ما زلنا نتذكر بوضوح تلك اللحظة التي من شأنها أن تحدد اتجاه مؤسستنا الناشئة وتغير حياتنا إلى الأبد. كان ذلك في أكتوبر/تشرين الأول 2012، حين كنا نجلس في مقهى «جافا هاوس» ذي الإضاءة الخافتة في نيروبي، كينيا. لقد تركنا وراءنا حياة مهنية واعدة في واشنطن العاصمة، وانتقلنا إلى كينيا على خلفية مذكرة تفاهم مع إحدى الجامعات الكبرى لإطلاق مؤسسة جديدة تهدف إلى تطوير جيل جديد من المهنيين لخلق أثر اجتماعي.
كان شريكنا الجامعي في ذلك اليوم قد نقل إلينا خبراً سيئاً مفاده أنه ألغى الاتفاقية لأسباب تتعلق بالسياسة الداخلية. من جهة أخرى، كان مجلس الإدارة لدينا يردعنا عن الانطلاق من دون وجود هذا النوع من الشركاء، ويدفعنا للعثور على آخر، بينما أخبرنا أحد زملائنا؛ وهو رائد اجتماعي يعمل في قطاع التعليم، التالي: «نظراً لبطء استجابة الجامعات، فإنّ الاعتماد كلياً على الشركاء الأكاديميين ليس آمناً، بل إنه أخطر استراتيجية على الإطلاق!»
دفعنا ذلك إلى التفكير بخيار آخر، لذلك، في اليوم المصيري ذاته، وفي ذلك المقهى المتواضع، قررنا إطلاق برنامج مستقل قائم على تقاضي الرسوم - رغم أنّ أحداً لم يشجعنا على تلك الخطوة.
لم تكن البيئة من حولنا مثالية، فقد كانت سنة انتخابات في كينيا، التي تذكِّر بالانتخابات الوطنية السابقة التي أسفرت حينها عن وقوع أحداث عنف عرقية طويلة الأمد. في ظل ذلك السيناريو الفوضوي، أطلق فريقنا حملة توظيف على نطاق دوليّ للبدء بالدورة التدريبية الأولى بعنوان: «زملاء إدارة الابتكار الاجتماعي». استغرق الأمر بضعة أشهر، ثم بدأت الطلبات تتدفق ببطء. في النهاية، اجتمع لدينا في نيروبي 14 شخصاً شجاعأ من روّاد وصنّاع التغيير للبدء بالدورة الأولى.
بعد أربع سنوات، كان برنامجنا يعمل في كل من كينيا والبرازيل، وقد شارك فيه 225 صانع تغيير من أكثر من 45 دولة. بدأت العديد من المؤسسات، والمنظمات غير الحكومية، والجامعات، والمؤسسات الاجتماعية، في التواصل معنا لتصميم برامج تدريب داخلية لهم، نظراً لأننا نقدم بكفاءة مهارات هذا القرن التي يحتاجها الأشخاص العاملين في القطاع الاجتماعي. لقد أتاح لنا هذا التقدم توسيع فريقنا الرئيسي، والتخطيط لأول مرة لما بعد السنة المالية القادمة.
عندما اتخذنا قرار الشروع في هذه المغامرة، لم نكن نملك سوى شغف مشترك لتدريب صنّاع التغيير، إلى جانب مدخرات محدودة لتمويل تكاليف التشغيل الأولية. بعد ذلك، تخطّت «أسهم المؤسسين» الأولية؛ والتي بلغت حوالي 20 ألف دولار أميركي عام 2012، حاجز المليون دولار للمرة الأولى، بأرباح بلغت نسبتها أكثر من 80% من الدخل عام 2017، ومن الجدير بالذكر أنّ الدخل المحقق بين عامي 2015 و2016 كان قد شكّل أكثر من 95% من ميزانيتنا.
