يرى المفكر الجزائري مالك بن نبي أنه "لا يمكن أن نتصور نجاح خطة اقتصادية ونقتنع بأرقام وإحصائيات وأدوات مادية، إن لم يكن إنجازها آخذاً في الاعتبار قيمة الإنسان".
تجسد هذه الرؤية أساس فكرة الاستدامة (Sustainability) التي تضيف إلى المعادلة الاقتصادية بعداً إنسانياً، وقد تبنَّت الدول والمنظمات وعلى رأسها منظمة الأمم المتحدة هذه الفكرة، حيث وضعت الأمم المتحدة خطة تحولية تنطلق من هذا المفهوم، عنوانها: "تحويل عالمنا: خطة التنمية المستدامة لعام 2030" تضم سبعة عشر هدفاً تنطلق من ثلاث عناصر: البيئة، والاقتصاد، والمجتمع، سعياً لحماية الموارد الطبيعية، والحد من التلوث والتغيرات المناخية، والحفاظ على النمو الاقتصادي، وتعزيز العدالة الاجتماعية، وتحسين جودة الحياة، دون الإضرار بالبيئة أو المجتمعات.
وعليه، تتبنى المملكة العربية السعودية فكرة الاستثمار المستدام (Sustainable Investment)، وتقدم التمويل الحكومي والدعم للمشاريع المستدامة، أولاً بدعم صناديق التنمية الوطنية التي تهدف إلى الاستدامة المالية في قطاعات معينة، ثم بتوفير المُمَكّنات اللازمة عبر الاستثمار الأمثل، ودعم البرامج، والدراسات، والمبادرات، مثل: صندوق التنمية الزراعي، وصندوق البيئة.
وتماشياً مع رؤية المملكة 2030، أولى صندوق الاستثمارات العامة أهمية بالغة لقطاع الطاقة المتجددة، وذلك بإنشاء مشاريع الطاقة، وتمويلها، ملتزماً بتطوير 70% من مشاريع المملكة للطاقة المتجددة. ولضبط آلية التمويل وتحديد المشاريع المؤهلة للحصول عليه، أصدر الصندوق إطار عمل للتمويل الأخضر، ووفقاً للتقرير السنوي لصندوق الاستثمارات العامة 2023، فإن إجمالي المبلغ الذي جمعه الصندوق من السندات الخضراء كان 8.5 مليار دولار أميركي (31.9 مليارات ريال)، استثمر منه حتى صدور التقرير 1.3 مليار دولار أميركي (4.9 مليارات ريال سعودي) في تمويل 35 مشروعاً من المشاريع الخضراء.
ونتيجة لوعي المستثمرين المتزايد بقضايا الاستدامة، وأهميتها، شهدت السنوات الأخيرة تحولاً واسع النطاق في منظومة ريادة الأعمال وإدارة الأصول بما يتوافق مع معايير الاستدامة البيئية، والاجتماعية، والمؤسسية، إلا أن روّاد الأعمال والشركات الناشئة التي تتبنى مفهوم الاستدامة يواجهون تحديات أعلى في التمويل مقارنة بالشركات الناشئة التقليدية؛ لأن تكلفة المشاريع التي تحقق معايير الاستدامة مرتفعة جداً، فضلاً عن أنها محفوفة بالمخاطر، ومن هنا برزت الحاجة إلى استثمارات ضخمة في الشركات المستدامة التي تحقق نتائج متكاملة في معالجة تحديات الاستدامة العالمية الاقتصادية، والبيئية، والاجتماعية.
هل الاستثمار الجري ملائم للاستدامة؟
يعرّف الاستثمار الجريء بأنه "صناديق رأس مال مخصصة ومدارة بطريقة مستقلة، تركز على الاستثمارات في الأسهم، أو الاستثمارات المرتبطة بالأسهم في شركات خاصة واعدة"، أي أنه يعمل وسيطاً بين المستثمرين المؤسَّسيين ورواد الأعمال، من أجل توفير التمويل لرواد الأعمال من المستثمرين، وإدارة الاستثمار في الشركات الواعدة العالية المخاطر (شكل 1 يوضح آلية هيكلة صناديق الاستثمار الجريء وسيطاً بين المستثمرين المؤسسيين ورواد الأعمال)، فيجمع المستثمرون الجريئون الأموال من مجموعة من المستثمرين المؤسّسيين (مثل: أوقاف الجامعات، وصناديق التقاعد، وشركات التأمين) عبر صناديق الاستثمار الجريء؛ لإجراء استثمارات انتقائية عالية المخاطر والعوائد، في محفظة تتكون من مجموعة من الشركات الناشئة، وتمثل هيكلة هذه الصناديق شراكات محدودة، عادة ما تكون مدتها 10 سنوات.
