أمضيت السنوات الخمس الأولى من حياتي المهنية في محاولة فهم كل ما يتعلق ببنك غرامين (Grameen Bank) ومؤسسه الأستاذ الجامعي، محمد يونس، الذي وظَّف أموال جائزة نوبل للسلام لعام 2006 في مشاريع خيرية. وأمضيت العامين التاليين في تأليف كتاب عنهما، عدة أشهر منها في البحث الميداني المكثف في إحدى القرى في بنغلاديش. وقررت زيادة التشويق والتعقيد عبر دراسة محاولات مبكرة لتطبيق منهجية غرامين للتمويل المتناهي الصغر في حي بائس في شيكاغو. ولإنجاز المهمة على أكمل وجه كان عليَّ تعلم اللغة البنغالية وأن أتقبل كوني الشخص الأبيض الوحيد الذي يمكن للعين رؤيته لفترات طويلة من الزمن.
صدرت الطبعة الأولى من هذا الكتاب في عام 1996، وتم إصدار الطبعة مرة ثانية وتوزيعها على عجل في السوق بعد إعلان جائزة نوبل المفاجئ. منذ نشر طبعة عام 2008 حدث الكثير من التغيرات في عالم التمويل المتناهي الصغر ومرَّ بنك غرامين ويونس في الكثير من الأحداث خلال 14 عاماً. تتضمن الطبعة الثالثة وقائع تلك السنوات وتروي قصة إجبار رئيسة وزراء بنغلاديش يونس على الاستقالة من منصبه في بنك غرامين، وردود الفعل العنيفة في وجه التمويل المتناهي الصغر من قبل وسائل الإعلام والأوساط الأكاديمية وبعض السياسيين الشعبويين والحكومات في جميع أنحاء العالم. -أليكس كاونتس
* * *
في 13 أكتوبر/تشرين الأول 2006، بينما كان الأستاذ الجامعي ومؤسس بنك غرامين محمد يونس، يمارس أعماله في مكتبه بمدينة داكا في بنغلاديش، تلقى مكالمة هاتفية من محطة تلفزيونية نرويجية. حيث أخبره مراسل صحفي عن انتشار شائعات حول إعلانه الفائز بجائزة نوبل للسلام بعد دقائق قليلة، وذلك تقديراً لجهوده في مكافحة الفقر على مدى ثلاثة عقود من خلال استراتيجية باتت تعرف باسم التمويل المتناهي الصغر. ورغب ذلك الصحفي أن يكون أول من يجري مقابلة معه في حال كانت الشائعات صحيحة وطلب منه أن يبقى على خط الهاتف. وافق يونس متسائلاً في نفسه إن كان ذلك نوعاً من المزاح. وفي غضون دقائق قليلة، أُعلن عن فوزه بجائزة نوبل وعمَّ مكتبه احتفال فوضوي بهيج، وسرعان ما انتشرت الاحتفالات في جميع أنحاء البلاد، وبالأحرى في جميع أنحاء العالم.
وعمّت مشاعر الزهو والفخر بين مواطني بنغلاديش في جميع أنحاء البلاد. كما انتشرت الاحتفالات في جميع أنحاء العالم، وبخاصة الأماكن التي يستخدم فيها التمويل المتناهي الصغر كأداة لتعزيز قدرة الفقراء على الاعتماد على أنفسهم. استغرب حينها البعض فكرة فوز بنك بجائزة تقديرية لإسهاماته في السلام العالمي بغض النظر عن مدى نجاحه في معالجة الفقر، لكن الملايين فهموا بشكل بديهي منطق لجنة جائزة نوبل.
وفي لمح البصر نشأت حركة لمعالجة الفقر من خلال استراتيجيات الأعمال وأصبحت محور الاهتمام العالمي. حينها تلقى جهد حياة بأكملها لرجل واحد حقق نجاحات صغيرة لكنها ذات أثر جوهري على حياة ملايين النساء أهم شهادة يمكن الحصول عليها.
وفي ليلة وضحاها تغير كل شيء بالنسبة إلى يونس وبنك غرامين وقطاع التمويل المتناهي الصغر، ولكن ليس بالطريقة التي توقعوها هم أو أي شخص آخر.
صعود نموذج غرامين للتمويل المتناهي الصغر وانتشاره
التمويل المتناهي الصغر من حيث المبدأ بسيط للغاية؛ فهو توفير خدمات القروض والادخار والتأمين للسكان المحرومين، ولكن ثمة تعقيدات وفروق دقيقة لا تظهر للعلن. ويمكن ممارسته على نحو جيد أو رديء، حاله كحال النشاطات الأخرى التي نمارسها.
