة ومتوسطة الدخل لشراء إمدادات التصدي لجائحة كوفيد-19 لأن عمليات الشراء كبيرة الحجم، التي يمكن لمجموعة الدول السبع تنفيذها بسهولة أكبر، أصبحت شرطاً مسبقاً لعمليات الشراء والاستيراد الناجحة. وفي الوقت نفسه، أصبح بيع الإمدادات أكثر صعوبة بالنسبة لبعض البلدان؛ ففي الهند، وهي المورّد الأكبر في العالم للأدوية العامة، قيّدت الحكومة صادرات الأدوية. ونتيجة لذلك، تحولت سلاسل التوريد العالمية، التي عادة ما تمثل أحد عوامل ضمان الكفاءة من حيث التكلفة، إلى نقاط ضعف، ما أدى إلى زيادة الوعي بأهمية الإنتاج المحلي.

جاءت المساعدات في سبيل تلبية الطلب من منصة الإمدادات الطبية في إفريقيا، واليونيسف، والمستثمرين المؤثرين مثل ميد أكسس (MedAccess) (التي تمتلكها مجموعة مراكز السيطرة على الأمراض والوقاية منها)، ومؤسسة بيل ومليندا غيتس التي نشرت مؤخراً دراسة تحليلية تُظهر أن 10 من أغنى الدول في العالم ستستفيد بما لا يقل عن 153 مليار دولار من ضمان التوزيع العادل للقاح كوفيد على مدار العام المقبل. تُحذر منظمة الصحة العالمية (WHO) من أن الاقتصادات المتقدمة قد تتعرض لخسائر في الإنتاج تصل حتى 2.4 تريليون دولار، وهو ما يشكّل 3.5% من إجمالي الناتج المحلي السنوي قبل الوباء، بسبب الاضطرابات في التجارة العالمية وسلاسل التوريد. على الرغم من ترابط الاقتصاد العالمي، فقد سادت قومية اللقاحات حتى الآن: عملت منشأة كوفاكس (Covax) على ضمان التوزيع العادل للقاحات وكافحت لحشد الدعم من الدول الغنية، لكنها لا تزال تواجه نقصاً في التمويل بقيمة 27 مليار دولار (عند كتابة هذا التقرير).

هذه الفجوة في التمويل تمثل بالضبط نوع الفجوات التي يمكن أن يسدّها الاستثمار المؤثر من خلال استخدام أدوات مبتكرة، مثل الضمانات، والتزامات السوق المتقدمة، والتزامات ضمان الوصول العالمي. فعلى سبيل المثال، إن صندوق أدجوفانت (Adjuvant)، الذي تدعمه مؤسسة غيتس، والذي يمول تطوير علاجات للأمراض المُهمَلة وللتحديات في الرعاية الصحية للأطفال والأمهات، يستخدم التزامات ضمان الوصول العالمي لضمان إتاحة الانتفاع للفئات المحرومة من السكان. في حين أن هناك فرصة للمستثمرين المؤثرين للعب دور بدعم المساواة في الوصول عبر هذا النوع من الشراكات، فإن النجاح سيعتمد على رأس المال العام والخيري الذي يعمل جنباً إلى جنب مع رأس المال الخاص.

2. المناخ

ركز الكثير من الاستثمارات المؤثرة خلال العقد الماضي على تقليل الزيادة في درجات الحرارة العالمية، أو “تخفيف” تأثيرات التغير المناخي. في عامي 2017 و2018، شكّلت مشاريع التخفيف حوالي 93% من إجمالي التمويل لمشاريع المناخ. غالباً ما كانت فرص الطاقة المتجددة هي مصب تركيز هذا التمويل؛ ففي نفس العامين، شكلت هذه الفرص 58% من تمويل مشاريع المناخ. أما اليوم، تتوفر أمام المستثمرين مجموعة متنوعة من الخيارات لدعم المجتمعات التي تعاني من تبعات التغير المناخي ولتحقيق انبعاثات كربون “صفرية” حول العالم. ويمكن تصنيف الاستثمارات بطريقتين: تلك التي تركّز على تكييف وزيادة القدرة على تحمل تأثيرات التغير المناخي، وتلك التي تستهدف عزل الكربون.