الشكل 1: هيكل شركات الاستثمار الجريء
الشكل مستوحى من دِراستَيّ (Gompers & Lerner, 2004; Rin et al., 2013)
ويتضح مما سبق أن الاستثمار الجريء يتميز بميزتين تجعلانه ملائماً للاستثمار المستدام، الأولى أن طبيعة عمل صناديق الاستثمار الجريء تتناسب مع طبيعة المشاريع المستدامة الناشئة ذات التكلفة العالية والعوائد البعيدة المدى، حيث تتمتع صناديق الاستثمار الجريء بفترة إغلاق طويلة، ولا يتوقع المستثمر فيها عائداً سريعاً على الاستثمار، والثانية أن الاستثمارات في مشاريع الاستدامة الناشئة تنطوي عادة على مخاطر كبيرة، ويتخللها التذبذب وعدم تماثل المعلومات، لكن المستثمرين الجريئين يسهمون في حماية الاستثمار من خلال إدارتهم النشطة، وآليات المراقبة المستمرة، واستراتيجية التمويل على مراحل، وقد أثبتت الدراسات قدرة الاستثمار الجريء على تنمية الشركات الناشئة في فترة وجيزة، ورفع قيمتها السوقية، وزيادة فرص العمل والابتكار.
وبخلاف شركات الاستثمار الجريء التقليدية التي تركز على العوائد العالية فقط، فإن شركات الاستثمار الجريء المستدامة تستثمر في الشركات الناشئة التي تلتزم بممارسات بيئية واجتماعية وحوكمة مؤسسية جيدة، وبهذا تؤدي دوراً بارزاً في معالجة تحديات الاستدامة، وتحقيق أبعادها الثلاثة. وقد وجدت دراسة حديثة منشورة في مجلة استراتيجية الأعمال والبيئة (Business Strategy and the Environment) أن الاستثمار الجريء المستدام حقق أهداف التنمية المستدامة بمستوى عالٍ على النواحي الاقتصادية والبيئية والاجتماعية والحوكمة.
كيف نواجه تحديات الاستثمار الجريء المستدام؟
وفقاً لتقرير تأثير الاستثمار لرأس المال الجريء في منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا، فقد بلغ حجم الأموال الممولة من صناديق الاستثمار الجريء في الشركات الناشئة المستدامة (ذات الأثر) في الشرق الأوسط 444 مليون دولار أميركي (1.7 مليار ريال) في 403 صفقات بين عامي 2016 و2021. وعلى الرغم من ذلك فما زال هناك تصور سائد بأن الاستثمار الجريء المستدام أقل عوائد وأكثر خطورة مقارنة بالاستثمار الجريء التقليدي؛ نظراً لأن الاستثمار المستدام أقل سيولة ويتطلب الاحتفاظ بالأصول الاستثمارية لفترات طويلة، فضلاً عن محدودية فرص الخروج منه، ووجود أعباء مالية إضافية قد تتكبدها الشركة الناشئة للامتثال بمتطلبات الاستدامة السائدة، ما قد يبعد المستثمرين عن الاستثمار الجريء المستدام.
لكن هناك بعض الممارسات التي يتوقع أن تعزز نجاح مشاركة الاستثمار الجريء في الاستثمار المستدام، منها:
- وضع شروط لإدارة صندوق الاستثمار الجريء بفعالية، مثل المبادرات التي أنشئت لتوحيد معايير الممارسات البيئية والاجتماعية والحوكمة، وتحسينها، وتعزيزها لمساعدة الشركات الناشئة على دمجها في عملياتها الاستثمارية، فقد قدمت شركات الاستثمار الجريء مناهج لدمج هذه المعايير في عملية اتخاذ قرارات تحليل الاستثمار على سبيل المثال: (500 Startups).
