في كثير من الأحيان، تخلق الشركات الناشئة التي تعد بتحسين العالم مشاكل اجتماعية في أثناء نموها. تركز بعض الانتقادات الموجهة إلى قطاع التكنولوجيا على شخصيات المؤسسين غير العادية وسلوكياتهم المثيرة للتساؤلات، في حين يركز بعضها الآخر على الآثار الضارة المحتملة للخوارزميات والذكاء الاصطناعي.
عملت 19 شهراً في شركة ناشئة ناجحة في وادي السيليكون سأطلق عليها اسم أول دن (AllDone). لم أكتشف فيها قادة سامّين أو خوارزميات تعيث فساداً. لكنني ألقيت نظرة من كثب على الطريقة التي يحدد فيها مستثمرو رأس المال المغامر جداول أعمال الابتكار التكنولوجي في الولايات المتحدة والعالم.
لاحظت في شركة أول دن كيف أن الحاجة المُلحة لمستثمري رأس المال المغامر لزيادة قيمة الشركات الناشئة زيادة هائلة، دفعت الشركة الناشئة إلى إجراء الكثير من التجارب دون توقف لرفع قيمتها بأسرع ما يمكن. أدّى هذا الاضطراب المستمر إلى ظهور مشاكل تنظيمية تمكن المدراء من حلها من خلال استخدام أنظمة خوارزمية وعاملين بأجور منخفضة من لاس فيغاس والفلبين.
شكّل هؤلاء المتعاقدون المستقلون من خارج الشركة 92% من قوة العمل فيها، ولم يتمكنوا من المشاركة في الثروة التي أسهموا في تكوينها بسبب عدم تضمين تعويضاتهم خيارات الأسهم. وفي الوقت نفسه، اتخذ مهندسو البرمجيات قراراتهم بشأن الابتكارات والأفكار التي يجب متابعتها أو تجاهلها على نحو يوافق تفضيلات المستثمرين للمشاريع ذات المخاطر العالية والعوائد المرتفعة. ونتيجة لذلك، وجد العديد من المستخدمين الذين اعتمدوا على برمجيات شركة أول دن أن مصدر رزقهم قد تعرض إلى الخطر بسبب تحول الشركة من نموذج عمل إلى آخر لتلبية تطلعات رأس المال المغامر.
أثارت هذه التجربة فضولي حول إذا ما كان هناك طرق نستطيع من خلالها إعادة هيكلة الابتكار بحيث تتوزع المكاسب التي يولدها على نطاق واسع. يشرح المقتطف الآتي من كتابي الجديد "خلف كواليس الشركة الناشئة: كيف يصوغ رأس المال المغامر العمل والابتكار وعدم المساواة" (Behind the Startup: How Venture Capital Shapes Work, Innovation, and Inequality)، ما يمكن فعله للحد من تأثير رأس المال المغامر وإفساح المجال لنماذج تمويل بديلة. لا يتعلق الأمر بخنق الابتكار، بل بإفساح المجال للجميع ليكون لهم رأي في مستقبلنا التكنولوجي. بنجامين شيستاكوفسكي
* * *
ما التكنولوجيا والمنظمات والمؤسسات إلا إبداعات بشرية. يدعونا عصر التغير التكنولوجي الحالي إلى فهم أن المستقبل غير مضمون والتساؤل كيف يمكننا أن نتعاون لتقليل الأضرار الناتجة من التكنولوجيات الجديدة وتقاسم منافعها على نطاق واسع. لا يتعلق الأمر بتصميم التكنولوجيا، بل بأسئلة أوسع نطاقاً تتعلق بطريقة تنظيم الابتكار في اقتصادنا.
يتسبب هيكل ملكية الشركات الناشئة المدعومة برأس المال المغامر بدفع الشركات إلى تجريب الابتكارات دون توقف بهدف تضخيم القيمة المدركة للشركة بسرعة. تهيمن الشركات الناشئة المدعومة برأس المال المغامر والشركات المتداولة في البورصة على هذا المجال، لكن الاهتمام بأنواع رأس المال النشط في المجالات الأصغر حجماً في قطاع التكنولوجيا يمكن أن يكشف لنا عن نماذج وسياسات بديلة للتطور التكنولوجي.