التكيف والقدرة على التحمل

تقدم المزيد من الشركات منتجات وخدمات لتمكين إنشاء المدن الذكية والاقتصادات الدائرية التي تعالج قضايا المناخ من خلال التكيف والقدرة على التحمل. فعلى سبيل المثال، توفر شركة روزيرفر (Roserve) لإدارة مياه الصرف الصحي في الهند حلولاً تكنولوجية وتمويلية في سبيل تحقيق الاستخدام المستدام للمياه في عدة صناعات مثل المدابغ والورق والفولاذ. تتوسع الشركة من الهند إلى إفريقيا، حيث تكاد تنعدم فعلياً منشآت معالجة وإعادة تدوير مياه الصرف الصحي.

بينما تحقق روزيرفر الإيرادات من السلع والخدمات التي تركز على زيادة القدرة على تحمل التغير المناخي، تعمل شركات أخرى أيضاً على تكييف عملياتها لتقليل تعرضها المحتمل لمخاطر تغير المناخ المُكلِفة، ما يؤدي إلى تحقيق فوائد أخرى في هذه العملية. تعمل شركة زيفاير باور (Zephyr Power)، وهي شركة طاقة متجددة، على تطوير منشأة توليد طاقة ريحية باستطاعة 50 ميغاواط على الساحل الباكستاني المُهدّد بارتفاع مستوى سطح البحر. لمواجهة مخاطر الفيضانات، استثمرت زيفاير في برنامج لحماية وإعادة تأهيل أشجار الأيكة الساحلية (المنغروف) المحلية التي تشكل حاجزاً طبيعياً أمام المحيط. سيؤدي الاستثمار إلى جذب المزيد من الأسماك والكائنات الأخرى التي تعتمد على الأشجار، ما يعزز بدوره سبل عيش الصيادين، ويقلل من تكلفة الحفاظ على البنية التحتية للمنطقة من خلال جعل التربة أكثر استقراراً.

هناك فجوة واضحة بين الحاجة إلى الاستثمار في الاستجابة للتغير المناخي من جهة والتمويل المتوفر من جهة أخرى. تقدّر الأمم المتحدة الحاجة إلى الاستثمار بقيمة 300 مليار دولار سنوياً، يتوفر منها 30 مليار دولار فقط. ونحن نتوقع أن تنمو هذه الفرص الاستثمارية بشكل ملحوظ في الأعوام العشرة المقبلة مع تصاعد المطالبات باتخاذ إجراءات لمواجهة التغير المناخي.

عزل الكربون

تسعى المؤسسات الاستثمارية بشكل متزايد لنقل محافظها إلى فئة انبعاثات الغازات الدفيئة المعدومة بحلول عام 2050. مع تبني مهمة المجموعات، مثل تحالف مالكي الأصول ذات انبعاثات الكربون الصفرية على نطاق واسع، ستزداد فرص عزل الكربون وتصبح أكثر جذباً للمستثمرين. في هذا الصدد يبرز لدينا قطاع الغابات والثروة الحراجية؛ إذ يمكن للغابات أن تقلل من انبعاثات الكربون لمنشأة ما عوضاً عن الحدّ منها فقط، رغم أنها يجب أن تتكامل مع الممارسات الهادفة لتقليل الانبعاثات، لا أن تحل محلها. كما يمكن للقطاع تعزيز الرفاه المعيشي لنحو 1.3 مليار شخص حول العالم. وقد بدأ المستثمرون بالاستجابة لدعوات هذا القطاع: فقد ارتفع إجمالي الاستثمارات المؤسساتية العالمية في قطاع الغابات والثروة الحراجية إلى 100 مليار دولار بعدما كان يتراوح بين 10 إلى 15 مليار دولار في بدايات العقد الأول من القرن الواحد والعشرين، وفقاً لشركة مبادئ الاستثمار المسؤول (Principles for Responsible Investment. PRI).

ولعل أحد الأمثلة التي يمكن أن نجدها على ذلك هو شركة كومازا (Komaza) في كينيا، التي تعالج مشكلة قطع أشجار الغابات من خلال ما تدعوه بـ “التشجير الصغير”. بهذه الطريقة، تساعد الشركة عشرات الآلاف من المزارعين أصحاب الأراضي الصغيرة على زراعة الأشجار في أراضيهم التي كانت غير منتجة للمحاصيل في السابق ليتمكنوا من بيعها كأخشاب للبناء في الأسواق التجارية، ما يمكنهم من توليد الدخل على المدى الطويل بالإضافة إلى الفوائد البيئية. يمكن للمحيطات أيضاً التقاط الكربون على نطاق واسع؛ إذ يمكن للأنظمة البيئية الساحلية حبس ما يصل حتى 20 ضعفاً مما تحبسه الغابات من الكربون.

