شهدنا في العقود الماضية ارتفاعاً مطّرداً في عدد الشراكات التعاونية بين المؤسسات الممولة مترافقاً مع ارتفاع حجم التمويل الذي تقدمه، والذي يزيد اليوم على مليارَي دولار سنوياً، ويتوفر الكثير من ندوات الويبينار والكتب والمقالات التي تؤكد لمن يعملون في المجال الخيري أن العمل التعاوني له فوائد أكبر من مجموع الأعمال الفردية فحسب.
ومع ذلك، وفي حين تتحدث معظم المشاريع التعاونية عن تحقيق نتائج مهمة في العمل المشترك على المستوى الميداني فمن النادر أن توثّق حقائقه، ولذلك أردنا في مبادرة الشفافية والمساءلة (Transparency and Accountability Initiative) (TAI) أن نستكشف أسرار نجاح (أو فشل) العمل التعاوني بين أعضائها من الشركات الممولة وطرائق تحسينه، فعملنا على تقييم 16 عملاً تعاونياً كبيراً بين المؤسسات الممولة في المبادرة على مدى 4 أعوام بدءاً من أعمال التقييم المشتركة وتنفيذ تغييرات تجريبية على ممارسات تقديم المِنح وصولاً إلى الاستثمار في مشكلات معينة أو مناطق جغرافية محددة. ولكن هذه العينات لم تكن مجموعة من "أنجح" الأعمال التعاونية؛ لم يكن نجاح العمل من شروط الاختيار (ولم تكن الأعمال المختارة كلها ناجحة بالتأكيد!).
عوامل العمل التعاوني المؤثر
لاحظنا أن العمل التعاوني (حين يكون في الظروف المناسبة) يعود بالفائدة على الطرفين الممول والمستفيد على حد سواء، وهذا يتوافق مع الأدبيات المنشورة مؤخراً؛ لاحظنا أن المؤسسات التي أجرينا مقابلات مع قادتها جنت منفعة بشكل ما في جميع المشاريع التعاونية الستة عشر في عيّنتنا، سواء في العمليات أو في المنتج أو في كليهما.
وبناءً على التجارب التفصيلية تميزت 5 عوامل كانت جزءاً لا يتجزأ من نجاح العمل التعاوني.
1. أهداف واضحة ومتوافقة وقابلة للقياس
في حين تختلف الأهداف الفردية للمؤسسات الممولة المشتركة في المشروع التعاوني، فمن الضروري أن تحقق نتائجها كلها تعزيزاً متبادلاً وأن تتضمن مقاييس معتمدة لتقييم النجاح.
من الضروري أن يرتبط موضوع العمل التعاوني باهتمامات المؤسسات الممولة ومجالات عملها ويتوافق معها، وكان السبب الأساسي لتعثر بعض الأعمال التعاونية تضارب التوقعات أو اختلافها أو عدم وضوحها.
لذا يجب توضيح الأهداف منذ البداية وقبل كل شيء، ففهم الاختلافات بين المؤسسات المشاركة في المشروع التعاوني ووضع خطة لتخطيها يؤديان إلى تسريع التقدم، لا سيما حين يكون عدد الموظفين كبيراً ووجهات النظر لدى أصحاب المصالح شديدة التنوع. فلتلزم التحديد؛ احرص عند التعامل مع مواضيع شاملة أو غامضة أو متداخلة على تحديد التوقعات بعناية وإجراء دراسة جماعية واعية للتأكد من أن العمل التعاوني سيولّد قيمة مضافة جديرة بالتكلفة، ويجب توضيح الأساس المنطقي لقدرة العمل الجماعي على تحقيق أثر يفوق ما يمكن للمؤسسات الممولة أو الشركات المهنية المختصة تحقيقه بصورة فردية.
مثال توضيحي: تحدّث قادة المؤسسات أعضاء مبادرة الشفافية والمساءلة عن اهتمامهم بتسخير استخدام البيانات في المساءلة واتفقوا على ضرورة تعميق فهمهم للعقبات التي تواجههم على المستوى المحلي، فأجرت المبادرة أولاً أعمال تقييم وأقامت ورش عمل في نيجيريا ثم في كولومبيا حيث تعمل المؤسسات الأعضاء على استخدام البيانات في قطاعَي مكافحة الفساد والتعدين، وعلى الرغم من مشاركة جميع المؤسسات الممولة الأعضاء بادئ الأمر فاثنتان منها فقط قدمتا مِنحاً استثمارية بناءً على نتائج التقييم المشترك. تم تصميم المِنح وفقاً لجدول أعمال مشترك للتعلّم وتم التعاقد مع شركة شريكة في التعلّم من أجل الحفاظ على التماسك بين المشاريع الأربعة وتلخيص المعلومات العالية المستوى التي تحصل عليها المؤسسات لأجل توصيلها إلى جميع المؤسسات الممولة الأعضاء. أدى عدم تساوي التزامات التمويل إلى استياء بعض الأعضاء، وبما أن مزيج أهداف التعلم والمنح لم يكن واضحاً منذ البداية أبدت المؤسسات المستفيدة من المِنح بادئ الأمر إحباطها وارتباكها بشأن الغاية من المنح ودور شريكة التعلم على حد سواء.