حان الوقت لتنويع محفظة الابتكار والبحث عن طرق أفضل للاستثمار في المستقبل. تشير دراسة استقصائية موجزة لبيئة عمل المنصات إلى وجود طرق أخرى لتمويل الابتكار قد تؤدي إلى تحسين ظروف العاملين والمجتمعات، مع ضمان عدم استحواذ مجموعة صغيرة من النخب الاقتصادية على الجزء الأكبر من المكاسب التي تولدها شبكات العاملين الذين يسهمون في نجاح الابتكار على مستوى العالم. تعد شركات التكنولوجيا المملوكة للقطاع الخاص والشركات غير الربحية وتعاونيات المنصات من بين الكيانات التي يمكن أن تؤدي دوراً مهماً في دعم الابتكار مع توزيع فوائده على نطاق أوسع.
قاومت شركة منصة الإعلانات على الإنترنت كريغزليست (craigslist) المملوكة للقطاع الخاص الاستثمار الخارجي إلى حد كبير. تقول الباحثة في مجال الاتصالات جيسا لينغل: "تتبع شركة كريغزليست أسلوباً يختلف عن الافتراضات الأساسية لطرق نجاح شركات التكنولوجيا". لم يغير مؤسسها كريغ نيومارك ورئيسها التنفيذي جيم بوكماستر واجهة مستخدم المنصة أو سياساتها منذ إطلاقها عام 1995. وقد أدار الاثنان المنصة بما تدعوها لينغل "سياسة الحد الأدنى من الربح"، حيث يفرضان رسوماً بسيطة على بعض المستخدمين (الذين يفترض أنهم أكثر ثراءً) لنشر إعلانات (مثل إعلانات العقارات أو إعلانات الوظائف في مدن معينة)، ولكنهما يحافظان على مسار نمو معتدل. على عكس المنصات الشهيرة الأخرى التي أُسست في السنوات التي أعقبت ظهور كريغزليست، فقد امتنعت هذه المنصة عن إجراء تجارب مستمرة على خدمتها لزيادة التفاعل أو استضافة الإعلانات أو جمع معلومات المستخدمين وبيعها للمعلنين وسماسرة البيانات.
تُظهر حالة كريغزليست أن شركات التكنولوجيا المملوكة للقطاع الخاص تواجه ضغوطاً خارجية قليلة لتعظيم الأرباح، وبالنتيجة تكون أقل عرضة لتحديث أنظمتها باستمرار وتنفيذ ممارسات تضر برفاهة العاملين والمستخدمين. تشير استمرارية كريغزليست إلى أنه من الممكن لرواد الأعمال الذين يتجنبون رأس المال المغامر تأسيس شركات تكنولوجية ناجحة توازن بين حافز الربح وأخلاقيات الخدمة العامة. ولكن بيئة العمل التي حققت فيها كريغزليست الشهرة أول مرة وسبقت شركات التكنولوجيا العملاقة، التي تهيمن على الإنترنت اليوم من خلال الاستحواذ على منتجات المنافسين ونسخها، كانت بيئة أكثر ملاءمة للشركات الخاصة ذات التوجه الهادف. في حال انتظرنا مؤسسي الأعمال المحسنين لتحقيق بيئة عمل تكنولوجية مثالية، فقد ننتظر وقتاً طويلاً جداً.
قد توفر المنصات غير الربحية نموذجاً آخر لرواد الأعمال الذين يرغبون في إعطاء الأولوية لرفاهة المستخدمين وليس لمصالح المستثمرين. تأسست منصة أمارا (Amara) غير الربحية للترجمة وكتابة التعليقات والترجمة على مقاطع الفيديو في عام 2011. تتيح خدمة أمارا أون ديماند (Amara On Demand) للعملاء الدفع للعاملين في جميع أنحاء العالم لترجمة المحتوى الخاص بهم ووضع الترجمة على المحتوى. تدفع أمارا أجوراً أعلى من العديد من منصات العمل الرقمية الهادفة للربح (يمكن للعاملين ذوي الخبرة في الولايات المتحدة أن يكسبوا 15 دولاراً في الساعة) لأنها تحررت من إلزامية تحقيق أقصى قدر من الأرباح. على عكس المنصات الشهيرة مثل ميكانيكال تورك (Mechanical Turk) التابعة لأمازون، تتيح منصة أمارا أون ديماند للعاملين التواصل فيما بينهم والتعاون في المشاريع.