ومن شأن مؤتمر الأمم المتحدة المقبل، المؤتمر السادس والعشرين للتغير المناخي بين الدول المشاركة (COP26)، والذي يركز على تحسين السوق العالمية لرصيد انبعاثات الكربون المسموح بها، أن يساعد على تحويل التأثير البيئي لعزل الكربون إلى سلع قابلة للبيع والشراء. ونتوقع أنه سيكون واحداً من خطوات عديدة ستُتّخذ في السنوات المقبلة لبناء نماذج الإيرادات الصحيحة والمشاركة المجتمعية الحقيقية التي ستجعل من الغابات والسواحل والمحيطات أساسات جديدة لأعمال التأثير التجارية.

3. الأدوات

ساعدت المعايير المحسّنة لقياس التأثير وإدارته في ترقية دور الاستثمار المؤثر على مدار العقد الماضي، كما يتضح من خلال تزايد أعداد مدراء الأصول البارزين يدمجون هذه الممارسة في منتجاتهم. بالإضافة إلى ذلك، ساعد الاهتمام المتزايد في توفير جرعة صحية من التشكيك حول “غسل التأثير”، أي عندما يتم عزو التأثير إلى الاستثمارات حتى لو لم تحققه بالفعل. لزيادة تأثير الاستثمار على مدى السنوات العشر المقبلة، نحتاج إلى المزيد من أدوات الاستثمار المُدرجة بشكلٍ عمومي والمزيد من التحسينات في القياس والمعايير لتهدئة مخاوف المستثمرين بشأن نزاهة المجال.

ابتكار أدوات لأسواق رأس المال

عندما ظهر الاستثمار المؤثر سيطرت الديون الخاصة والأسهم الخاصة على كيفية تمويله. ففي عام 2011، على سبيل المثال، لجأ أقل من 1% من العدد الكلي للاستثمارات المؤثرة المسجلة، وما يمثل أقل من 1% من إجمالي رأس المال المستثمَر، إلى الأدوات المُدرجة بشكل عمومي، وفقاً لاستطلاع أجرته شركتا جيه بي مورغان والشبكة الدولية للاستثمار المؤثر. وبحلول عام 2020، أظهر الاستطلاع ذاته أن الديون المتداولة علناً تشكل 24% من رأس المال المؤثر المُستَثمَر، وشكلت الأسهم العامة 10%.

نتوقع استمرار التوسع في الاستثمارات على شكل سيولة، مثل السندات أو الأسهم المدرجة في البورصة، التي تكون مُصممةً للتأثير على مدى العقد المقبل. فعلى سبيل المثال، يحتاج المستثمرون الذين يرغبون في خصخصة رأسمالهم بشكل ديناميكي إلى بساطة هذه الاستثمارات وسرعتها. علاوة على ذلك، يوجد العديد من المؤسسات الاستثمارية الذين يديرون رؤوس أموال بمليارات الدولارات ويحتاجون إلى استثمارات فردية تتناسب مع حجمها. يواجه هؤلاء المستثمرون قيوداً تعيق انخراطهم نظراً لكون متوسط أحجام شيكات الاستثمار المؤثر التي أُبلغ عنها حتى في عام 2020 يُقدّر بنحو 3 ملايين دولار.

هناك بعض الابتكارات الواعدة في أدوات أسواق رأس المال والتي تهدف لتلبية احتياجات السيولة للمؤسسات الاستثمارية. كما أن الإعلانات الأخيرة من ألمانيا وبريطانيا حول الإصدارات الجديدة ساعدت على نمو سوق السندات الخضراء إلى تريليون دولار. بدأت السندات الجديدة المرتبطة بالنتائج الاجتماعية – مثل عرض مؤسسة فورد (Ford) البالغة قيمته مليار دولار – بالاستفادة من طلب المستثمرين المتزايد على التأثير بشكل أصول وضمانات مُدرَجة. يمكن هيكلة التزامات القروض المضمونة، وضمانات مخاطر تمويل التنمية، وأدوات الاستحواذ ذات الأغراض الخاصة (SPACs) لتمويل أهداف التنمية المستدامة، وهي أكثر ملاءمة لحجم استثمارات المؤسسات الاستثمارية.

