إلى أي مدى مسألة الوقت مهمة في العمل الخيري؟

4 دقيقة
الاعتبارات الزمنية
 (الرسم التوضيحي: آي ستوك/أكينبوستانسي) 
استمع الى المقالة الآن هذه الخدمة تجريبية
Play Audio Pause Audio

ستكون الاعتبارات الزمنية مثل التوقيت المناسب للتمويل، وموازنة المسؤوليات بين الماضي والحاضر والمستقبل، والأسئلة المحيطة بعمر المؤسسة ووتيرة الدفعات، من بين القضايا الأهم التي تواجه العمل الخيري في السنوات القادمة.

وبطبيعة الحال، هذه الاعتبارات ليست جديدة، إذ شغلت اهتمام الممولين منذ ولادة العمل الخيري الحديث قبل أكثر من قرن من الزمان، وقد قدمت مجلة ستانفورد سوشال إنوفيشن منصة مهمة لمناقشتها منذ تأسيسها. ولكن لعدد من الأسباب (التي نوقشت بمزيد من التفصيل في كتاب قادم شاركتُ راي مادوف في تحريره بعنوان “العطاء في الوقت المناسب”(Giving in Time)، ازدادت أهمية الاعتبارات الزمنية في العمل الخيري في العقود الأخيرة، وستبقى كذلك في السنوات القادمة.

ما الأسباب التي تجعل الجهات المانحة تولي المزيد من الاهتمام لمسألة التوقيت؟ أحد الأسباب وراء تغير المشهد الخيري هو سيطرة المتبرعين الكبار النشطين عليه خلال العقدين الماضيين، حيث كانت المؤسسات الخيرية التقليدية سائدة آنذاك. وبطبيعة الحال، لم تتجاهل المؤسسات القديمة الاعتبارات الزمنية، إذ فكر العديد من قادتها بعمق في طبيعة مسؤولياتهم تجاه المؤسسين، وفي الإطار الزمني لتوزيع الأموال، وفي شرعية الاستمرارية.

يعمل المانحون الكبار الأفراد ضمن إطار زمني مختلف عن المؤسسات التي لا تضع إطاراً زمنياً لإنهاء عملها الخيري، لأنهم يأخذون في الحسبان محدودية عمر الإنسان، ويحبون أن يروا تأثير تبرعاتهم قبل أن يرحلوا. ويتجلى هذا الاتجاه في أوضح صوره في التعهدات التي قدمها عدد متزايد من الأفراد الأثرياء في مختلف أنحاء العالم، مثل ماكنزي سكوت وعظيم بريمجي، بالتخلي عن جزء كبير من ثرواتهم قبل وفاتهم.

أثارت هذه التعهدات مجموعة من الأسئلة التي ستحدد العديد من المناقشات حول التبرعات الضخمة في السنوات المقبلة. كيف يمكن للمرء أن يوازن بين نهج العمل الخيري الذي يتسم بالإلحاح لإيصال الأموال إلى أيدي المؤسسات الخيرية على وجه السرعة، والالتزام بالتعلم وتبادل الخبرات، علماً بأن العديد من المانحين يبدأ مسيرته المهنية في العمل الخيري في وقت مبكر من حياته، ويمكن أن يقدم عقوداً من العطاء؟ هل هناك أساليب خاصة للتبرع مرتبطة بالمراحل العمرية من حياة المتبرع؟ كيف ستشكل أحداث الحياة الكبرى، مثل الولادة والزواج والطلاق والوفاة، أولويات العطاء وممارساته؟ وفي أي مرحلة من العمر ينبغي لرواد الأعمال وقادة الشركات أن يخرجوا من الشركات التي جمعوا فيها ثرواتهم لتكريس أنفسهم بالكامل للعمل الخيري؟

تتداخل هذه الأسئلة كلها معاً، والإجابات التي يصل إليها المانحون والجمهور عموماً ستكون محورية في تحديد العديد من الديناميات التي تميز التبرعات الضخمة في العقود القادمة.

ثمة عامل آخر وراء زيادة أهمية الإطار الزمني في العمل الخيري وهو النمو الهائل للصناديق الاستشارية للمانحين (DAFs)، الذي أدى بدوره إلى تعزيز أهمية المناقشات حول الوتيرة المناسبة التي ينبغي بها توجيه الموارد الخيرية مباشرة إلى الجمعيات الخيرية العاملة. والمثال التاريخي المفيد هنا هو قانون الإصلاح الضريبي لعام 1969. بدأ تحقيق الكونغرس الذي أسفر عن هذا القانون نتيجة مخاوف من أن عدداً من المؤسسات الخاصة التي نشأت في الأربعينيات والخمسينيات كانت تكنز الأموال بدلاً من مساعدة الجمعيات الخيرية المحتاجة.

أنتجت المناقشات حول مشروع القانون أهم تفاعل عام ومستدام في قضية العمل الخيري والإطار الزمني في النصف الثاني من القرن العشرين، وأدت إلى إلزام الدفع المقرر للمؤسسات الخيرية. والمفارقة هي أن القانون أحدث أيضاً “ثغرات” (على حد تعبير المؤرخة ليلا كوروين بيرمان) في التصنيف القانوني للمؤسسات الخيرية الخاصة والجمعيات الخيرية العامة (التي لا تخضع إلى شرط دفع التعويضات للجمعيات الخيرية العامة) وهو ما تأسست عليه الصناديق الاستشارية للمانحين. وكما جذب نمو المؤسسات الخيرية الانتباه إلى قضايا دفع التعويضات في الخمسينيات والستينيات من القرن الماضي، فإن نمو الصناديق الاستشارية للمانحين قد فعل الشيء نفسه في العقد الأول من القرن الحادي والعشرين وسيستمر في ذلك في العقد القادم.