- تقييم الفرص الاستثمارية من خلال الممارسات البيئية والاجتماعية وحوكمة الشركات، فقد طورت بعض المنظمات أطراً موحدة وشاملة؛ لقياس مدى التزام المؤسسات والشركات الممولة من الاستثمار الجريء بالممارسات المستدامة على سبيل المثال: (VentureESG)، (ESG_VC) كما وضعت رابطة الشركاء المحدودين المؤسسيّة (Institutional Limited Partners Association) إطار عمل لتقييم الممارسات البيئية والاجتماعية والحوكمة للأطراف المستثمرة؛ وهذا من شأنه أن يزيد الموارد وتخصيصها بكفاءة لخدمة قضايا الاستدامة.
- تغيير السياسات والشروط والأطر التي تحكم الاستثمار الجريء المستدام من الممارسات التي لها أثر إيجابي على نجاح الاستثمار الجريء المستدام ودعمه؛ على سبيل المثال قد يشجع تطوير النظام الضريبي النشاط الريادي والاستثمار الجريء المستدام على الاستثمار من خلال تقديم إعفاءات ضريبية للشركات الناشئة المستدامة، وتقديم الحوافز والتسهيلات في العقود الإدارية، والإجراءات التنظيمية.
- إصلاح الأنظمة لتصبح أكثر مرونة، سيتيح للمستثمرين بيع الشركات الناشئة المستدامة التي قاموا بتنميتها عبر عمليات الاندماج، أو الاستحواذ، أو الاكتتاب العام، وهذا من شأنه أن يشجع عدداً أكبر من رواد الأعمال الناشئين على دخول مجال الاستثمار المستدام، وهو ما فعلته شركة السوق المالية السعودية "تداول" عندما أطلقت السوق الموازية (نمو) عام 2017، وأتاحت للشركات الصغيرة والمتوسطة إدراج أسهمها للاكتتاب بسهولة وسرعة، ما خفّض المخاطر المرتبطة بالاستثمار في الشركات الناشئة، ووفَّر مخرجاً واعداً لشركات الاستثمار الجريء. كما يمكن أن يسهم توحيد المعلومات المتعلقة بإفصاح الشركات المساهمة عن الاستدامة في الحد من مخاطر الاستثمار الجريء المستدام من عدم الاكتمال، والتناقض، وعدم التوافق في الإفصاح عن الممارسات البيئية والاجتماعية والحوكمة.
- رفع الوعي بأهمية الاستثمار الجريء المستدام، والتعريف بتطبيقاته في مراحل التمويل المختلفة، من شأنه أن يزيد من تبنيه على نطاق أوسع، ويمكن تحقيق ذلك من خلال إطلاق برامج تعليمية مصمّمة بعناية وموجهة لأصحاب المصلحة في منظومة ريادة الأعمال، وتنظيم جلسات تدريب مهنية تستهدف المهنيين والخبراء، وتحديث المناهج الجامعية لتصبح مخرجات التعليم متوافقة مع متطلبات سوق العمل.
إذاً، يمكن للاستثمار الجريء أن يتجاوز تحديات الاستثمار المستدام، ولاسيما إذا ما وضعت الأطر اللازمة لضبط معايير ممارسات الاستدامة وتقييمها، مع تيسير الأنظمة الإدارية والإجراءات التنظيمية التي تحكم سوق العمل. ففي ظل سعي الدول إلى تحقيق الاستدامة، وسعيها في المقابل إلى دفع عجلة الاقتصاد وتنميته، ودعم المنشآت الصغيرة والمشاريع الناشئة، فإن الاستثمار الجريء الذي أثبت جدواه في الأمرين (دعم المشاريع الناشئة، وتحقيق أهداف التنمية المستدامة)، قد يعد الخيار الأمثل للاستثمار في المشاريع المستدامة، والجمع بين البعدين الاقتصادي والإنساني -الذي هو جوهر الاستدامة-، وتحقيق نتائج باهرة في ذلك.