2. اختيار الشركاء المناسبين وتوضيح نموذج صناعة القرار والثقة
يتمثل أحد موانع النجاح في عدم التوافق بين الملفات التعريفية للمشاركين من الأفراد و(أو) المؤسسات، إذ تضعف قوة الاندفاع بسبب اختلاف مستويات الرتب الوظيفية وسلطة صناعة القرار، والمعارف الوظيفية بمقابل المعارف الموضوعية، واختلاف الأنظمة والعمليات الداخلية. أشار قائد إحدى المؤسسات الأعضاء إلى أن "التسلسل القيادي في المؤسسات الكبيرة يسبب البطء في العمل، ولكن منصة التعاون أتاحت لنا العمل بسرعة ومرونة أكبر، وذلك مهم للغاية في دور القيادة".
فكر ملياً في نموذج العمل التعاوني أو هيكلية إدارته بناءً على الفرصة المتاحة، واحرص على توفير السلطة وسعة المجال و(أو) المعارف الضرورية التي يحتاج صناع القرار إليها. وحين تتوضح الأطراف التي تلتزم المبادرة المشتركة احرص على توطيد العلاقات بينها. الثقة مهمة؛ فالمؤسسات الممولة لا تجد كثيراً من السبل لتوضيح المعلومات وتبادلها، وقليلة هي الفرص التي تشعر فيها أنه بإمكانها العمل بشفافية تامة والتنسيق من أجل ضمان تكامل جهودها؛ تتيح الثقة في الأقران إجراء الحوارات والنقاشات الصريحة وصناعة قرارات فعالة.
مثال توضيحي: عندما أبدى بعض الأعضاء اهتماماً بمجال الصحة والفعالية المؤسسيتَين أنشؤوا مجموعة عمل ذات تركيز واسع النطاق عليه انطلاقاً من الرغبة في التعلم من الأقران، فعقدت أمانة المبادرة سلسلة من اجتماعات التعلم عبر الهاتف حول صحة المؤسسة وطاقتها الإنتاجية وقدرتها على التحمل، وسياسات المؤسسات الممولة وممارساتها المتعلقة بالخروج من أحد المجالات أو إحدى المِنح، والأمن الشامل للمؤسسات المستفيدة من المِنح. في حين جنت غالبية المشاركين فائدة ما من هذا المشروع، فقد أدى اختلاف الثقافات المؤسسية إلى عدم امتلاك جميع المؤسسات الأعضاء القدرة على تكريس نفس القدر من الوقت أو الموارد البشرية للعملية التعاونية؛ فاختلاف مستويات الخبرات في مجال الصحة والفعالية المؤسسيتَين أدى إلى تباين الحوافز والأولويات والجداول الزمنية في كل مؤسسة والفائدة التي جنتها من المشروع التعاوني، وأدى اختلاف البنى التنظيمية المؤسسية إلى صعوبة تحديد المؤسسات القرينة المتوافقة بوضوح.
3. مشاركة المعلومات بكفاءة وفي الوقت المناسب
لمشاركة المعلومات الاستباقية قيمة حقيقية في تحفيز العمل التعاوني ودعمه، فظهور العمل الجديد والجاري مهم لدعوة التعاون بين المؤسسات ودعمه، كما تستفيد المؤسسات الممولة من التحدث عن التقدم المحرَز للتواصل مع المؤسسات القرينة التي لم تشارك بعد في العمل التعاوني ودعوتها إليه.
في الحالات التي درسناها في مبادرة الشفافية والمساءلة، كان لفريق التنسيق المتاح والسريع الاستجابة دور أساسي في تمكين تفاعل المؤسسات التي اعتبرته عاملاً حاسماً في رعاية النجاح، وينطبق ذلك على الأعمال التعاونية التي تنطوي على استثمارات مالية.
من أجل المساعدة على تدفق المعلومات في الوقت المناسب، تمسّك بنقاط التواصل المستمر واحرص على تأسيس حد أدنى لها أو محفّزات لإعادة النظر فيها. في حين ذكرت المؤسسات أن مستويات المشاركة المتباينة أو غير الثابتة كانت عثرة في درب النجاح، لأنه بصراحة لن يرغب أحد في أن يبذل الجهد (أو المال) وحده. احرص على لفت الانتباه إلى مشكلة نقص المشاركة في وقت مبكر واعمل على معالجتها بصورة مباشرة، ولكن احرص كذلك على إطلاع جميع المشاركين على المستجدات حتى وإن لم يشاركوا فعلياً بعد.