كما تشير المقالة بعنوان «الوقت المناسب لتحفيز الممولين»، فإنّ المرونة التنظيمية للمؤسسات غير الربحية تستند إلى وضعها المالي، ورغبة منّا بمساعدة المؤسسات الاجتماعية الأخرى على التعامل مع تمويل المؤسسات غير الربحية الآخذ بالتراجع، والضغط الشديد من المانحين لإعطاء الأولوية للأفراد بناء على مدى عمق التأثير عليهم، إليك ستة دروس تعلمناها حول البدء وبناء مؤسسة مستدامة مالياً في الأسواق الناشئة:
1.حافظ على عملك السابق لأطول فترة ممكنة: لم يكن مسار الريادة الاجتماعية أكثر بريقاً من اليوم، لكن قلة من الروّاد الاجتماعيين يشيرون إلى أنّ العمل الفعلي مثير حقاً، وبالنظر إلى أنّ البدء بمؤسسة جديدة أمر منهك حقاً من جميع النواحي؛ لا سيما من دون تمويل خارجي كبير، ولأنّ احتمال الفشل يبقى قائماً في البداية، فقد احتفظنا بوظائفنا، وخصصنا رواتبنا لتمويل نفقات البدء، على الرغم من أننا غادرنا أميركا وانتقلنا إلى كينيا. كان ذلك يعني أننا التزمنا بوظيفتين بدوام كامل! قد لا يكون مثل جدول العمل الصعب هذا ممكناً للجميع، لكنه منحنا مساحة من الأمان النفسي والمالي متمثلة في وجود دخل يمكننا الاعتماد عليه في حال فشلت مؤسستنا الناشئة. لقد احتفظنا بتلك الوظائف طوال مدة إطلاق نماذج أعمالنا الأولية وحتى بعد تحقيقنا للإيرادات.
2.أنشئ الشكل الأولي لنموذج عملك: تتجسد أهمية النماذج الأولية في التفكير الابتكاري، ولكن ما ينطوي عليه ذلك عادة هو مجرد اختبار منتجك أو خدمتك. بالنسبة إلينا، فإنّ الافتقار إلى التمويل الخارجي يعني أنه لم يكن لدينا خيار سوى فرض رسوم على دورات النماذج الأولية. لقد أتاح لنا ذلك الحصول على بيانات ثمينة للعملاء؛ ليس فقط لدعم البرنامج، ولكن ليشمل أيضاً نموذج عملنا. تكشّف أمامنا سوق جديد لبرنامجنا، حيث ضمّ الأشخاص الذين عملوا لمدة عقد أو أكثر، وأرادوا الانتقال إلى مهن ذات صلة بتحقيق الأثر الاجتماعي، أي أنّ الشريحة المستهدفة لم تَعُدْ محصورة بخريجي الجامعات الجدد. كما أظهرت هذه العملية أيضاً أنّ الأفراد كانوا في الواقع على استعداد للدفع مقابل ما نقدمه؛ وهي نتائج قد لا تصل إليها غالباً المؤسسات التي تحصل على تمويل جيد.
ساعدنا قرارنا بفرض رسوم؛ حتى في مرحلة تقديم النماذج الأولية لعملنا، على تعلُّم كيفية التعامل مع الدخل. على سبيل المثال، ومن القصص المفضلة لدينا التي قد تواجهها الكثير من المؤسسات الناشئة، هي أننا لم نعمل على تصميم إيصال دفع لمؤسستنا، إلا بعد أن تلقينا طلباً من أحد عملائنا للحصول عليه، كما استخدمنا الحسابات المصرفية الشخصية لاستلام الدفعات، وتوسلنا إلى الأصدقاء لمساعدتنا من خلال مؤسساتهم لتكون بمثابة جهات رعاية مالية، وغيرها الكثير. يُعدّ هذا النوع من العمل السريع؛ والذي يتطلب طاقة كبيرة، أكثر أهمية في الأسواق الناشئة، حيث يمكن أن تتسبب بيروقراطية المؤسسات المالية في كثير من الأحيان بحالات تأخير حرجة.
من المهم ملاحظة أنّ جميع هذه الاعتبارات القائمة على السوق لا تُبطل الحاجة إلى الدفع للوصول بخدماتنا لأولئك الذين لا يستطيعون تحمّل كلفة الرسوم، وهو ما نسعى دائماً إلى تحقيقه.
3. تقبّل أن يُقابَل عملك بداية بالرفض: تمثّل هذه العبارة المأخوذة عن لسان أحد مرشدينا كل شيء تقريباً حول البدء بمؤسسة اجتماعية. في البداية، تقدمنا بطلب إلى جميع منح الزمالات الرئيسية وممولي المؤسسات الناشئة في مجال الريادة الاجتماعية، لكننا تلقينا الرفض من قبل الجميع، وفي إحدى الحالات الأكثر إحباطاً، وصلنا إلى الترتيبات النهائية للحصول على زمالة مرموقة، لكننا رُفضنا في المرحلة الأخيرة، وفي السنوات التالية، شهدنا توقف العديد من المؤسسات التي فازت بالزمالة عن العمل، بينما استمرت مؤسستنا في النمو. لقد دفعنا هذا الرفض إلى أن نكون أكثر تصميماً على عدم الاعتماد على التمويل الخارجي. في النهاية، وبعد أن أثبتنا قدرتنا على توليد الدخل، وافقت مؤسستان عائليتان على تقديم تمويل محدود لمدة عامين.