إذاً ما نموذج غرامين للتمويل المتناهي الصغر بالضبط؟
أولاً، هو نهج نادر لمكافحة الفقر يعتمد على مواطن قوة الفقراء بدلاً من أوجه القصور لديهم. ويسمي البعض مواطن القوة تلك بمهارات البقاء، والتي يتم صقلها عبر عملية كسب لقمة العيش خارج أنماط الاقتصاد السائدة بطرق ذكية وخلاقة.
ففي البلدان النامية لا توجد فرص عمل كافية للجميع، وشبكة الأمان الاجتماعي إما ضعيفة أو معدومة. وهنا يواجه معظم الفقراء خيارات قاسية، فإما التسول أو الجوع أو إنشاء عملهم الخاص. والغالبية العظمى يختار العمل الخاص بغض النظر عن مدى تواضع رأس المال أو عدم كفايته، وذلك بسبب عدم جاذبية الخيارات الأخرى.
ويضطر العديد من أصحاب الأعمال الصغيرة في البلدان النامية إلى اللجوء إلى المرابين الجشعين لتأمين رؤوس أموالهم، ودفع فائدة تبدأ من 10% شهرياً وممكن أن تصل إلى 20% يومياً.
اكتشف يونس أن مصدراً موثوقاً به للقروض الميسرة للفقراء المجتهدين وأصحاب المشاريع الصغيرة المبدعين ومعظمهم من النساء يمكن أن يكسر هذه الحلقة المفرغة للكثيرين ويجعل آلام الفقر أخف وطأة بالنسبة لآخرين، وأن يحولهم من مجموعة من محتاجي الصدقة إلى محرك نمو اقتصادي وطني.
ووظف هذا الاكتشاف في بنك غرامين الذي بدأه كمشروع تجريبي في عام 1976 وتحول إلى أول بنك في العالم للفقراء في عام 1983، محدثاً ثورة في المجالات المصرفية ومكافحة الفقر. حيث يمكن للقروض التي تبدأ من 40 أو 60 دولاراً أن تنمو بمرور الوقت إلى المئات، بل وحتى الآلاف من الدولارات.
تجاوزت رؤيته حدود بنغلاديش، فقد نجح في تطبيق منهجه في مكافحة الفقر في الولايات المتحدة، لكن هذا النجاح استغرق وقتاً طويلاً.
فقد كان يونس صبوراً في البداية حيث تقدم ببطء في سعيه لنجاح نموذجه للتمويل المتناهي الصغر في أميركا. لكنه تولى زمام الأمور فيما بعد. حيث قرر أخيراً في عام 2008 إرسال فريقه الخاص من الخبراء البنغاليين إلى حي منخفض الدخل في كوينز لإيجاد الحلول. أسس يونس مجلس إدارة وعيّن موظفين أميركيين للعمل مع البنغاليين الذين انصبَّ تركيزهم على العمليات الميدانية. وتم إطلاق هذا البرنامج الجديد تحت اسم غرامين أميركا (Grameen America).
عندما زرت بنك غرامين أميركا في عام 2014، كان يقدم خدماته لـ 7,000 عميل، العدد الذي كان يعد مذهلاً بالنسبة إلى هذا النوع من برامج التمويل في أميركا. وكان يقدم خدماته لنصف عملائه عبر فرعه الأساسي الذي استضافني في كوينز.
وجرى الكثير من التطورات منذ ذلك الحين. تجاوزت القروض التي قدمها البنك حتى مارس/آذار 2022 الملياري دولار لـ 142,000 عميل. واجتاز بنك غرامين أميركا الاختبار الصعب الذي تمثل بجائحة كوفيد-19 بنجاح باهر من خلال التحول السريع إلى استخدام التكنولوجيا بشكل فعال لدرجة أنها مهدت طرقاً جديدة لخدمة سكان الريف. والأهم من ذلك، أجريت دراسة لمدة 18 شهراً تتبعت فيها 1,492 امرأة ضمن 300 قرض جماعي تقدمن بطلبات إلى برنامج غرامين أميركا للقروض المتناهية الصغر في مدينة يونيون سيتي في ولاية نيو جيرسي. حيث أظهرت هذه الدراسة الأولى من نوعها في الولايات المتحدة مدى تأثير غرامين المذهل. مقارنة بمجموعة الضبط، انخفضت الصعوبات المادية لأولئك النسوة بنسبة 15%، وارتفعت درجة الائتمان 20 نقطة، وازدادت إيرادات الأعمال الشهرية 523 دولاراً بالإضافة إلى 1,920 دولاراً زيادة في مدخراتهن غير التقاعدية، أي أعلى بنسبة 63% من مجموعة الضبط.