كما تربط هذه المنتجات أيضاً وبشكل متزايد النتائج بالتصميم المالي للأدوات. نتوقع رؤية المزيد من الهيكليات التي تتضمن محفزات التأثير، مثل القروض أو السندات التي تعدل الشروط استجابةً لمدى مساهمتها في تحقيق أهداف الاستدامة. إن بساطة تصميم هذه الهيكليات وقدرتها على تحمل المسؤولية ستجذب المستثمرين في السنوات المقبلة، إضافةً إلى قدرتها على تلبية أهداف التأثير وتوقعات العوائد.

الشفافية وتحمل المسؤولية

إن مزيج المعايير المُحسّنة والقابلية المتزايدة للاستقراء يقود إلى عهدٍ جديد من تحمل المسؤولية للمستثمرين الذين يطالبون بتصنيف ووسم التأثير. ساعدت إطارات العمل والأدوات الأخرى مثل نظام آيريس بلس (IRIS+)، وأهداف التنمية المستدامة، ومشروع إدارة التأثير (IMP) على بناء إجماع عالمي حول كيفية تصنيف وتوصيف وقياس التأثير. ومع ذلك، لا يزال قياس التأثير مُجزّأً، والجهود جارية لمواءمة الاستدامة الرائدة ومؤسسات الإبلاغ المتكاملة، إلى جانب المبادرات الجارية لمواءمة المعايير العالمية للإبلاغ عن الاستدامة. وتستند هذه الخطوات إلى تلك التي اتخذها فريق العمل المعني بالإقرارات المالية المتعلقة بالمناخ (TCFD) من أجل وضع معايير عالمية لإعداد التقارير المتعلقة بالمناخ.

مع بدء الشركات ومدراء الأصول في التوافق مع أفضل الممارسات ومعايير الأداء، من المُقرر أيضاً أن يصبح التحقق المستقل أمراً أكثر شيوعاً. هذا النوع من التحقق حصراً تفرضه بالفعل المبادئ التشغيلية لإدارة التأثير (OPIM)، التي أُطلقت عام 2019 وتم تبنّيها من قبل أكثر من 100 مستثمر من المستثمرين المُوقّعين. تشجع مبادئ الاستثمار المسؤول على التحقق الخارجي من البيانات التي يتم إبلاغها من قبل الموقعين، كما أن معايير تأثير أهداف التنمية المستدامة الناشئة تتضمن إطار عمل لضمان حقوق الطرف الثالث. أطلقت تايدلاين (Tideline) شركة بلو مارك (BlueMark) في عام 2020 للتحقق من ممارسات التأثير وأداء المستثمرين، كما قدمت أربع شركات محاسبة أميركية كبرى خدمات ضمان الاستدامة والتأثير.

وبينما تنتشر وتتعزز المعايير والشفافية والضمانات الخارجية، نتوقع أيضاً أن تزداد الفاعلية في إدارة التأثير. يجب أن توفر هذه الأمور مجتمعةً أدلةً أكثر حول أنواع الاستثمارات الأكثر فعالية في معالجة التحديات التي تواجه تحقيق الشمول والاستدامة العالميين.

مخاطر شائعة، ومكافآت أساسية

تكشف هذه التوجهات عن الفرص الضخمة للاستثمار المؤثر على مدى العقد المقبل، إلا أن تحقيق النجاح في هذا المجال سيظل تحدياً حقيقياً. فلطالما كان من الصعب تحقيق عوائد مالية  بالتزامن مع إحراز التقدم في معالجة القضايا الاجتماعية والبيئية، وسيواجه المستثمرون المؤثرون مزيداً من المساءلة مع زيادة دقة أدوات التحقق ونطاقها. إلا أن العوائد تستحق كل هذه المخاطرات؛ حيث إن احتمالات التقدم في الشمول والاستدامة خلال العقد المقبل هائلة. وكما أثبتت التوقعات الطموحة التي قدمناها في عام 2010، نأمل أننا سننظر إلى الوراء بعد 10 سنوات أخرى ونجد أن الاستثمار المؤثر قد حقق تقدماً كبيراً مجدداً.

يمكنكم الاطلاع على النسخة الإنجليزية من المقال من خلال الرابط، علماً أنّ المقال المنشور باللغتين محمي بحقوق الملكية الدولية. إنّ نسخ نص المقال بدون إذن مسبق يُعرض صاحبه للملاحقة القانونية دولياً.