تعد تعاونيات المنصات من البدائل الأخرى لنموذج عمل رأس المال المغامر. فالأعمال التجارية التعاونية يديرها العاملون الذين يعتمدون عليها في الحصول على دخلهم إدارة جماعية، ولا يديرها مستثمرون ومجالس إدارة ومسؤولون تنفيذيون خارجيون. ومن أمثلة المنصات التعاونية منصة أب آند غو (Up & Go) التي تتيح للعملاء في مدينة نيويورك طلب خدمات تنظيف المنازل. أُسست منصة أب آند غو بدعم من مؤسسة محلية غير ربحية ساعدت شركة تعاونية قائمة لا تعمل على الإنترنت على بناء واجهة حجز رقمية لمنافسة المنصات الممولة من رأس المال المغامر لخدمات التنظيف مثل منصة هاندي (Handy). تُدفع نسبة 95% من الإيرادات التي تحققها منصة أب آند غو للعاملين، وجميعهم تقريباً من النساء اللاتي هاجرن إلى الولايات المتحدة من أميركا اللاتينية. تُستثمر الـ 5% الأخرى في دعم تطبيق المنصة. يبلغ متوسط أجور العاملين 22.25 دولاراً في الساعة؛ أي أعلى من المتوسط المحلي بنحو 5 دولارات في الساعة. ولأن تعاونيات المنصات مسؤولة أمام العاملين وليس المستثمرين، فهي تبتكر بطرق تؤدي إلى استقرار دخل العاملين وزيادته. ولكن هذه الشركات تواجه تحديات عدة أيضاً، فالعديد منها يواجه صعوبة في العثور على تمويل أولي لإطلاق المنصات واستقطاب العملاء في الأسواق التي تهيمن عليها الشركات القوية القائمة.
كل النماذج المذكورة -الملكية الخاصة والمؤسسات غير الربحية وتعاونيات المنصات- لها مواطن قوة وحدود عندما يتعلق الأمر بقدرتها على تحويل قطاع التكنولوجيا، لكن القاسم المشترك بينها جميعاً هو إمكانية الحد من اعتماد رواد الأعمال على التمويل الخارجي، الذي يتسبب بالسيطرة الخارجية على مشاريعهم. صُممت شركات التكنولوجيا المدعومة برأس المال المغامر من أجل التوسع، إذ تنمو بأسرع ما يمكن من خلال دمج مجموعة كبيرة من المستخدمين ذوي الاحتياجات والاهتمامات المتنوعة في نظام حوسبة واحد. علاوة على ذلك، فإن شركات رأس المال المغامر ملزمة قانوناً بتعزيز المصالح المالية للشركاء المحدودين في صناديقها الاستثمارية وليس مراعاة احتياجات أصحاب المصلحة الآخرين. عندما يمتنع خبراء التكنولوجيا عن التفكير في التوسّع، يصبحون أكثر قدرة على التصدي للأسباب الهيكلية لعدم المساواة، حيث يُعامل المستخدمون باعتبارهم أشخاصاً وليس وحدات قابلة للتبديل، وتتوزع السلطة ولا تغدو مركزية، ما يفسح المجال أمام المشاركة وتضافر الجهود بدرجة أكبر.
يتعاون الباحثون والناشطون لبناء البنية التحتية الفكرية والقانونية التي يمكن أن تساعد مؤسسي الشركات الناشئة على التطلع إلى ما هو أبعد من المخارج المربحة عبر عمليات الاستحواذ على الشركات والاكتتابات العامة الأولية في البورصة. ويرى المناصرون أن على المؤسسين التفكير في "التوجه إلى المجتمع" من خلال تحويل مؤسساتهم إلى شركات أو صناديق ائتمانية أو تعاونيات أو مؤسسات غير ربحية تدار ديمقراطياً. يمكن للمستهلكين والعاملين والنشطاء والحكومات أن يغيروا نموذج رأس المال المغامر، الذي يستحوذ فيه طرف واحد على فوائد الابتكار التكنولوجي كلها، من خلال تشجيع الشركات ذات هياكل الملكية البديلة والاستثمار فيها. وبذلك، يمكننا إنشاء بيئات عمل لمنصات محلية أصغر حجماً وأكثر تخصصاً وأكثر استجابة لمستخدميها وللمجتمعات التي تعمل فيها.