هل ينجح التمويل المتناهي الصغر؟ جدل مستمر
ورغم تلك النجاحات رافق صعود التمويل المتناهي الصغر وانتشاره العالمي جدل كبير حتى قبل أن تُشن الهجمات السياسية على يونس في بنغلاديش.
فما فتئ الصحفيون والباحثون والطلاب يتساءلون عن قدرة التمويل المتناهي الصغر على تحسين حياة العملاء التقليديين على مدار الأربعين عاماً الماضية. اسمحوا لي أن أحاول تلخيص ما توصلت إليه أهم التقييمات، وكيف تم استخدام هذه النتائج أو أسيء استخدامها في بعض الحالات.
أجرى الراحل الدكتور مهاب حسين أول دراسة مهمة عن تأثير غرامين في الثمانينات لصالح معهد بنغلايدش لدراسات التنمية (Bangladesh Institute for Development Studies). والتي نشرها لاحقاً المعهد الدولي لبحوث السياسات الغذائية (International Food Policy Research Institute) الرفيع المستوى، وأصبحت فعلياً أحد أكثر تقاريره شهرة على الإطلاق. وكانت النتائج في غاية الإيجابية. كان دخل المقترضات من بنك غرامين أعلى بنسبة 43% من دخل النساء في القرى غير المشمولة بخدمات البنك، وانخفض معدل الفقر المدقع من 75% إلى 48% في الأماكن التي وصل إليها.
في مارس/آذار عام 1993، أجرى الأستاذ الجامعي ديفيد جيبونز (David Gibbons) تقييماً مستقلاً آخر لأداء بنك غرامين، والذي أسس لاحقاً مؤسسة كاشبور (Cashpor) وهي من أكثر مؤسسات القروض المتناهية الصغر احتراماً في الهند. وأظهر ذلك البحث نتائج إيجابية مماثلة.
لكن أكثر الدراسات التي تم الرجوع إليها ومناقشتها على نطاق واسع كانت قد نُشرت عام 1998. حيث أجرى هذه الدراسة فريق بحثي بقيادة شهيد خاندكر (Shahid Khandker) بتكليف من البنك الدولي، واستخلصت إلى وجود علاقات ترابطية مباشرة بين اقتراض النساء وزيادة احتمال التحاق بناتهن بالمدارس، وانخفاض سوء التغذية، وزيادة النفقات المنزلية الإجمالية على الغذاء والمواد الأساسية غير الغذائية. كما قدر خاندكر أن 5% من عملاء بنك غرامين يفلتون من براثن الفقر كل عام. شكك عدد من الأكاديميين بتلك النتائج ما استدعى خاندكر لإعادة دراستها باستخدام نهج مختلف وتوصل إلى أن التأثير أكبر مما أظهره تحليله الأولي في حالات قليلة، مثل الزيادة في استهلاك الأسرة الناتجة عن زيادات تدريجية في الاقتراض. ووجد أن معدلات الفقر بين عملاء غرامين الذين بدؤوا بالاقتراض في عامي 1991 و1992 قد انخفضت بنسبة تزيد على 20%.
بالإضافة إلى ذلك، أجرى هاشمي (Hashemi) وشولر (Schuler) وراياي (Riley) دراسة في عام 1996 حول جوانب تمكين المرأة، أي قدرتها على اتخاذ القرارات المنزلية الرئيسية أو التأثير عليها، والانخراط مع مجتمعها بفعالية بما في ذلك قدرتها على المطالبة بحكومات محلية أكثر استجابة. وتوصلوا إلى أن قابلية المقترضات من بنك غرامين للتمكين تعادل 7.5 أضعاف قابلية نظيراتهن من غير المقترضات في القرى غير المشمولة بخدمات غرامين. ولعل الأمر الأكثر إثارة للاهتمام هو أن قابلية غير المقترضات في القرى المشمولة بخدمات غرامين للتمكين تعادل 2.4 أضعاف قابلية نظيراتهن من غير المقترضات في القرى غير المشمولة بخدمات غرامين، ما يشير بقوة إلى أن تمكين المرأة "معدٍ"، وأن تأثير التمويل المتناهي الصغر لا يقتصر على الذين يستفيدون بشكل مباشر من خدمات مؤسسات التمويل المتناهي الصغر.