4.اقتصد وادّخر لحين توفير احتياط مالي: تعتمد ثقافتنا على الاقتصاد مالياً بوعيٍ كامل منّا، حيث يبحث فريقنا دائماً عن طرق مبتكرة لتسخير الموارد من دون إنفاق الكثير، إلا أنّ العمل ضمن بيئات غير مستقرة؛ مثل كينيا والبرازيل، يعني احتمال قدوم اليوم الذي تتدهور فيه البيئة الكلية أكثر، وكما ورد في مقالة تحفيز الممولين المذكورة أعلاه، فإنه «من دون أرصدة محررة وكافية؛ من حيث رأس المال العامل لمعالجة التحديات المتعلقة بالوقت، والتي يمكن التنبؤ بها، والاحتياطيات التشغيلية للتخفيف من حدة العجز المفاجئ، لا تستطيع المؤسسات غير الربحية تكريس الاهتمام الكافي للمسائل الاستراتيجية الأكثر أهمية التي تواجهها». بأخذ هذا في الاعتبار، حدّد مجلس الإدارة لدينا هدفاً يتمثل في تحقيق احتياطي مالي يغطي 18 شهراً من رواتب جميع الموظفين، وحرصنا على الادخار حتى وصلنا إلى ذلك الهدف، وبالنتيجة، عندما نمرّ بيوم سيء؛ أو حتى عدة أشهر، يمكننا الشعور بالطمأنينة لعلمنا أنّ وظائف الجميع آمنة على المدى القصير.
5.اكسب بعض المال: في مرحلة معينة، كانت إحدى الجهات المانحة تراوغ قبل الالتزام بتقديم أي تمويل، وعندما شكونا هذا الأمر إلى صديقة مشتركة بيننا؛ وهي من الشخصيات المتزنة والتي تحظى بالكثير من الاحترام في القطاع الذي نعمل فيه، لن ننسى أبداً كيف نظرت إلينا مباشرة وقالت ببرود تام: «احصلوا بأنفسكم على ما يكفي من المال» وأضافت موضّحة أنّ مثل هذه المواقف لا بد أن تحدث وأنه سيتعين علينا مواجهتها ما لم ندّخر ما يكفي لنكون قادرين على تجنب الدخول في صفقات سيئة.
6. اعلم أنّ الاستدامة المالية هي عمل جماعي: لم تكن رحلتنا سهلة، ومررنا بكثير من الأوقات تساءلنا خلالها عمّا إذا كنا سنلتزم بميزانيتنا. في أوقات الشدة تلك، حرصنا على أن نكون شفافين مع فريقنا بشأن العدد اللازم من الملتحقين بدوراتنا التدريبية لكي نواصل عملنا. كان فريقنا دائم الاستجابة، حيث دعم كل موظف جهودنا التسويقية، وعلى الرغم من الشعور بالإجهاد، جمعتنا تلك اللحظات الحرجة، وأظهرت أنّ تحقيق النجاح ليس من مسؤولية فريق القيادة فقط.
الغالبية العظمى من المؤسسات الناشئة لا تدوم لأكثر من خمس سنوات، وكان احتمال أن نواجه هذا بأنفسنا كبيراً في البداية. لا شك أنّ تمويل مؤسستك الناشئة يمثّل عاملاً واحداً فقط من العوامل التي تساهم في إنجاحها، وفي حين أنّ معظم الروّاد الاجتماعيين لا يدخلون هذا المجال من أجل المال، لا نستطيع إنكار أنّ المال يشغلهم يومياً، حيث أنه لا يُعدّ مصدراً للاستدامة التنظيمية والنمو فحسب، ولكنه أيضاً مهم للرفاه الذهني والنفسي. إنه يوفر سبل العيش للموظفين، والقبول المجتمعي، والشعور بالطمأنينة. نأمل أن تقدّم هذه الدروس حول بناء المرونة المالية أفكاراً مفيدة لك ولزملائك من الروّاد الاجتماعيين خلال رحلتكم في بناء مؤسساتكم الخاصة.
يمكنكم الاطلاع على النسخة الإنجليزية من المقال من خلال الرابط، علماً أنّ المقال المنشور باللغتين محمي بحقوق الملكية الدولية. إنّ نسخ نص المقال بدون إذن مسبق يُعرض صاحبه للملاحقة القانونية دولياً.