فالهيئات الفيدرالية مثل إدارة المشاريع الصغيرة، ومؤسسة العلوم الوطنية، ووزارة الدفاع، بالإضافة إلى العديد من حكومات الولايات، تقدم منحاً وقروضاً لرواد الأعمال لدعم عدة أهداف مثل الأمن القومي والتنمية الاقتصادية. تستخدم هذه البرامج الحكومية أموال دافعي الضرائب لمساعدة المؤسسين على استثمار أفكارهم وخلق ثروة خاصة. يمكن أن تتطلب هذه البرامج من رواد الأعمال الذين يقبلون التمويل الحكومي الالتزام بدعم المصلحة العامة من خلال وضع حد أقصى للأسعار أو وضع ترتيبات لتقاسم الأرباح. كما يمكن تصميم أدوات الاستثمار المملوكة ملكية عامة لإتاحة الفرصة للمواطنين للتعبير عن آرائهم في توجهات التغيير التكنولوجي. يمكن للسلطات البلدية التي تدعم حاضنات أعمال التكنولوجيا أن تصبح شريكة في حقوق ملكية الشركات التي تستفيد من دعمها، بحيث تعود بعض الأرباح التي تدرّها إلى الخزينة العامة. في مقاطعة كيبيك الكندية، أنشأت النقابات العمالية صناديق رأس المال المغامر الخاصة بها لدعم رواتب العاملين التقاعدية، حيث تقدم حقوق الملكية فقط للشركات الناشئة التي يمكنها اجتياز التقييم الاجتماعي الذي يشمل ظروف عمل الشركة وعلاقات الموظفين مع الإدارة والصحة والسلامة في بيئة العمل. لا يمكن لأي من هذه البدائل بمفرده أن ينافس هيمنة رأس المال المغامر، ولكن اعتماد استراتيجيات كهذه على نطاق واسع يمكن أن يفسح المجال لممارسات وأفكار جديدة حول تمويل الابتكار التي توزع فوائد التغيير التكنولوجي بطريقة أكثر إنصافاً.
كما يمكن للمجتمعات أن تدعم نماذج عمل وبيئات عمل مؤسسية بعيدة عن نموذج رأس المال المغامر من خلال الحد من تأثير رأس المال المالي على الابتكار. أدت التغييرات في السياسات العامة التي سُنّت أواخر السبعينيات إلى زيادة كبيرة في قطاع رأس المال المغامر، مثل القوانين التي سمحت لمدراء الرواتب التقاعدية الخاصة بإدراج استثمارات عالية المغامرة في محافظهم الاستثمارية والتخفيضات الكبيرة في معدل ضريبة الأرباح الرأسمالية. قد يؤدي التراجع عن هذه السياسات إلى إفساح المجال أمام جهات فاعلة أخرى لتمويل نمو الشركات الناشئة والاستفادة منها. ثمة تعديل بسيط ومباشر: إذا ألغى المشرّعون "ثغرة الفائدة المحمولة" من قانون الضرائب، فإن العمولات التي يدفعها المستثمرون لشركات رأس المال المغامر ستخضع للضريبة باعتبارها دخلاً لا أرباحاً رأسمالية تخضع لمعدل ضريبي أقل.
كما يمكن للتشريعات والقوانين والإجراءات القانونية وقوانين مكافحة الاحتكار التي تهدف إلى تعزيز حقوق العاملين وكبح نفوذ شركات التكنولوجيا المهيمنة أن تهيئ الظروف الملائمة لتوجهات أخرى. فعلى سبيل المثال، رفعت إدارة الرئيس بايدن دعاوى لمكافحة الاحتكار بقوة بهدف التصدي لتراكم القوة الاقتصادية لدى الأطراف الاحتكارية الكبيرة في قطاع التكنولوجيا. بوسع المشرعين دعم تشريع جديد يضمن عدم استخدام الشركات للتكنولوجيات الجديدة ذريعة لانتهاك حقوق العاملين. لا تهدف هذه الحلول المقترحة إلى الحد من الابتكار، ولكنها تحاول ضمان تقاسم المكاسب الناتجة من الابتكار على نطاق أوسع.
في الوقت الذي تفترض فيه السردية السائدة حول التكنولوجيا أن الخوارزميات والذكاء الاصطناعي وحدهما يقودان التغيير، يساعدنا التركيز على دور رأس المال في هيكلة أنشطة شركات التكنولوجيا على التذكير بأن مسائل التصميم التكنولوجي هي في الواقع مسائل تتعلق بالاقتصاد السياسي؛ أي بمن يملك سلطة وضع جداول الأعمال وتوزيع الموارد، ومن يتحمل المخاطر ومن يجني الثمار. حتى أكثر خبراء التكنولوجيا موهبة وحسن نية غير قادرين على تطوير أنظمة قادرة على التغلب على هذه الظروف الاجتماعية. عندما نراقب توظيف الخوارزميات وأنظمة الذكاء الاصطناعي وتلقيها دون أن نضع رأس المال نصب أعيننا، فإننا نهمل تأثيراً مهماً على مستقبلنا التكنولوجي ونحد من تخيلنا لسيناريوهات أخرى.