وقد نعتقد أن نتائج هذه الأبحاث والدراسات ستقدم الإجابة الشافية عن الأسئلة التي تبحث في قدرة التمويل والقروض المتناهية الصغر على النجاح والاستمرار والتطوير، لكننا لن نكون على صواب في ذلك الاعتقاد.
فبدلاً من تركيز جهودهم على كيفية تحسين هذا النهج الفعال وتطويره والذي كان في طور النمو والتوسع على نطاق واسع، حوّل العديد من الباحثين في التمويل المتناهي الصغر مواهبه في اتجاه آخر. فقد بُذلت جهود متواصلة للتشكيك في صحة الدراسات السابقة، لا سيما تلك التي أجراها خاندكر والتي نُشرت في المجلات العلمية المحكّمة، وبالتالي لا جدال في صحتها.
كما شرع أكاديميون في دراسة وتحليل مجموعة من مؤسسات تمويل المتناهي الصغر وغالباً من الدرجة الثانية مطبقين تقنية بحث صارمة وإشكالية تسمى التجارب المنضبطة باستخدام عينات عشوائية في دراستها. حيث انتشر هذا النوع من التجارب في صناعة المستحضرات الصيدلانية لتقييم سلامة الأدوية واللقاحات وفعاليتها، وتم استخدامها على نحو متزايد لدراسة برامج التنمية الاجتماعية. أظهرت هذه الدراسات التي حاولت إعادة البحث في مدى نجاح التمويل المتناهي الصغر نتائج متباينة. لكن القائمين على هذه الدراسات وفرق العلاقات العامة العاملة معهم قرروا إظهار الجوانب السلبية والتقليل من أهمية النتائج الإيجابية، ربما بدافع حب الظهور ونيل التقدير على جهودهم. فنادراً ما تحظى الدراسات التي تؤكد الفكر السائد باهتمام كبير.
وفي حال قرأت هذه الدراسات من كثب، كما قرأتها أنا، ستجد نمطاً مكرراً فيها، فعندما تذكر نتيجة إيجابية، يقوم الكاتب بطريقة ما بتحويلها إلى نتيجة سلبية بالقول إنها لم تكن إيجابية بما فيه الكفاية وبالتالي تمثل دليلاً على فشل التمويل المتناهي الصغر في الوفاء بوعده بتغيير حياة معظم المستفيدين منه بفترة زمنية قصيرة، وهي الفترة التي يغطيها هذا النوع من الدراسات غالباً.
وفي إحدى الحالات التي لا تُنسى، صدر بيان صحفي عن مؤسسة إنوفيشن فور بوفيرتي (Innovation for Poverty Action) بهذا العنوان: "ست دراسات جديدة تظهر أن التمويل المتناهي الصغر لا يفي بوعوده في تغيير حياة الفقراء". كانت المشكلة أن العنوان طغى على كل الفروق الدقيقة في النتائج، والكثير منها كان إيجابياً. وبدأت الشكوك حول التمويل المتناهي الصغر تتنامى.
يونس يواجه ردود فعل عنيفة في وطنه
إن تركيز العديد من الباحثين على التشكيك بفعالية التمويل المتناهي الصغر بدلاً من دراسة طرق تنميته على نحو أفضل، بالإضافة إلى تحيزهم للنتائج السلبية، ساعد على إرساء قاعدة لردود فعل سلبية تجاه يونس وغرامين وحركة التمويل المتناهي الصغر عالمياً والتي يبدو أنها كانت حتمية.
وابتداءً من أواخر عام 2010، أي بعد أربع سنوات فقط من منح جائزة نوبل للسلام ليونس وبنك غرامين، وخمس سنوات من السنة الدولية للائتمان المتناهي الصغر التي أعلنتها الأمم المتحدة في 2005، ازدادت بؤر النقد والجدل والمعارضة الحكومية للتمويل المتناهي الصغر على نطاق واسع، وأصبحت قصة في حد ذاتها.