مثال توضيحي: أدت أمانة مبادرة الشفافية والمساءلة دور صلة الوصل بين المؤسسات الممولة والمؤسسات الشريكة المستفيدة من المنَح، وأصدرت تقرير مراجعة لواقع تمويل جهود إدارة الموارد الطبيعية وأجرت دراسة للتوجهات الجديدة والفجوات في المجال، وتم تداول الوثيقتين مع المؤسسات الممولة والمستفيدة الشريكة قبل الفعالية التي جمعتها على مدى يومين وفي أثنائها، وكانت هذه الفعالية مصممة لتعزيز الفهم المتبادل بين المؤسسات لاستراتيجياتها وأولوياتها الجغرافية والموضوعية بهدف دعم تنسيق العمل بينها على نحو أفضل. وبحسب وصف قائد إحدى المؤسسات الممولة، كانت عملية الفهم المشتركة بمثابة "تفكير إلزامي" في قدرة مجتمع إدارة الموارد الطبيعية (من المؤسسات الممولة والمؤسسات المنفّذة) على تحديد المشكلات الناشئة -مثل التغير المناخي- والاستجابة لها بكفاءة، وأسهمت في توضيح مجالات التعاون والتكامل ووفرت المعلومات اللازمة لعدة تغييرات أجريت لاحقاً في المحافظ الاستثمارية للمؤسسات الممولة.
4. احرص على التكيف حسب الحاجة
مع تطور العمل التعاوني، من الضروري إعادة النظر في الغاية والعملية والأدوار وتعديلها حسب الحاجة. احرص على إنشاء حلقات الملاحظات في أثناء العمل التعاوني وفكر فيما تتعلمه منها وادمجه في عملك مع البيانات الفعلية والمعلومات التي تجمعها واجعلها أساساً لعملية التنفيذ والعمل المستقبلي.
احرص على مواكبة الأولويات المتغيرة لدى المؤسسات الممولة، فمن الممكن أن تمر الأعمال الخيرية بتقلبات عديدة، ومن المرجح أن تخرج عمليات إعادة الهيكلة الاستراتيجية والمؤسسية الكبيرة عن السيطرة، ولكن يمكن الحد من الزعزعة عن طريق زيادة الوعي بدورات الاستراتيجية المؤسسية المقبلة، والإقرار مسبّقاً بقابلية التغيير الفطرية في جميع خطط المؤسسة الممولة. كما أن مناقشة تبعات تغيير استراتيجية المؤسسة الممولة هي بحدّ ذاتها مجال مهيّأ للعمل التعاوني. مثلاً، يمكن أن يكون العمل التعاوني مساحة ثمينة تتيح للمؤسسة الممولة مشاركة التغييرات التي تجريها على أساليب العمل والتعرف على ما تتوصل إليه من استراتيجيات الخروج من محفظة استثمارية ما بالتعاون مع المؤسسات الممولة الحالية والمحتملة في المجال نفسه.
مثال توضيحي: استجابت مبادرة الشفافية والمساءلة للتغيرات الخارجية الكبيرة عند بدء انتشار جائحة كوفيد-19 من خلال نقاشات عقدتها أمانتها بين أعضائها حول الانتقال إلى العمل عن بُعد، والتحديات وطرائق الاستجابة لها من أجل دعم المؤسسات المستفيدة من المنَح، وإنشاء نظام لمراقبة تفشي مرض كوفيد-19 والجهود اللاحقة لتسليط الضوء على توجهات واحتياجات محددة ضمن منظومة التنمية بالنظر إلى التوجهات الأطول أمداً لأعمال الشفافية والمشاركة والمساءلة ودور المجتمع المدني في التعافي من الجائحة. قررت مبادرة الشفافية والمساءلة لاحقاً الانتقال من المواضيع الاستراتيجية الثابتة (مثل الضرائب وحماية الحيز المدني واستخدام البيانات) إلى اتباع هيكلية وظيفية متوائمة مع القضايا التي تشترك المؤسسات الممولة في تمويلها وطرائق التمويل والتأثير في مشهد التمويل الأشمل، أجري هذا التغيير بناءً على المعلومات الواردة في وثائق العمل التعاوني وكان بمثابة تجسيد لحقيقة أن استراتيجيات المؤسسات الخيرية تتغير فعلاً بصورة دورية؛ ما يعدّ مشكلة أولوية مشتركة في بداية فترة الاستراتيجية التعاونية لا يبقى كذلك غالباً في نهايتها.