هناك تفسير آخر لزيادة بروز أهمية الاعتبارات الزمنية في العمل الخيري وهو الشعور بالأزمة التي أصبحت تلقي بظلالها على الكثير من جوانب حياتنا المدنية. حتى لو أثارتها وسائل الإعلام والشخصيات العامة بدوافع سياسية أو مالية، فإن إلحاح الأزمات المتعددة والمتشابكة يعكس بلا شك التهديدات الحقيقية الشديدة الخطورة التي نواجهها على المستوى الوطني والعالمي.

من أبرز هذه الأزمات التغير المناخي، وتنضم إليها أزمات مرتبطة بانعدام الاستقرار والمساواة الاقتصاديين، والظلم العرقي، وعدد لا يحصى من العلل الأخرى. تفرض الأزمات التركيز على ما يجري في الوقت الراهن، ما يجذب الانتباه والموارد نحو الحاضر، ويزداد ذلك عندما يكون الوعي بالأزمة حاضراً دائماً. ومع ذلك، فإن كل هذه الأزمات الحالية تتطلب منا أيضاً أن نفكر في مسؤولية العمل الخيري تجاه المستقبل أمام الأزمات المجهولة؛ فهي تمارس ضغوطاً على العمل الخيري في إطار زمني معقد، الذي يجب علينا جميعاً، نحن المهتمون بالعمل الخيري، أن نكون أكثر انسجاماً معه في السنوات القادمة.

ساعد الاهتمام المتزايد الذي بدأ قطاع العمل الخيري إيلاءه لتوزيع السلطة بين الجهات المانحة والمستفيدين من المنح في إبراز أهمية بعض الاعتبارات الزمنية في العمل الخيري. صارت أهمية الاستعجال في توزيع الموارد في العمل الخيري توازي أهمية التأني. إن القرارات المتعلقة بسرعة الإنفاق هي من أهم الطرق التي يمارس بها المانحون سلطتهم؛ حيث يوجهون الموارد إلى المجموعات الأقرب إلى المشكلات التي يسعى المانح إلى معالجتها، والسماح لهذه الجماعات بالسيطرة على تلك القرارات طريقة مهمة يتخلى المانح عبرها عن بعض تلك السلطة.

وفي الوقت نفسه، قد يكون حصول الجمعيات الخيرية على الأموال بسرعة وسيلة لتحويل السلطة، إلى درجة تتطلب اتخاذ المانح قراراً فعالاً لا يخلو من التمييز بشأن إلى من يجب توجيه تلك السلطة، وهو بحد ذاته ممارسة للسلطة. وهذا يعني  أنه في العقود المقبلة، إذا أوفت مجموعة من المليارديرات الحاليين بتعهداتهم بتخصيص أجزاء كبيرة من ثرواتهم للأعمال الخيرية في حياتهم، فإن ذلك لن يمثل فقط علامة بارزة فيما يخص التركيز على الاعتبارات الزمنية في قطاع العمل الخيري، بل سيظهر أيضاً قوة العمل الخيري.

هذه القائمة من الأسباب التي أدت إلى بروز الاعتبارات الزمنية في العمل الخيري ليست شاملة بأي حال من الأحوال. ثمة العديد من العوامل الأخرى المهمة أيضاً ولا يمكن الإشارة إليها إلا هنا. على سبيل المثال، ركزت حركة الإيثار الفعال الاهتمام على المناقشات الدائرة حول مسؤوليتنا تجاه المستقبل البعيد. وقد نجحت الحملات الرامية إلى تعزيز العدالة العرقية في لفت الانتباه إلى الدور الذي يؤديه العمل الخيري في معالجة الأخطاء التاريخية.

وبما أن الاعتبارات الزمنية صارت الأبرز في خطاب العمل الخيري على مدى العقد الماضي، فقد بدأت تتفاعل بطرق مهمة، إن الطريقة التي نتحدث بها عن وقت تقديم العطاء في حياتنا تحدد أفكارنا بشأن المؤسسية التي يتخذها العطاء، والتي بدورها تُغْني المناقشات حول المسؤوليات في الوقت الحاضر والمستقبل، ومن المستحيل أن نعرف على وجه التحديد ما هي المعايير والممارسات التي سوف تنشأ في السنوات المقبلة من هذه التفاعلات. لكن من الواضح أن العقد المقبل سيتميز بزيادة النية والاهتمام بكيف يجب على المانحين النظر في مسألة الزمن لصناعة قراراتهم، “العطاء في الوقت المناسب”.

يمكنكم الاطلاع على النسخة الإنجليزية من المقال من خلال الرابط، علماً أنّ المقال المنشور باللغتين محمي بحقوق الملكية الدولية. إنّ نسخ نص المقال من دون إذن مسبق يُعرض صاحبه للملاحقة القانونية دولياً.