حيث اشتعلت في الهند أزمة في أكتوبر/تشرين الأول عام 2010 في ولاية أندرا براديش الهندية بين الحكومة المحلية وبرامج التمويل المتناهي الصغر بعد فترة وجيزة من طرح أكبر مؤسسة تمويل متناهي الصغر في الولاية أس كيه أس مايكروفاينانس (SKS Microfinance) للاكتتاب العام الأولي في البورصة، ما أدى إلى جمع 350 مليون دولار وجعل مستثمريها الأجانب والمحليين بمن فيهم مؤسسها الهندي الأميركي فيكرام أكولا (Vikram Akula) شديدي الثراء.
زعمت الحكومة المحلية أن ضغط تلك المؤسسة على المزارعين أدى إلى سلسلة من "حالات الانتحار بينهم"، واستخدمت هذا الادعاء لإيقاف قطاع التمويل المتناهي الصغر بأكمله في الولاية. لكن الدافع الحقيقي للمسؤولين الحكوميين كان الإحراج الناجم عن خسارة برنامج القروض المتناهية الصغر التابع للقطاع العام العملاء لصالح مؤسسات خاصة أكثر فاعلية وكفاءة مثل مؤسسة أس كيه أس. في الواقع كانت حالات انتحار المزارعين في الهند شائعة بصورة مأساوية منذ منتصف التسعينيات عندما تسببت ضغوط العولمة والتغيرات في السياسة الزراعية الهندية في انتشار الديون واليأس بين المزارعين. وأظهرت دراسات دقيقة أن حالات الانتحار في ولاية أندرا براديش لم تزداد في عام 2010 بسبب مؤسسة أس كيه أس أو أي إجراءات أخرى لمؤسسات التمويل المتناهي الصغر، بل كانت أقل من ما كانت عليه في عام 2009 في جميع أنحاء الهند. لكن الجدل المنطقي كان غائباً بشكل ملحوظ في تحليل أسباب هذه الأزمة حينها، ما أدى إلى التأثير سلباً على قطاع التمويل المتناهي الصغر في جميع أنحاء البلاد. كما اندلعت خلافات مماثلة حول التمويل المتناهي الصغر في بلدان أخرى بما فيها نيكاراغوا وأذربيجان وبوليفيا وموزمبيق.
وفي نوفمبر/تشرين الثاني عام 2010، أطلق مخرج الأفلام الوثائقية الدنماركي توم هاينمان (Tom Heinemann) فيلماً بعنوان "ذا مايكرو ديت" (The Micro Debt)، الذي بُث على التلفزيون النرويجي. وادعى هذا الفيلم أن بنك غرامين استغل مقترضيه، ومارس عمليات جمع أموال عنيفة، وأساء التصرف بمبالغ المساعدات المقدمة من الحكومة النرويجية. نفى يونس ارتكاب أي مخالفة كما برأته حكومة النرويج لاحقاً من اتهامات سوء التصرف. وفي النهاية سقطت الاتهامات جميعها تقريباً.
قدم حينها ذلك الفيلم فرصة لنقاد غرامين وللمستفيدين من تشويه سمعته. ودفعت تلك الانتقادات على وجه الخصوص رئيسة وزراء بنغلاديش الشيخة حسينة إلى الإدلاء بتصريح شديد الانتقاد يستهدف يونس وغرامين، واصفة إياهما بـ "مصاصي دماء" الفقراء. وزعمت حسينة لاحقاً أنه ينبغي أن تكون هي الفائزة الشرعية لجائزة نوبل للسلام التي كانت من نصيب غرامين ويونس. افترض العديد من المراقبين أن أحد العوامل التي دفعها لذلك هو إعلان يونس عن التفكير في إنشاء حزب سياسي قبل سنوات قليلة عندما كانت حسينة تقضي عقوبة بالسجن.
واستند وصفها "مصاصي الدماء" على الفائدة التي يفرضها غرامين على قروضه للفقراء. وأغفلت حقيقة أن معدلات الفائدة تلك كانت الأدنى في بنغلاديش ومن بين الأدنى في العالم. وفي غضون أسابيع قليلة ضغط وزير المالية بلا هوادة على يونس للاستقالة من منصبه بالرغم من أنه كان حليفاً قوياً لغرامين منذ أوائل الثمانينيات. في النهاية، ادعت الحكومة بأن يونس الذي كان يبلغ من العمر 71 عاماً حينها، كان ملزماً بموجب القانون بالتقاعد في سن الستين. ولم يفسر أحد سبب تطبيق هذا القانون فجأة لإقالة يونس بعد 11 عاماً من عدم تطبيقه. استأنف يونس القضية أمام المحكمة العليا في البلاد. وخسر القضية لأسباب فنية ما دفعه للاستقالة.