5. احرص على تضمين مصلحة الشركاء الميدانيين
على الرغم من أن المؤسسات الممولة تعدّ صاحبة الدور الرئيس في العمل التعاوني، فخبرتنا تؤكد أهمية مراعاة القيمة وزيادتها للمؤسسات المستفيدة الشريكة والمؤسسات الممولة على حد سواء. يمكن أن يؤدي التشاور مع المؤسسات المستفيدة الشريكة إلى زيادة الثقة في القدرة على تحديد المشكلات وتصميم أي عمل تعاوني، ويمكن أن تكون متطلبات الشركاء مصدر إلهام مباشر لأشكال جديدة من العمل التعاوني. قال قائد إحدى المؤسسات الأعضاء في المبادرة: "تستخدم مؤسساتنا الممولة قوتها ومواردها لدعم المؤسسات والقضايا عن طريق تقديم المنَح، ولكننا نملك قوة أخرى لم تُستخدم قطّ على الصعيدين المنهجي والاستراتيجي".
كما كانت المعلومات التي شاركتها المؤسسات الممولة في عملها التعاوني موضع تقدير المؤسسات المستفيدة الشريكة، وكانت منتجات المعارف التي ولّدها تنفيذ العمل التعاوني من أهم النتائج التي حظيت بتقدير المؤسسات الممولة والمستفيدة الشريكة على حد سواء؛ يتمتع إجراء التحليلات بصورة جماعية بكفاءة أعلى. وضح قائد إحدى المؤسسات الأعضاء: "إذا أردنا الحصول على نتائج مماثلة خارج إطار مبادرة الشفافية والمساءلة، فسيتعين علينا تجهيز المزيد من الأبحاث المستقلة من أجل البحث عن التوجهات الميدانية وفرص الاستثمار في المجال".
مثال توضيحي: اختبرت المؤسسات الأعضاء في مبادرة الشفافية والمساءلة استخدام "صوتها" وقوتها الجماعية لتقديم المناصرة المباشرة للقضايا التي تكمّل جهود المؤسسات المستفيدة الشريكة في معالجة مشكلات مبادرة الشفافية والمساءلة، فطورت نظاماً لتوقيع الرسائل وكتابة المقالات بصورة جماعية، مثل مقال الرأي هذا، من أجل لفت الانتباه إلى فجوات التمويل. أدى استكشاف الإجراءات الجماعية الممكن تنفيذها بالاستفادة من علامة مبادرة الشفافية والمساءلة التجارية إلى اكتساب المؤسسات الممولة ثقة أكبر للخروج من منطقة راحتها وتعزيز متطلبات مناصرة المؤسسات المستفيدة من المنَح. أدى تأسيس عملية مدروسة تتيح الاستفادة من صوت مبادرة الشفافية والمساءلة إلى جعل الاستجابة سريعة وأكثر مرونة وبالتالي زيادة فائدتها على الأرجح. في بعض الحالات تمكنت المؤسسات الأعضاء من استخدام صوت المبادرة الجماعي حين عجزت عن استخدام علاماتها التجارية الخاصة، وفي حالات أخرى تمكن قادة المؤسسات الأعضاء من استخدام نظام التوقيع الجماعي للمبادرة من أجل تحفيز مؤسساتهم الخاصة على التوقيع بصورة فردية و(أو) حشد تأييد عالي المستوى ضمن مؤسساتهم حول مواضيع محددة. أبدت المؤسسات المستفيدة الشريكة استجابة إيجابية شجعت المؤسسات الممولة على استخدام نفوذها الفردي والجماعي أكثر للمساعدة في تعزيز جدول أعمال المؤسسات المستفيدة وزيادة ظهور عملها على أمل جمع المزيد من الموارد لأجله.
احرص على التوثيق!
توضح ملاحظاتنا حول الحالات المدروسة قيمة الاستثمار في تتبع أعمال تعاونية معينة وتوثيقها كي نطور ممارساتنا بناء على التجارب الواقعية، وتسليط الضوء على عقبات العمل التعاوني وعناصر تمكينه هو وحده ما يمدنا بثقة أكبر في عملنا على تصميم الجهود المشتركة المستقبلية وتنفيذها ومقارنة فوائد العمل التعاوني المحتملة بتكلفة فرصتها.
نأمل أن تحذو المشاريع التعاونية الأخرى حذونا وتوثق مزيداً من الأمثلة العملية والتعلّم المشترك للتفاصيل العملية من أجل تعزيز عمل التمويل الجماعي. يمكننا جمع مزيد من المعلومات حول طرائق العمل التعاوني في القطاع الخيري للإبلاغ عن الانتشار المستمر للمبادرات المجمعة.
يمكنكم الاطلاع على النسخة الإنجليزية من المقال من خلال الرابط، علماً أنّ المقال المنشور باللغتين محمي بحقوق الملكية الدولية. إنّ نسخ نص المقال دون إذن سابق يُعرض صاحبه للملاحقة القانونية دولياً