التمويل المتناهي الصغر اليوم
لحسن الحظ، لم تنته القصة عند ذلك الحد. أعاد يونس تركيز طاقته على الترويج لنموذج عام للمؤسسات الهادفة للربح ذات الدوافع الاجتماعية التي أطلق عليها "الشركات الاجتماعية"، والتي كان غرامين نموذجاً أولياً لها. حيث أنشأ بيئة عمل لدعم تلك المؤسسات الهجينة بين غير الربحية والهادفة للربح، وحقق تقدماً مثيراً للإعجاب. في غضون ذلك، حافظ بنك غرامين على نجاحه بسبب الإدارة التشغيلية البارعة والمهارات السياسية المحنكة لسلسلة من تلاميذ يونس الذين أداروا المؤسسة منذ عام 2011.
كما تعافت حركة التمويل المتناهي الصغر العالمية، على نحو متسارع وبخاصة في الهند. في الواقع، أحد الموضوعات التي فشل الباحثون في دراستها هو الارتباط القوي بين ظهور حركة التمويل المتناهي الصغر الحديثة والحد من الفقر المدقع على مستوى العالم بنسبة 75% خلال الثلاثين عاماً الماضية. فقد انخفضت النسبة المئوية لانتشار الفقر والفقر المدقع على نحو كبير في بلدان مثل الهند وبنغلاديش وإندونيسيا والبيرو حيث يعمل التمويل المتناهي الصغر بشكل مكثف منذ سنوات.
لكن لسوء الحظ تحول معظم قادة الأعمال الخيرية والصحفيين عن التمويل المتناهي الصغر إلى مسارات عمل أخرى. وبشكل خاص في أميركا الشمالية، حيث غالباً ما يُستهجن استخدام مصطلح التمويل المتناهي الصغر باعتباره بالياً وغير ذي أهمية. ويبدو أن الأوروبيين ينظرون إلى التاريخ بنظرة واقعية وبعيدة المدى، لذا ما يزال المصطلح قيد الاستخدام على نطاق واسع في أوروبا.
ويتصرف أصحاب الأعمال الخيرية والصحفيين ذوو المواقف المتقلبة غالباً كما لو أن التمويل المتناهي الصغر قد اختفى من على وجه الأرض في عام 2015، وبالرغم من أنه موقف محير إلى حد ما، لا يخلو من بعض الإيجابيات. فمن جهة لو لم يتوقف العمل الخيري لكان من الممكن أن يساعد على ترسيخ التقدم وتسريعه، كما استخلص الباحث بجامعة نيويورك تيم أوغدن (Tim Ogden) في تقرير له ذي أهمية. ومن جهة أخرى، خروج العمل الخيري من الميدان سمح لمؤسسات التمويل المتناهي الصغر التركيز على تقديم خدمات قيّمة للعملاء مع الحفاظ على علاقات طيبة مع الهيئات الناظمة لعمل البنوك والسياسيين وذلك بعيداً عن دائرة الضوء المسلطة على قطاع العمل الخيري عبر وسائل الإعلام.
فقد يكون من المفيد التقليل من إنجازات التمويل المتناهي الصغر أو حتى تجاهلها. ولا أعتقد أن هناك أي داعٍ للتشاؤم. كان لدى يونس نظرة ثاقبة للإمكانيات غير المستثمرة عند النساء الفقيرات في العالم والدور الذي يمكن أن تلعبه الخدمات المالية الميسرة في إطلاق العنان لهذه الإمكانيات. إنجازاته ألهمت جيلاً ودفعته للقيام بدوره في تطبيق تلك الرؤية على نطاق عالمي، وأنا من أفراد هذا الجيل.
يونس الذي أتم عامه الاثنين والثمانين في 28 يونيو/حزيران 2022 محافظاً على نشاطه، نال التقدير لدوره في هذه الثورة، لكن الثمن كان غالياً على الصعيد الشخصي. حيث تمثل المؤسسات التي أنشأها وألهمها والأفكار العظيمة التي فرضت أهميتها على جيلين من الخبراء والمهتمين، إرثه الأكثر ديمومة.
يمكنكم الاطلاع على النسخة الإنجليزية من المقال من خلال الرابط، علماً أنّ المقال المنشور باللغتين محمي بحقوق الملكية الدولية. إنّ نسخ نص المقال دون إذن سابق يُعرض صاحبه للملاحقة القانونية دولياً